مكتبة الذكريات الملونة - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 5:34 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مكتبة الذكريات الملونة

نشر فى : الأربعاء 7 سبتمبر 2016 - 9:30 م | آخر تحديث : الأربعاء 7 سبتمبر 2016 - 9:30 م

عند باب المكتبة، وقفت السيدة تنتظر بينما يعدد الطفلان ما يحتاجان شراءه عشية عودتهما إلى المدرسة. يحمل كل منهما ورقة كتب عليها لائحة طلباته: أقلام الرصاص، أقلام التلوين، دفاتر وبراية الأقلام، مسطرة وصمغ، ألوان مائية، وغيرها من المواد التى سيرصونها بعناية على طاولة السفرة فى البيت عند عودتهما قبل أن يدخلوها فى شنط المدرسة، استعدادا لليوم التالى.
اقتربت السيدة بضع خطوات من طفليها ونظرت بشغف إلى ما أمامها، بدأت تجرب الكتابة بأقلام تروج لها المكتبة على أنها مريحة الممسك وجميلة الخط. نظرت إلى أشكال المحايات، ثم قربت بعضا منها من أنفها لأنها تذكرت أن فى طفولتها كانت لبعض المحايات رائحة فواكه أو ورود متنوعة. دقائق وبدأت السيدة تساعد الطفلين فى الاختيار، تقترح قلما بدلا من آخر وتمسك بيدها علبة ألوان مائية، بينما يمسك الابن الأكبر بالفرشاة. تكتب اسمها على ورقة ويرد عليها الولد الأكبر بكتابة اسمه بلون آخر قرب اسمها.
***
فى مكتبة الحى القديمة، عادت الحياة بعد شهور من الإجازة الصيفية، فبدا وكأن الحركة بدأت تدب فى الأرفف الخشبية والصناديق التى امتلأت بالبضاعة تحسبا لهجوم الطلاب بعد الإجازة. استقبل البائع المسن السيدة والطفلين بابتسامة دافئة. «أهلا وسهلا، كل سنة وانتو طيبين» يقول بالإشارة إلى العام الدراسى الوشيك.
خلف السيدة، وعلى بعد خطوة واحدة من الباب، وقف رجل فى الظل ينظر إلى المجموعة المرحة، المجموعة لا تراه فهو لم يدخل معهم بل دخل إلى مكتبة أخرى شبيهة بهذه إنما فى زمن آخر وفى مدينة أخرى. دخلها مع السيدة أم الولدين، حين كانت بعمرهما عشية عودتها إلى المدرسة. تتشابه المكتبتان فى حجمهما الصغير وأرففهما الخشبية القديمة واكتظاظ مساحتهما بالبضاعة. تتشابهان أيضا ببائعيهما الشائبين المبتسمين بلطف. ينظر الرجل إلى ابنته وهى تختار أقلام ودفاتر وتمسح بيدها على قاموس عربى ـ فرنسى.
السيدة تحولت إلى طفلة تدور فى المكان الضيق، تجرب الألوان وتختار محاية تفوح منها رائحة التفاح. هى دخلت مع طفلين لكنها سرعان ما عادت نحو والدها تشد يده وتحاول أن تفهمه أنها أحبت قلمين ولا تعرف كيف تختار بينهما. لم تعد أم الولدين، بل عادت ابنة الرجل الذى خرج من الظل ووقف فى وسط المكتبة يتحدث مع البائع بينما اختفى الطفلان، فهما لا ينتميان إلى هذه اللحظة التى حدثت قبل ثلاثين عاما. اشترى الرجل الذى تحول إلى شاب ثلاثينى ضعف ما تحتاجه البنت، وتحول هو أيضا عند باب المكتبة إلى طفل يجهز ليومه الأول فى مدرسة الرهبان فى حلب ويرافقه والده الأربعينى. اختفت السيدة حين عاد والدها طفلا مع أبيه، جدها، فقد عاد بهما الزمن إلى يوم لم تكن هى موجودة فيه.
عشية أول يوم فى العام الدراسى الجديد، وقف أطفال من ثلاثة أجيال وسط مكتبة صغيرة، يحضرون لعودتهم إلى مقاعد الدراسة مع أصدقائهم. لا يهم المكان والزمان، فللمكتبة الصغيرة قدرة عجيبة على دمجهم فى فرحة واحدة هى فرحة الألوان وأدوات الرسم، وحبهم لرائحة الورق الممزوجة برائحة الخشب العتيق وبعض الغبار. هناك شىء ساحر فى أية مكتبة قديمة اشترى منها الأطفال على مدى السنوات التى مضت أدوات الدراسة والرسم. هناك طبقة من الحنان تغلف الدفاتر وتلتصق بالكتب، هناك سر داخل مكتبة صاحبها كبير فى السن، يعرف من نظرة الطفل ماذا يحتاج ويعرف من وجه والدته أنها ستثنيه عن شىء فى سبيل شراء آخر.
***
فى عصر الشراء الافتراضى وطلب الأشياء بالهاتف أو عبر الإنترنت، تضيع لحظات لا يمكن وصفها للأجيال القادمة إن توقفوا عن زيارة مكتبة الحى القديمة. قد تكون المكتبات الحديثة صارخة الألوان والبضاعة أسهل فى تنظيمها وأقرب إلى نفسية الطفل اليوم، قد يكون التسوق عن طريق الإنترنت أسرع لمن لديه الإمكانية وأحيانا أرخص، لكن كم هو أفقر عاطفيا وأشح إنسانيا من الوقوف وسط الأرفف الخشبية، ورؤية البائع يرد بطيبة على تساؤلات الطفل حول ما إن كان حبر القلم أزرق أم أسود.
فى مكتبة الحى القديمة اجتمع فجأة الطفل والطفلة والطفلان، الجد والأم والولدان، تحولوا جميعا إلى أطفال فى سن بدايات الدراسة، اختبأوا بين الشنط المدرسية وظهروا من خلف رف الورق الملون. رفرفت ضحكاتهم فى المكتبة القديمة، فظهر قوس قزح فوق رءوسهم جميعا رسمه البائع بالألوان المائية. لعب الأطفال الثلاثة فى بقعة الضوء المتسللة من الشباك إلى وسط المكتبة، يضعون بين فينة وأخرى دفترا إضافيا أو قلما، زيادة على مجموعة ما اختاروه حتى يسددوا حسابا واحدا عند الانتهاء. خرجوا جميعا من الباب فوجدت السيدة نفسها قد عادت إلى لحظة الآن، أم الطفلين، فرحة بالأقلام الملونة تماما كما فرحت فى صغرها حين اشترى لها والدها ما تريد وما أحب هو لها، هى تفهم الآن لماذا اشترى لها والدها أكثر مما تحتاج، فقد اشتراه للطفل الذى كانه هو حين دخل المكتبة مع أبيه، جدها، فى عصر آخر. سحرية هى المكتبة القديمة الصغيرة التى تعيد الناس إلى يومهم الأول فى المدرسة بضربة ريشة وألوان مائية، فيظهر الجد والأب وابنته وولديها يختارون ما يريدون، ثم تخرج الأم والطفلان إلى الشارع بعد أن تودع نفسها الطفلة ووالدها وجدها الذين سيبقون فى الداخل حتى العام التالى.

كاتبة سورية

تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات