نشر موقع «صدى كارنيجى» مقالا للكاتبة «بينيديتا برتى» – الباحثة السياسية بمعهد بحوث السياسة الخارجية ــ حول العلاقة بين مهمة إعادة إعمار سوريا خاصة بعد الخسائر التراكمية التى تكبدتها البلاد خلال الأعوام الماضية والتى وصلت إلى 225 مليار دولار وترسيخ دوائر النفوذ السياسية عن طريق إعادة الإعمار.
بداية ذكرت الكاتبة أنه فى النزاع السورى الدموى والمطوّل، ثمة قيود شديدة تُكبِّل المساحة الإنسانية. فالفرقاء المتناحرون على اختلافهم يُجيزون وصول المساعدات الإنسانية أو يمنعونه بحسب ما تمليه استراتيجياتهم العسكرية وأهدافهم السياسية. ويعتمد النظام السورى على توزيع المساعدات الدولية لمكافأة الموالين، ومعاقبة المعارضين، وزيادة التبعية المدنية له، وتقويض نشوء منظومات سياسية بديلة. بالمثل، يبدو أن المنطق الذى تحفّزه الحرب يؤدّى دورا بارزا فى النقاشات حول كيفية الشروع فى إعادة إعمار البلاد، مع تعويل النظام على هذه العملية من أجل تعزيز شرعيته وترسيخ سيطرته.
سوف تشكّل إعادة الإعمار مهمة هائلة؛ لقد تكبّدت سورية، خلال الأعوام الستة الماضية، خسائر تراكمية فى إجمالى الناتج المحلى تخطّت 226 مليار دولار، وأصبح نصف سكّانها فى عداد النازحين بسبب النزاع، ولحقت أضرار كبيرة بالبنى التحتية المدنية. بحسب التقديرات الواردة فى تقرير صادر عن البنك الدولى فى العام 2017، دُمِّر 27 فى المئة من المنازل فى المراكز المدنية التى خضعت للتقويم، أو لحقت به أضرار، ويُقدَّر مجموع تكاليف إعادة الإعمار بـ200 إلى 350 مليار دولار.
بيد أن إعادة الإعمار تتيح أيضا فرصة لإعادة تصوّر المشهد الحضَرى فى المدن الأهم فى البلاد، وعبر القيام بذلك، إعادة صياغة الديناميكيات السياسية وديناميكيات النفوذ أو ترسيخها. إعادة تأهيل المنازل والخدمات والبنى التحتية عملية سياسية إلى حد كبير تُفسح فى المجال أمام الأفرقاء المحليين والقوى الخارجية لزيادة أوراق الضغط فى أيديهم والتأثير فى مستقبل سورية ورسم معالمه.
فى الحالة السورية، تُطرَح أسئلة أساسية حول المدن أو الأحياء التى تُعطى الأولوية فى عملية إعادة الأعمار: كيف سيُعاد إعمارها ولأجل من، ومن يقّرر بشأن مشاريع التجديد ويعمل على تطبيقها. ترتدى هذه المسائل أهمية فى كل عمليات إعادة الإعمار بعد النزاعات، لكنها ذات أهمية خاصة فى السياق السورى، حيث بدأت إعادة الإعمار بصورة منفصلة عن عملية وطنية للتسوية السياسية أو المصالحة المجتمعية.
***
تضيف الكاتبة أنه بحسب ما هو متعارَف عليه حول المعافاة وإعادة الإعمار بعد النزاعات، يجب أن تتم إعادة البناء المادّية والمعافاة الاقتصادية والإصلاحات السياسية والمصالحة المجتمعية بصورة متزامنة من أجل نقل البلاد من حالة الحرب إلى «السلم». لكن فى سورية، ثمة خطر بأن يتواصل الجزء الأكبر من إعادة الإعمار والمعافاة الاقتصادية بمعزل عن المفاوضات لإنهاء الأعمال الحربية. فى ظل هذه الظروف، يمكن أن تتحوّل إعادة الإعمار بسهولة إلى أداة لتثبيت مكاسب الحرب وديناميكيات النفوذ القائمة، ما يحول دون عملية الانتقال من الحرب إلى السلم أو يطرح تعقيدات أمامها، بدلا من دعمها.
