الاكتئاب ليس حزنًا - هنا أبوالغار - بوابة الشروق
الأربعاء 17 أبريل 2024 1:10 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الاكتئاب ليس حزنًا

نشر فى : السبت 7 يوليه 2018 - 9:10 م | آخر تحديث : السبت 7 يوليه 2018 - 9:10 م

الحياة لحظات من السعادة والحزن وما بينهما من مشاعر مختلفة مرتبطة بأحداث وآمال وإحباطات وأحباب نكسبهم ونفقدهم، فى اختلاف مزاجنا مهما كان قاسيا رحمة لأنه يجعلنا أكثر إنسانية ونضجا وأكثر تثمينا لنعم الله علينا.
الحزن يختلف عن الاكتئاب، فهو رد فعل إنسانى لظرف قاسٍ، مؤلم لكنه مؤقت، مثله مثل معظم مشاعرنا، فالوقت وخبراتنا الحياتية وأحبابنا عادة ما يساعدونا على تخطى الحزن. أما الاكتئاب فهو«مرض» يسبب ألما يكاد يكون بدنيا، يختلف المرضى فى وصف مكانه وحدته، ما بين مكان ما فى الصدر أو البطن يصعب الإشارة إليه بوضوح، وكأن بداخلك قبضة تعتصرك (صحيح أنك تستطيع أن تتكلم وتعمل فى وجوده لكنك تفعل ذلك كما يكمل مريض الروماتويد يومه فى وجود ألمه المزمن) ولذلك فالمريض فى هذه اللحظات تتأثر قدراته على الأداء اجتماعيا فيطول صمته أو يتعامل بعصبية أو جفاء مع الآخرين. أحيانا أخرى يكون الألم أكثر حدة كأنه سكين فى الصدر أو الجوف يصعب على المريض تجاهله فيتأوه أو يصرخ أو يبكى أو يحتاج أن يستلقى فى وضع الجنين لتقليل الألم مثل أى مريض يعانى آلاما حادة (تخيل شخصا عنده مغص كلوى مثلا). بعض المرضى يكونون خاليين من الأعراض ما بين النوبات الحادة، وآخرون تبقى الأعراض لديهم أقل حدة ما بين النوبات لكنها تؤثر على جودة حياتهم: الشهية أو القدرة على النوم أو التركيز أو الضيق أو طاقة العطاء والعمل.
أثناء نوبات الاكتئاب تتلون الحياة بألوان المرض فتكبر المشكلات وتبدو غير قابلة للحل، وتزيد حساسية المريض فيفسر كلام أو ردود أفعال الغير تفسيرا سلبيا، ويصبح كل شىء صعبا وثقيلا، فالمريض قد يحس أن الرد على التليفون أو مقابلة أحب الناس إليه أو القيام بأى أعمال منزلية أو مهنية مهما بسطت وكأنها عبء ثقيل. يصاحب هذه اللحظات انهيار فى ثقة الإنسان بنفسه وقدراته وحكمه على المواقف وعلى حب الناس له، ومع زوال الأعراض تبدأ موجة من حساب الذات والندم على كلمة أو فعل قام به أثناء نوبة الاكتئاب قد يهز صورته لدى الآخرين سواء فى محيطه الاجتماعى أو المهنى.
***
التفسير العلمى الأبسط للاكتئاب هو عدم تناغم فى كيمياء وكهرباء المخ، «المايسترو» الذى يتحكم فى معظم أعضاء الجسم، الجينات تلعب دورا فى هذا المرض مثلها مثل كثير من الأمراض، لكن تعرض الإنسان لظروف قاسية سواء كانت جراحا نفسية طارئة لكنها عميقة (وفاة شخص هام فى حياته، التعرض للاعتداء، فشل علاقة هامة، فقد وظيفة…) أو إذا تعرض لضغط نفسى أو حرمان من العاطفة أو الخوف والتهديد لمدد طويلة فإن هذه العوامل تفجر المرض أو تزيد من حدته، بالضبط مثلما تفجر الانفلونزا أو النزلة المعوية أو الضغط النفسى أو مرض السكر أو الروماتيزم لدى شخص حامل للجين.
يعانى ٣٢٢ مليون إنسان فى العالم من مرض الاكتئاب وهو السبب الأول للتقاعد المبكر عن العمل عالميا ومع ذلك فـ١٠٪ فقط من المرضى يحصلون على العلاج، وذلك لقلة الأطباء والأخصائيين النفسيين بالنسبة للكثافة السكانية فى معظم الدول وخاصة الدول النامية، بالإضافة إلى قلة الوعى بالمرض ومقاومة اللجوء إلى الطبيب. تساؤلات كثيرة تطرح نفسها على المريض وذويه ترقى إلى اللوم بسبب خلط الاكتئاب كمرض بالحزن كشعور، منها طول فترات «الحزن» الغير مبررة وعدم قدرة المريض على التمتع بنعم الله عليه وضعفه فى مقاومة «حزنه» والتغلب عليه. هذه الأفكار تولد لدى المرضى بجانب أعراض المرض إحساسا بالضعف والدونية والغضب من أنفسهم، كما أنها تولد ردود أفعال متباينة لدى المجتمع المحيط بهم من حيرة وزهق وقلق.
الاكتئاب يصاحبه أعراض أخرى مثل «القلق المرضى» anxiety و«نوبات الهلع» panic حيث يغمر المريض الخوف والرعب ويبدأ القلب أن ينبض بشكل هيستيرى (أو هكذا يحس) قد يصاحبه عرق شديد أو أرق أو كوابيس. يصعب مع هذه الأعراض التفكير المنطقى، ويتحول إنسان عاقل متعلم دارس وملم بمرضه إلى أسير لإعصار الكيمياء والهرمونات والكهرباء فى عقله، فمهما ذكر نفسه بأن مخاوفه لا منطق لها وأن ألمه سيزول كما زال من قبل وأن حياته مليئة بنعم لا تحصى، فالإعصار أقوى من كل هذا.
أى مرض مزمن سواء كان نفسيا أو بدنيا يؤثر بالتأكيد على المحيطين بالمريض ويرتبط تأثيره عليهم بعنف المرض وطول مدته واستجابته للعلاج، كما أنه مرتبط بقدرة الشخص على تحمل الألم، وبردود أفعال المريض مع أقرب الناس له أثناء النوبة والعبء الذى يشكله عليهم، مجرد التعايش مع شخص نحبه وهو يتألم أمر صعب، وأى مريض روماتيزم أو قلب أو سكر أو اكتئاب يعلم هذا ويتمنى زواله، ويقدر ويثمن تفهم أحبابه لوجعه وإحساسهم به ورغبتهم فى مساعدته حتى لو صعب ذلك.
***
أخيرا الاكتئاب مرض له تشخيص وعلاج، فإن لم يُشف كل المرضى فكثير جدا منهم يتعافون ولذلك فإن الوصمة الاجتماعية التى تصبغ هذا المرض حتى بين الأكثر تعليما وثقافة، وصمة نابعة من عدم فهم أنه «مرض» يحتاج إلى الطبيب والأخصائى النفسى وأحيانا الدواء أو تعلم مهارات مثل اليوجا والتأمل وتمرينات التنفس ومهارات أخرى تساعد المريض على تخطى النوبة، والأهم كثيرا من الحب والتشجيع لمقاومة اليأس.
مثل معظم الأمراض المزمنة فإن الاكتئاب قد يشكل خطورة على حياة المريض فى بعض الحالات، وذلك لأن فى لحظات الألم القصوى يختل العقل مهما كان متزنا وتتغلب على المريض رغبته فى زوال الألم بأى ثمن، واللحظة لو طالت تتحول إلى أفكار شيطانية لا علاقة لها برجاحة عقل المريض ولا عقيدته الحياتية أو الدينية تدفعه دفعا للتخلص من الألم بإنهاء حياته. العالم يفقد 800.000 إنسان سنويا بسبب الانتحار كثير منهم فى الفئة العمرية ما بين ١٥ و٢٩ عاما حيث يعتبر الانتحار السبب الثانى للوفاة (منظمة الصحة العالمية مارس ٢٠١٨).
التوعية تستطيع إنقاذ جزء كبير من هذه الأرواح، فكما نعلم طلبة المدارس والجامعات كيفية التعامل مع الأزمات القلبية والطوارئ الطبية، نحتاج أن نعلمهم أن ترديد فكرة الانتحار من أى شخص هى صرخة استغاثة منه وفى هذه الحالة يحتاج إلى العرض فورا على طبيب نفسى، وأن نعلمهم أعراض الاكتئاب ونشجعهم على التعبير عنه وطلب المساعدة والعلاج مثلما نفعل مع التوعية بأمراض السكر والسرطان وغيرها، والأهم أن نرسى ثقافة عامة مجتمعية تحترم المرض والمريض فكما لا نطلب من مريض السكر أن يتجاهل مرضه لا يجب أن نطلب ذلك من مريض الاكتئاب.

هنا أبوالغار أستاذ طب الأطفال بجامعة القاهرة
التعليقات