الأكل «نعمة» حولناها إلى «خناقة» - هنا أبوالغار - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 4:08 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الأكل «نعمة» حولناها إلى «خناقة»

نشر فى : الإثنين 7 مايو 2018 - 10:05 م | آخر تحديث : الإثنين 7 مايو 2018 - 10:05 م

الأكل نعمة من نعم الحياة، الطعم والرائحة ولون الأكل وشكله والإحساس بالشبع بعد الجوع كلها مصادر للمتعة والسعادة، خاصة فى الأطفال حيث يأخذ الأكل مساحة كبيرة من يومهم وطاقتهم. يهتم الأبوان بأكل أطفالهما كثيرا ليس فقط لإحساسهما بالمسئولية تجاه هذا الكائن قليل الحيلة المعتمد عليهما تماما فى كل شىء، ولكن أيضا لقلقهما على نموهم الطبيعى ورغبة منهما فى تحقيق «أداء متميز» فى «سباق التربية» القائم فى مجتمعنا. وبالرغم من اهتمام الأسرة المصرية المفرط بالأكل مازال أطفال مصر يعانون من التقزم (قصر القامة) فى ٢٣٪ من أبنائها، وفقر دم ونقص حديد يتراوح ما بين ١٧ و ٢٥ ٪ من أطفالنا، وسمنة ٣٣ إلى ٤٢٪، وكلها نسب تختلف مع اختلاف النوع والعمر لكنها بالنسبة للمعدلات العالمية عالية جدا وتدل على أن لدينا فى مصر كارثة صحية تهدد مستقبل أبنائنا، حقيقة أن جزءا منها سببه الفقر وقلة الموارد الغذائية لكثير من الأسر المصرية، لكن إصابة الأسر الأكثر حظا بنفس الأمراض تدل على أن مفهوم الأسرة المصرية عن تغذية الأطفال مغلوط.

مثلث «سوء التغذية» و«نقص المعادن» و«السمنة» هو ظاهرة جديدة فى العالم، تهدد أطفال العالم المتقدم وليس فقط العالم النامى. وتنتج عن سد الجوع بأنواع من الأكل الرخيصة عالية الطاقة قيمتها الغذائية قليلة، فأصبح الطفل وزنه مناسبا لسنه أو أعلى من المناسب لسنه (فبدا وكأن العالم تغلب على المجاعات)، لكن نمو الطفل سيئ فلا يصل إلى الطول المتوقع بالنسبة لجيناته ولا ينمو عقله ولا جهازه المناعى بالشكل المطلوب، فيعانى من سمنة مع أنيميا ونقص مناعة وأحيانا قصر قامة أو تقزم. وقد ظهر هذا الثلاثى فى الدول المتقدمة بسبب الوجبات السريعة الجاهزة والمعجنات والعصائر المعلبة، والتى أصبحت متوفرة للأطفال وصوب أعينهم أينما ذهبوا فيطلبونها لشكلها المغرى أو طعمها المصطنع عالى السكر، أو لتأثرهم بالإعلانات التليفزيونية والتى تأخذ منتجات الأكل الموجهة للأطفال مساحة كبيرة جدا من مدة المشاهدة.

***

مازلنا كأبوين نهتم بكمية أكل الطفلة ونقيس صحتها بوزنها ونقارنها بأقرانها، ومازالت أكبر شكوى يسمعها طبيب الأطفال تدور حول شهية الطفل ورغبته فى الأكل. وقد تطورت التوصيات فيما يخص تغذية الرضع سواء كانت رضاعة طبيعية أو كانت الطفلة ترضع لبن صناعى، وهى مبنية على فكرة «التفاعل» مع الطفلة «Responsive feeding»، هذه الطريقة فلسفتها أن الأكل من أول الرضاعة حتى لحظة إدخال الأكل الصلب فعل بالأساس اجتماعى، فهو لحظة تواصل إنسانى، يحتاج فيها الأم والأب أن يفهما اللغة غير المنطوقة للرضيعة، فالطفلة تعبر عن احتياجاتها بفمها ويديها وحركات رأسها والتى نفهم مع الوقت منها أنها جائعة أو تريد النوم أو اللعب. وبالتالى من المهم أننا وقت الأكل أيا كان نلتفت إلى احتياجات الطفلة، فلا نجبرها عليه إذا ما أحست بالشبع لأن هذا يحوله من نعمة ومتعة إلى صراع وخناق، كما أنه مع الوقت يعلمها ألا تلتفت إلى إشارات الشبع التى تأتيها من المخ والتى تحميها من السمنة فى الكبر.
دخول الأكل الصلب للرضع يكون بعد ستة أشهر من الرضاعة الطبيعية الخالصة، ويحدد للوجبات مواعيد خاصة بها (إفطار، غداء، عشاء) وهو أمر يعنى أن مواعيد النوم يجب أن تكون مناسبة للطفل، فعادتنا فى السهر لا تتناسب مع التربية السليمة ولا مع النمو الذى يعتمد على إفراز هرمونات أثناء النوم فى فترة الليل، وهى هرمونات يقل إفرازها أثناء النهار حتى لو طالت فترة نوم الطفل أثناءها. من المهم أن تتكرر مواعيد الأكل يوميا ويفضل نفس المكان حتى ندرب الساعة البيولوجية على الجوع فيبدأ الطفل يطلب الأكل بدلا من أن نفرضه عليه.
تحويل أوقات الأكل إلى فعل اجتماعى جزء مهم من التربية الإيجابية، فالتواصل البصرى (eye contact) مع الطفل والتعامل مع لحظات الأكل بهدوء أعصاب ومرح مهم جدا ليرتبط الأكل فى ذهن الطفل بالسعادة والرضا، وضع الأكل على طرف اللسان ليتذوقه بدلا من إدخال الملعقة الصلبة فى فمه فيحرمه من نعمة الاستطعام ويبدأ فى مقاومة الملعقة. يجب أن نعطى الطفل الفرصة للتعامل مع الأكل مباشرة حتى لو يعنى هذا المزيد من المجهود فى تنظيف آثاره. فتشجيع الطفل على استكشاف الأكل، ملمسه، طعمه، لونه، واستكشاف أدوات الأكل من ملعقة وكوب، واكتساب مهارات التعامل مع هذه الأدوات، كلها مراحل مهمة فى بناء علاقة سليمة بالأكل.

للأسف فإن ثقافة الأكل تغيرت كثيرا، ليس فقط فى مصر وإنما فى العالم كله، فقد تخلينا عن مواعيد الأكل، ومكانه، وانهارت فكرة الوجبة الأسرية والتى تؤكد الأبحاث أن الحفاظ عليها يقلل مشكلات السمنة وقلة الشهية. وقد زادت المشكلة مع إدخال الشاشات بأنواعها فى حياتنا، فانتقلت الوجبة العائلية ــ إذا حدث أن اجتمع فردان من الأسرة على موعد واحد للأكل أصلا ــ إلى حجرة الجلوس حيث التليفزيون، أو انتقل التليفون أو التاب إلى حجرة السفرة ليمسك كل فرد فى الأسرة بشاشته الخاصة أثناء الوجبات. بل إن كثيرا من الأسر تستخدم الشاشة لإلهاء الطفل أثناء الوجبات وكأن الأكل نقمة نحتاج إلى إلهائنا عنها، ففقد أبناؤنا إحساس المتعة بالأكل، كما فقدوا القدرة على الاستماع إلى أجسامهم وهم منغمسون فيما يشاهدونه على الشاشة، فلا يدركون لحظة الشبع التى معها يجب التوقف عن الأكل لنتفادى السمنة.
***
استبدلنا المياه بالعصائر المعلبة فى أسوأ الأحوال واللبن والعصائر الطازجة فى أفضل الأحوال كمصدر للسوائل، فاعتاد الطفل على المشروب عالى السكر والطاقة كمصدر للارتواء، فى حين أن الأبحاث أثبتت أن هذه العادة هى من أهم أسباب السمنة فى الأطفال، فالفاكهة تؤكل ولا تشرب لنأخذ منها فائدتها كاملة.
مصر لديها مطبخ رائع وصحى، فأكلاتنا التقليدية عالية القيمة الغذائية بما تحويه من بقول وخضار وفاكهة، وهى كافية لتغذية سليمة لأطفالنا إذا ما أضفنا إليها وجبتين من البروتين الحيوانى فى الأسبوع، ولا نحتاج سوى أن نعود إلى العدس والفول والطعمية والكشرى والبصارة والحمص والطحينة والمحشى والخضروات المطبوخة بالطماطم...إلخ مع شرب المياه بين الوجبات، حتى تعود إلينا صحتنا، وإذا كنا فى الشارع ومضطرين لأكل سريع فأمامنا البطاطا والذرة المشوى والشاورما وكلها متوفرة وصحية.
فكرة التغذية «التفاعلية» هى أحد أركان «التربية الإيجابية» فهى لحظة نبنى فيها علاقة مع أبنائنا معتمدة على التفاهم والديمقراطية، بعيدا عن فرض الرأى والاستبداد تحت مسمى «مصلحتهم»، وهى الأداة التى بها يتعلم الطفل كيف يفهم جسمه ويلبى احتياجاته فيتفادى سوء التغذية والسمنة معا.
«استمعوا إلى أبنائكم وافهموهم، فكثيرا ما يكونون أدرى بمصلحتهم حتى الرضع منهم».

هنا أبوالغار أستاذ طب الأطفال بجامعة القاهرة
التعليقات