فى المشاريع الأساسية التى هدفت خلال العام المنصرم إلى إعادة بناء المناطق السكنية فى البلاد التى مزّقتها الحرب – بما فى ذلك فى المناطق المتروبوليتانية فى دمشق وحمص وحلب – رُبطِت بعض هذه الديناميكيات بتسييس عمليات إعادة الإعمار. النزعة الأولى التى يمكن لمسها بسهولة هى أن الحكومة تستخدم إعادة الإعمار بمثابة منظومة فعّالة لمكافأة الحلفاء المحليين وتعزيز مكانتهم، ما يساهم فى ترسيخ نفوذها حتى فيما تعهد بسلطة إعادة الإعمار إلى المسئولين المحليين. يتحقق ذلك بطريقتَين أساسيتين: أولا، عبر منح مناقصات إعادة الإعمار مباشرةً إلى السلطات المحلية والمنظمات غير الحكومية المدعومة من النظام، والأفرقاء المحليين، والشراكات المحلية الظرفية بين القطاعَين العام والخاص، وذلك كله وفقا لمنطق يكافئ الولاء السياسى للنظام. ثانيا، عبر الاستمرار فى المطالبة بأن يعمل جميع الأفرقاء الدوليين حصرا مع الشركاء المحليين الحائزين على موافقة الحكومة؛ وهكذا وجدت الحكومة المركزية سبيلا للتوفيق فعليا بين الدعوة التى وجّهها المانحون الدوليون لوضع عملية إعادة الإعمار فى عهدة السلطات المحلية من جهة وبين الحفاظ على سلطتها وسيطرتها بحكم الأمر الواقع من جهة ثانية.
تضغط الحكومة أيضا من أجل إعادة تطوير المستوطنات غير النظامية، بما فى ذلك بساتين الرازى فى منطقة دمشق، حيث يهدف مشروع لإعادة التطوير المدينى بقيمة ملايين الدولارات إلى بناء منطقة سكنية واسعة لإيواء أكثر من ستين ألف شخص واستبدال المستوطنة السابقة. غير أن الطابع الحديث للمشروع – بما فى ذلك المبانى الشاهقة – يطرح مشكلات محتملة؛ فتنفيذه يقتضى حكما تدمير المشهد المدينى السابق وإعادة تصوّره فى شكل كامل وجذرى. ويمكن أن يكون لإعادة التطوير، بدورها، تأثيرٌ وخيم على سكّان المستوطنة السابقين، لا سيما وأن عددا كبيرا منهم طاله النزوح بسبب النزاع. يُثير إخلاء هذه المناطق لإعادة تطويرها مخاوف لدى النازحين من أن نزوحهم وحرمانهم من أرضهم ومقتنياتهم قد يصبحان دائمَين، عبر هدم منازلهم وإعادة توزيع حقوقهم فى التملّك وفقا لما يفرضه الأمر الواقع.
***
ليست مستوطنة بساتين الرازى باستثناء. إنها من المستوطنات غير النظامية الكثيرة – هذه المستوطنات هى من المناطق الأفقر والأشد تضررا جراء الحرب فى مدن مثل حمص ودمشق وحلب وسواها ــ المنوى إعادة إعمارها وتطويرها. أكثر من ذلك، فى المستوطنات على غرار بساتين الرازى فى منطقة دمشق أو فى حى جورة الصياح فى حمص، كانت المناطق الواقعة فى صلب مشاريع إعادة التطوير معاقل للمعارضة فى السابق، ما يعزّز المخاوف من أن العملية الدراماتيكية والجذرية لإعادة تصوّر هذه المناطق قد تشكّل أداةً لتثبيت النفوذ والسيطرة على السكان، مع ما يترتب عن ذلك من تأثير كبير على المدنيين، لا سيما على أكثر من 6.3 ملايين شخص هم من النازحين داخليا فى مختلف أنحاء البلاد. فى هذه الحالات، قد تتسبّب إعادة الإعمار باستفحال النزاع المجتمعى بدلا من التخفيف من حدّته، فيما تزيد من هشاشة شرائح السكان المعرّضين فى الأصل للخطر. بعبارة أخرى، لسياسات إعادة الإعمار تأثير سياسى ملموس، فضلا عن قدرتها على خلق أشكال من التهميش داخل البلاد أو ترسيخها. على هذا الأساس، تطرح هذه السياسات مشكلة كبيرة أيضا فى مجال الحماية.
