هل هى نهاية تاريخ المادية؟ - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 7:58 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

هل هى نهاية تاريخ المادية؟

نشر فى : الإثنين 7 يوليه 2014 - 7:05 ص | آخر تحديث : الإثنين 7 يوليه 2014 - 7:05 ص

تستدعى صياغة إستراتيجية للتنمية تحدد مكانة الدولة فى عالم يمر بمرحلة تعولم غير مسبوقة، التعرف على أبعاد الاختلاف عن المفاهيم التى سادت حول العوامل الحاكمة لمراحل تطور حياة البشر عقب ختام صراع الإنسان مع عوادى الطبيعة، ودراسة كيفية تنظيم لتجمعاته والعلاقات التى ربطت بين أعضائها وفيما بينها فى ظل تعامله مع الموارد التى توفرت فى البيئة المحيطة به.

•••

وحتى عهد قريب كان المفكرون يميزون بين طورين رئيسيين وفقا للأنشطة الحاكمة فى تعامل الإنسان مع الموارد الطبيعية: الأول هو الذى تَمكّن فيه الإنسان من التعرف على كيفية تطويعها لكى تتخذ صورة تصلح لإشباع حاجاته الاستهلاكية الأساسية، معتمدا على القطاعات الأولية المرتبطة بالطبيعة، أى الأرض والمناخ، وتضم الزراعة بفروعها النباتية والحيوانية والسمكية، والأنشطة الاستخراجية التعدينية والمنجمية. وكان عليه أن يسعى للعيش فى المناطق التى تتوافر فيها بصورة يسهل عليه الحصول على حاجاته بأقل قدر من المشقة. وعبّر عن ذلك العالم الحضرموتى ابن خلدون، فى كتابه «المقدمة» الذى وضع أسس العلوم الاجتماعية منذ أكثر من تسعة قرون بقوله «إن الاجتماع الإنسانى ضرورى.. وأن الإنسان.. لابد له من الاجتماع الذى هو.. معنى العمران». وفسر ذلك بضرورة ما أصطُلح على تسميته «تقسيم العمل» كأساس للنشاط الاقتصادى، وما يترتب على اختلاف الظروف الطبيعية من «تقسيم عمل دولى» يتم فيه تبادل بين مناطق تختلف منتجاتها مع اختلاف الظروف البيئية، مما أكسب أهمية للتبادل التجارى بين الأقاليم الباردة فى أوروبا والحارة فى أفريقيا وآسيا. وشاعت مقولة (حديث شريف يعتقد أنه ضعيف) أن «تسعة أعشار الرزق فى التجارة».

أما الطور الثانى فقد اقترن بالثورة الصناعية التى قامت عندما تعمق الإنسان فى المعرفة، فاستطاع أن يكتشف فى المواد الطبيعية صفات تجعلها صالحة لمساعدته فى نشاطه الإنتاجى ليتوصل به إلى طيبات استهلاكية تحتاج إلى المرور بعمليات إنتاجية متعاقبة، فاحتلت القطاعات الثانوية، وعلى رأسها الصناعات التحويلية موقع الصدارة، بما تتضمنه من إنتاج واستخدام آلات ومعدات رأسمالية، ووقود مصنّع يولد لها مصادر للطاقة المحركة، ومنتجات وسيطة ذات روابط متشابكة، يجرى التعامل معها فى مناطق تجمع حضرية، وتغذيها خدمات أكثر تطورا، فى مقدمتها التوسع فى التعليم والتدريب من أجل إعداد البشر لتخصصات لم تكن معروفة من قبل.

•••

ثم جاء دور القطاعات الثالثية وهى الخدمات التى طورتها الثورة التكنولوجية فى شكل طفرة فى خدمات المعلومات والاتصالات، أعقبت الحرب العالمية الثانية، لتبدأ ما أطلق عليه الكاتب الأمريكى ألفين توفلر فى 1980 «الموجة الثالثة» فى كتابه المعنون بهذا الاسم. وقد أحلت «المعرفة» محل رأس المال المادى فى السيطرة على مقدرات البشر، وبدأ الحديث عن بداية عهد «ما بعد التصنيع».

