متى يتحدث أبوالغيط مثل داود أوغلو؟! - عبد العظيم حماد - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 2:06 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

متى يتحدث أبوالغيط مثل داود أوغلو؟!

نشر فى : الإثنين 7 سبتمبر 2009 - 11:50 ص | آخر تحديث : الإثنين 7 سبتمبر 2009 - 12:38 م
لابد من الاعتراف فى البداية أنها ليست مشكلة وزير أو وزارة بالدرجة الأولى، ولكنها مشكلة نظام سياسى أولا، ولكن ليس آخرا، بمعنى أنه يبقى هناك قدر من المسئولية أو اللوم يقع على الأشخاص الذين يستسلمون لقيود النظام، وعلى المؤسسة التى لا تدافع عن دورها، واختصاصاتها.

حين كنت ضمن مجموعة من الكتاب على مائدة إفطار السفارة التركية يوم الخميس الماضى، مع البروفسور أحمد داود أوغلو وزير خارجية تركيا الذى كان ضيفا على القاهرة، لم تغب عن ذهنى مطلقا المقارنة المحزنة بين سعى الدبلوماسية التركية للاشتباك على كل الجبهات، بما فى ذلك المبادرة إلى لقاء الصحفيين والمفكرين، والإجابة عن أصعب وأحرج الأسئلة، وبين إحجام الدبلوماسية المصرية ورجالها عن مثل هذا النوع من الاشتباكات، وتهربها من المواجهات العلنية مع الصحفيين، والكتاب والمفكرين، تفاديا للحرج من الإجابات الصريحة، أو تهربًا من إجابة لا يصدقها من يدلى بها نفسه.

مثلا فى زيارة الرئيس حسنى مبارك الأخيرة لواشنطن، لم يلتق أحد من المسئولين المصريين بالإعلام الأمريكى سوى الرئيس نفسه فى حديثه الشهير إلى التليفزيونى الشهير أيضا تشارلز روز، ولم تتمكن قناة تليفزيونية أو صحيفة من استضافة وزير الخارجية المصرى أو سفيره فى واشنطن «مع كل الاحترام لشخصيهما ولخبراتهما»، فى حين كان السفير الإسرائيلى البروفسور والمؤرخ مايكل أورين هو ضيف أهم البرامج الحوارية على الـC.N.N فى عطلة نهاية الأسبوع التى بدأ الرئيس مبارك زيارته لواشنطن فيها، ولا أعرف هل حاولت أى من القنوات التليفزيونية الأمريكية إجراء مثل هذا اللقاء مع الوزير أو السفير المصريين أم لا، ولكن سواء جرت تلك المحاولة، وقوبلت بالرفض، أو لم تجر لتوقع الرفض مسبقا، فإن الدلالة هنا واحدة وصادقة وهى أن الدبلوماسية المصرية، لا ترحب بالمواجهات العلنية خاصة مع صحفيين أجانب، لن يترددوا فى طرح أحرج الاسئلة، ولن يسمحوا للضيف أن يتهرب من الإجابة عنها، ولن يقبلوا منه أن يحدد مسبقا قضايا الحوار ونطاقه.

من جانبى قلت للبروفسور أوغلو إنك طفت بنا فى جولة طويلة عريضة حول مبادئ السياسة الخارجية التركية الستة فى عصر ما بعد الحرب الباردة، وتطبيقاتها على ساحة ممتدة من اليابان حتى الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية، ولكنك لم تذكر كلمة واحدة عن إيران، وكيف تدرك أنقرة ما يسمى بالخطر الإيرانى، أو الطموحات الإيرانية للهيمنة الإقليمية خاصة من منظور الصراع الشيعى السنى القديم بين إيران الصفوية وتركيا العثمانية، ثم إنك لم تذكر كلمة واحدة أيضا عن مشكلات الأكراد والعلويين الأتراك فى سياق حديثك عن المبدأ الأول الحاكم لسياستكم الخارجية، وهو التوازن بين الحرية والأمن فى الداخل، ثم أضفت سؤالا ثالثا حول الموقف التركى الأخير من أحداث إقليم سينكيانج الصينى المسلم، وما إذا كانت تركيا تتصرف بغرور, وكأنها دولة عظمى حين وجهت إنذارا شديد اللهجة على لسان رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان إلى الحكومة الصينية لوقف قمع المسلمين الأويجور.

من حق القارئ بطبيعة الحال أن يعرف الإجابات، وهى باختصار شديد جدا كما يلى:

فى الحالة الإيرانية: لا نسعى للصراع، وإنما للتعاون، ولا نقبل الهيمنة، ولا نفكر بعقلية العصر العثمانى الصفوى، وفى حالة الأكراد والعلويين نعترف بأخطاء الماضى، وبالتعدد الثقافى، فى إطار دولة بلا أقليات، أما فى حالة الصين، فإن تدخلنا أدى إلى نتائج إيجابية (شرحها لنا وطلب عدم نشر الكثير من تفاصيلها).

لكن الذى استوقفنى أكثر من الإجابات هو أن الرجل لم يتوتر، ولم يتلعثم، ولم يتردد فى الإجابة حتى إذا تطلب الأمر اعترافا بالأخطاء، أو بنقاط الضعف، دون أن يتوقف لحظة ليسأل نفسه هل يزل لسانه فيطير من منصبه فى أول تعديل حكومى؟

هنا نحن أمام مسئول يمارس اختصاصاته بكل ثقة وحرفية، ويعبر عن سياسة دولة تنبثق من رؤية، وتسير وفق خطة، وتستخدم أدوات، وتستهدف مصالح عامة وكبرى ولا تنحصر فى قضية واحدة هى أمن النظام والرئيس التالى، وكل ذلك نوقش وأقر فى مؤسسات برلمانية وتنفيذية اختارها الشعب بإرادته المطلقة فى انتخابات حرة. ولذا فهو لا يشعر فى أى مكان فى العالم يذهب إليه أن ظهره مكشوف، وأن هذه يمكن أن تكون آخر أيامه فى المنصب. فإذا أقيل أو استقال، فذلك سيكون لأسباب مقنعة، ويمكن إعلانها.

لنقارن هذا المشهد، بموقف محرج تعرض له وزير الخارجية المصرية السيد أحمد أبوالغيط «الذى أشهد له بالتهذيب والخبرة»، ففى عام 2004 بادر الرجل بتلبية دعوة السفير المصرى فى برلين وقتها (السفير محمد العرابى) لحضور مؤتمر ميونخ لسياسات الأمن الدولى فى فبراير من ذلك العام، وذلك قبيل قيامه بزيارة كانت مقررة للولايات المتحدة بعد ذلك مباشرة، وكان هذا المؤتمر (غير الرسمى وبالغ الأهمية) قد جعل الشرق الأوسط محور مناقشاته منذ أحداث الحادى عشر من سبتمبر الإرهابية فى الولايات المتحدة، وكان هو المحفل الذى أطلق فيه دونالد رامسفيلد شعار أوروبا القديمة، وأوروبا الجديدة، ومشروع الشرق الأوسط الكبير، وهو المحفل الذى شهد المشادة العلنية الشهيرة بين رامسفيلد ويوشكا فيشر وزير خارحية ألمانيا السابق حول المشروع الأمريكى لغزو العراق، لذا كان مهما فعلا ألا تغيب مصر ودول المنطقة عنه، وهكذا جاء أبوالغيط ولكن لسوء الحظ كان الجالس بجواره على المنصة فى اليوم الثانى من أعمال المؤتمر السناتور جون ماكين المرشح الجمهورى فى انتخابات الرئاسة الأمريكية السابقة، وكان دور ماكين فى الحديث يأتى قبل وزير الخارجية المصرى، وبعد أن استعرض السناتور الأمريكى المخاطر الأمنية على العالم من النظم الديكتاتورية فى الشرق الأوسط والعالم الإسلامى، إذا به يختتم الحديث بهجوم كاسح على النظام المصرى، ويركز على قضية توريث الحكم لنجل الرئيس، فما الذى فعله أبوالغيط؟

لم يخرج الرجل عن نص كلمته المعدة سلفا، وهى بالطبع لم تكن تتضمن ردا على مثل هذا الهجوم، ولم يضف فى نهاية حديثه كلمة واحدة ردا على السناتور ماكين، ولكن عندما جاء وقت الاسئلة، اختار مراسل صحيفة واشنطن بوست الأمريكية وزير خارجيتنا ليوجه إليه أسئلته، فسأله عن التوريث الذى تحدث عنه ماكين، وعن اعتقال أيمن نور وسعد الدين إبراهيم، فلم يجد الرجل مفرا من الإجابة، فقال ردا على السؤال الأول إن مصر لديها دستور ينظم طريقة اختيار رئيس الجمهورية بالاستفتاء بعد تسمية أغلبية ثلثى أعضاء مجلس الشعب للمرشح الرئاسى، وكان ذلك بالطبع قبل تعديل المادة 76 من الدستور المصرى التى عدلت بعد ذلك كما يعلم الجميع!!.

وفى الإجابة عن السؤال الثانى أحال أبوالغيط الأمر كله إلى القضاء.

طبعا كانت هذه هى الإجابات المتوقعة، ولم يكن أحد غير أبوالغيط يستطيع الإجابة بأحسن من ذلك لكن الرجل لم يقنع أحدا، وأظنه ندم على تلبية دعوة السفير، ومن يومها قاطع المصريون مؤتمر ميونيخ عملا بالمثل السائر: «الباب اللى ييجى منه الريح سده واستريح».
لعلنا نكون قد عرفنا الآن السبب الرئيسى وراء غياب دبلوماسيينا فى الخارج عن الواجهات الإعلامية، والمناسبات العامة الأكاديمية والبحثية.. إلخ، لدرجة أن يشكو كل زميل صحفى أجنبى التقيته فى بلاده، وكل مسئول قابلته فى إحدى وزارات الخارجية الأجنبية من عزلة السفراء العرب (وليس المصريون فقط) وراء أسوار سفاراتهم. فى حين يتنقل السفير الإسرائيلى من شاشة إلى أخرى، ومن دار صحفية إلى الثانية، ومن هذه الجامعة أو هذا المركز البحثى، إلى تلك أو ذاك، ثم يشكو العرب والمصريون بعد ذلك من تحيز الإعلام ضدهم، وكثيرا ما تندر زملاء صحفيون على السفراء العرب فى العواصم العالمية الكبرى، قائلين: إنهم لا يجيدون غير إقامة حفلات الاستقبال، ولا يتحدثون إلا لصحف بلادهم.

مرة أخرى أقر وأعترف بأن كثيرا من هؤلاء السفراء على أعلى درجة من الكفاية، والوطنية، ولكن ماذا يفعلون؟ وهم لا يتلقون التعليمات والتفصيلات والتفويضات فى الوقت المناسب، بل وقد لا يتلقون شيئا أصلا، وكيف يدافعون عن نظم سياسية وممارسات عفا عليها زمن ما بعد الحرب الباردة، والعولمة، وثورة الاتصالات؟ زمن وصول الديمقراطية إلى السنغال وزامبيا و... و.... وأخيرا زيمبابوى؟

عندما تصل إلينا هذه الديمقراطية فسوف يتحدث أبوالغيط مثلما يتحدث أحمد داود أوغلو لأنه لن يكون ساعتها كالذى على رأسه بطحة، والديمقراطية آتية لا ريب فيها.
عبد العظيم حماد رئيس تحرير جريدة الشروق السابق. كاتب صحفي مصري بارز ، وشغل عدة مناصب صحفية مرموقة على مدار تاريخه المهني.ولد عام 1950 ، وحصل على بكالوريوس العلوم السياسية ، وعمل كمحرر ومعلق سياسي منذ عام 1973 ، سواء في الإذاعة والتليفزيون أو في مجلة أكتوبر أو في جريدة الأهرام ، وكان مديرا لتحرير الأهرام الدولي في أوروبا ، وكبيرا لمراسلي الأهرام في منطقة وسط أوروبا ، وله مؤلفات وأبحاث وكتابان مترجمان ودراسات دولية متنوعة.