من السبل الأخرى التى يعتمدها النظام السورى كى يزيد إلى أقصى حد مردوده السياسى من عملية إعادة الإعمار، الحرص على أن يستمر الأفرقاء الخارجيون الذين يساهمون فى تسديد فاتورة إعادة الإعمار أو يؤدّون دورا بارزا فى مشاريع إعادة الإعمار، فى منحه حرية المناورة، ما يُتيح له ترسيخ التفوق الذى يتمتع به فى النزاع. لهذا أعلنت الحكومة السورية مرارا وتكرارا أنها ترحّب بتأدية الصين والهند وإيران وروسيا دورا فى إعادة إعمار سورية، لأنه يُنظَر إليها بأنها أقل ميلا إلى ربط المساعدات بالإصلاحات السياسية، وذلك خلافا لما يشترطه الاتحاد الأوروبى. كلما ازدادت قدرة النظام السورى على الاعتماد على هؤلاء الحلفاء الأساسيين، لا سيما إيران وروسيا، تعزّزت قدرته على المضى قدما بعملية إعادة الإعمار بمعزل عن المسائل المتعلقة بالانتقال والإصلاح السياسى.
يدرك جميع الأفرقاء الخارجيين جيدا العلاقة بين إعادة الإعمار والحكم والنفوذ. فحتى فيما يتفاوضون على الترتيبات المتعلقة بنزع التصعيد ووقف إطلاق النار، غالب الظن أنهم سيسعون أيضا إلى ترسيخ دوائر نفوذهم فى سورية عن طريق إعادة الإعمار. على سبيل المثال، تستثمر تركيا فى إعادة إعمار البنى التحتية المتضررة من الحرب فى الباب، خارج حلب، حتى إنها أعلنت أنها تنوى بناء ضاحية جديدة على مقربة من الباب. فى حين تأمل تركيا بأن يساهم ذلك فى طرد المجموعات المتطرفة وتشجيع عدد كبير من اللاجئين الذين تستضيفهم فى غازى عنتاب، داخل الأراضى التركية، على العودة إلى سورية، ليس الهدف من هذه الجهود بسط الاستقرار فى الوقت الراهن وحسب، إنما أيضا إرساء النفوذ السياسى التركى فى المستقبل.
***
مع تقدّم عملية إعادة الإعمار، سيواجه معارِضو الأسد سابقا، مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى، معضلةً بين الاستثمار فى إعادة الإعمار «التقنية» ــ التخلّى عن فرض شروط على المساعدات، والاتجاه بحكم الأمر الواقع إلى مكافأة النظام والمساهمة فى ترسيخه لنفوذه على الأرض ــ وبين رفض المشاركة فى عملية إعادة الإعمار برمتها، ما يُعرِّضهم لخطر خسارة مزيد من التأثير.
ختاما تذكر الكاتبة أن قطاع التطوير الدولى برمته يواجه المأزق نفسه فى ما يتعلق بآلية العمل التى يجدر به اتباعها فى السياق السورى المعقّد. بالفعل، فى حين أن الحاجة إلى إعادة الإعمار والمعافاة أمرٌ محسوم لا يمكن إنكاره، بإمكان النظام السورى أن يستمر، بحكم العنف والعسكرة المتواصلَين، فى استخدام إعادة الإعمار لتثبيت سيطرته وتوطيد تحالفاته التى بناها فى زمن الحرب. لكن إذا تواصلت عملية إعادة الإعمار المادية للبنى التحتية بمعزل عن المحادثات من أجل التوصل إلى تسوية سياسية وتصحيح النسيج الاجتماعى المدمّر فى سورية، سوف يؤثّر ذلك سلبا فى الشرائح التى تعانى أصلا من الهشاشة فى المجتمع السورى ويتسبب بمزيد من التأخير فى أى نقاش حول السبيل إلى تجاوز الحرب والنزاع.

النص الأصلي