واستدعى تأمل المفكرين كيفية تجاوب البشر مع تلك التطورات، دافعين لها ومستجيبين لمتطلباتها، إلى اعتبار أن التطور الحضارى هو ناتج عملية مستمرة لإعادة تنظيم العلاقات الاجتماعية بين البشر فى سعيهم لإنتاج وإعادة إنتاج المواد اللازمة لبقاء الجنس البشرى على قيد الحياة. ويتناول هذا، التغييرات التى تطرأ على العلاقات بين طبقات المجتمع الواحد، وعلى العلاقات بين المجتمعات المختلفة. ويعتمد التفسير على بواعث التصرفات التى تدفع الأفراد والجماعات إلى السعى لتملك المزيد من الموارد التى تزود الإنسان بأدوات إشباع حاجاته، وإلى إكسابها صفات تزيد من قدرتها على ذلك الإشباع. فبالنسبة للطور الأول فإن تملك الموارد الطبيعية وتوظيفها لخلق طيبات الحياة يحدد الوضع الاجتماعى لصاحبه. وقد أدى ذلك إلى تميز طبقة ملاكها واستحواذهم على النصيب الأكبر من عائد توظيفها، وهو ما عزز قدرتهم على تملك المزيد وحرمان المعدمين الذين يضطرون للعمل للحصول ما يبقيهم عند حد الكفاف. وقامت المجتمعات على أسس طبقية، يتحكم فيه الإقطاعيون. وتكرر الأمر فى الموجة الثانية، فانتقلت السيطرة إلى الذين يسعون إلى توجيه ما يتراكم لديهم من مدخرات إلى امتلاك السلع الرأسمالية، يوجهونها إلى أنشطة تضاعف أرباحهم. وزادت قوة هؤلاء بسبب قدرتهم على نقل رءوس أموالهم من نشاط إلى آخر ومن مكان إلى آخر. وترتب على ذلك فى الحالتين صراع من أجل الاستحواذ على مصادر الثروة المادية، وتشغيلها فيما يضاعف نصيبهم من القيمة الفائضة، وحرمان الغالبية المعدمة من عائد يتناسب وما بذلوه من جهد، وكان مؤدى ذلك استمرار صراع اجتماعى من أجل السيطرة على مقاليد الأمور فى الدول التى تدير شءون المجتمعات.

•••

وإذا كانت العلاقات تتحدد بين الدول تقوم أساسا على تبادل المنتجات، وتجميع الثروات المترتبة على فوائض تلك المبادلات، فإن الصراع الداخلى امتد إلى صراع خارجى. ففى الموجة الأولى دفعت الرغبة فى امتلاك مزيد من الثروات إلى نشأة الإمبريالية التى تبنى بموجبها إمبراطوريات تغتصب أراضى دول أخرى وتسخر أهلها قى تحويل ناتج جهودهم إلى المركز الإمبراطورى. وتعرضت مصر إلى غزوات عدة، اتخذت فى ختامها شكل الخضوع، مع دول عربية عدة، للإمبراطورية العثمانية، التى لبست عباءة الخلافة الإسلامية التى يفرض فيها الخليفة إتاوات فى شكل خراج وجزية على الولايات التابعة، دون أن يعنى بتنمية شئونها. وعندما زاد نهم الصناعة فى الموجة الثانية لخامات غير متوافرة محلية ولأسواق لتصريف منتجاتها، تحول الأمر إلى كولونيالية، تقوم فيها الدول الصناعية باحتلال أراضى دول ضعيفة ودخلت فيما بينها فى حروب على تلك المستعمرات. ثم حولت ذلك الاستعمار المباشر إلى استعمار جديد غير مباشر، مما أنشأ صراعا جديدا غير متكافئ ما بين الدول الصناعية المتقدمة، والدول التى اعتبرت متخلفة ثم أطلق عليها فى 1960 اسم النامية، فظهرت محاولات من جانب هذه للتنمية بالاعتماد الجماعى على النفس. وساد الاعتقاد بأن التنمية تتم بالإنسان ومن أجله، فاعتبر الإنسان عنصرا إنتاجيا، كما أنه مستهلك يسعى إلى رفع مستوى معيشته.

إلا أن الحقيقة تكشفت مع تقدم الموجة الثالثة، وهى أن التنمية ليست مادية تنصب على متطلبات الحياة ليمارس الإنسان دوره فى طرفيها، كمُدخل فى شكل أداة إنتاج، ثم يتلقف مخرجاتها فى أسواق يتحكم فيها ذوو الدخول الأعلى، بل هى تنمية الإنسان ذاته لكونه هو القادر على امتلاك رأس المال المعرفى الذى يلزم لإدارة شئون مجتمع المعرفة. ولم يعد الدافع للتقدم هو تراكم رأسمال مادى أنتج من قبل، بل ابتكار يضيف إلى ما هو قائم، يتوقف على عطاء إنسان لا بد أن يمتلك القدرة على الإبداع، ومن ثم يجب إعداده للعطاء بدلا من المغالبة من أجل الأخذ. لقد خرجت الموجة الثالثة من قفص المادة لتسكن عقل الإنسان، الأمر الذى يستدعى إعادة النظر فى مفاهيم عديدة، فى مقدمتها التنمية ذاتها، والعدالة الاجتماعية المستدعاة لمعالجة ظلم اقتصادى.

وهذا له حديث آخر، خاصة أن معالم الموجة الجديدة لم تتبلور بعد، وعلينا أن نشارك فى بنائها.

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات