الليبرالية الجديدة والعدوان على الجامعات - هدى الصدة - بوابة الشروق
الثلاثاء 16 أبريل 2024 5:45 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الليبرالية الجديدة والعدوان على الجامعات

نشر فى : الأحد 7 أكتوبر 2012 - 8:30 ص | آخر تحديث : الأحد 7 أكتوبر 2012 - 8:33 ص

تنشغل الجماعة الأكاديمية فى الوقت الحالى بمناقشة قانون تنظيم الجامعات كما تتابع المواد المقترحة عن مستقبل التعليم العالى فى الدستور الجارى كتابته من قبل الجمعية التأسيسية للدستور. هناك اجماع وطنى على ضرورة الارتقاء بمستوى مؤسسات التعليم العالى فى مصر باعتبار التعليم الجيد من ركائز التقدم والمنافسة فى الساحة العالمية.

 

وخطاب إصلاح التعليم وتحسين العملية التعليمية أمر ليس بجديد حيث شهدت العقود الماضية عشرات المشروعات والمبادرات لإصلاح التعليم العالى ولكنها لم تؤت بثمار ملموسة واستمر مسلسل الانهيار والتردى على جميع المستويات. فبشكل عام، اتسمت معظم مشروعات اصلاح التعليم العالى التى تبنتها الدولة بالتركيز على أعراض المرض ومحاولة التخفيف من تلك الاعراض عوضا عن مواجهة جذور المشكلة.

 

ولكن نناقش الآن مستقبل الجامعات المصرية فى لحظة تاريخية مختلفة وفى ضوء متغيرات جديدة طرأت على الساحة بفضل اندلاع الثورة المصرية واستمرار حركات الاحتجاج والاعتراض التى سلطت الضوء على مظاهر الفساد وسوء الادارة والقمع الأمنى والظلم الاجتماعى الذى عانى منه الشعب المصرى على مدار عقود طويلة والذى طال جميع مؤسسات الدولة بما فيها المؤسسات التعليمية.

 

فتحت الثورة المصرية الباب لمناقشة واقرار تعديلات جوهرية على قانون تنظيم الجامعات بحيث تستعيد الجماعة الأكاديمية دورها فى اختيار القيادات ورسم السياسات التعليمية، وذلك بعيدا ــ بقدر المستطاع ــ عن تدخل السلطة التنفيذية للنظام الحاكم فى شئون الجامعات، وهو أمر عانت منه الجامعات المصرية فى العهد البائد. فكان أول تجلى للثورة المصرية فى الجامعات هو مبادرة الجماعة الأكاديمية باقتراح تعديلات فى قانون تنظيم الجامعات يعالج الخلل الموجود فى نظم اختيار القيادات الجامعية يكون أكثر ديمقراطية وشفافية ويعتمد على مبدأ الانتخاب عوضا عن التعيينات السياسية.

 

●●●

 

بالإضافة الى ذلك، كان للثورة المصرية الفضل فى تسليط الضوء على فشل سياسات الليبرالية الجديدة التى تتخذ من نظرية السوق الحرة الذى ينظم نفسه عقيدة، وهى النظرية التى تبناها النظام السابق فى مواجهة الفقر والبطالة. فمنذ التسعينيات من القرن العشرين شرعت الحكومات المتتالية فى تقليص دور الدولة فى توفير الخدمات الأساسية ودعم المشروعات الوطنية الكبيرة فى مقابل تعظيم دور القطاع الخاص من خلال برنامج الخصخصة والاندماج فى السوق العالمية ورفع الحماية عن المنتجات المحلية، الأمر الذى أدى فى نهاية المطاف الى توسيع الفجوة بين الأغنياء والفقراء وتراجع غير مسبوق فى دور الدولة الا على المستوى الأمنى. 

 

لم تسلم مؤسسات التعليم العالى الوطنية من سياسات الخصخصة. فى ١٩٩٢ صدر قانون يسمح بانشاء جامعات خاصة بمصروفات. أغلب هذه الجامعات هى عبارة عن مشروعات استثمارية أى أن أنها تهدف الى الربح. وفى ٢٠٠٢ صدر قانون ١٠١ الذى سمح بانشاء جامعات خاصة أجنبية استثمارية. وللتوضيح، وهذا أمر غاية فى الأهمية، يجب التفرقة بين الجامعات الاستثمارية التى ينشئها مستثمرون يهدفون الى الربح، والجامعات التى لا تهدف الى الربح، وهو نموذج الجامعات العريقة مثل أكسفورد وكيمبريدج وهارفارد وويل.. إلخ، فهى على الرغم من أن الطالب يدفع مصروفات أحيانا تكون عالية جدا، الا أنها مؤسسات تعتمد فى تمويلها على المنح والهبات وما يماثل الوقفيات الكبيرة لتمويل الأبحاث والابتكارات ودعم العملية التعليمية.

 

فلا يمكن أن تكون الجامعة، بالمعنى الحقيقى للجامعة، ــ أى الجامعة باعتبارها مكانا أصيلا لانتاج المعرفة النظرية والعملية، مكانا لتنمية التفكير النقدى والقدرات المبدعة عند الطلاب، مكانا لدعم الأبحاث والتفكير الخلاق ــ لا يمكن أن تكون مشروعا هادفا الى الربح بل هى بالضرورة مشروعا قوميا بالدرجة الأولى، يتولاه ويضطلع على تنفيذه الأفراد والمجتمع والدولة. فى التسعينيات، شرعت الدولة المصرية فى التخلى عن دورها فى دعم التعليم وذلك من خلال تبنى برنامج لإصلاح التعليم العالى على خطى دراسة أعدها البنك الدولى فى ١٩٩٧ وعضد من شأنها المؤتمر القومى لإصلاح التعليم العالى الذى عقد فى فبراير ٢٠٠٠، والخطة الاستراتيجية التى أعدتها وزارة التعليم العالى فى ٢٠٠١، ثم مشروع تنظيم الجامعات المقدم سنة ٢٠٠٦. 

 

كان الهدف غير المعلن من الاصلاحات المقترحة: الغاء تدريجى لمجانية التعليم العالى فى مصر، احلال نموذج للتعليم العالى مشبع بأفكار الليبرالية الجديدة حيث «غاية الربح مفضلة على مصلحة الناس كما وضح الفيلسوف والناشط السياسى الأمريكى نعوم تشومسكى، أى أنها أفكار واستراتيجيات تتناقض مع الغرض الأساسى للجامعة، فيدار التعليم العالى بمنطق السوق الحرة حيث المنافسة والتركيز على المخرجات، وتعظيم دور الشركات والقطاع الخاص فى توجيه مسار التعليم الجامعى ويصبح الطالب والطالبة زبائن وجب ارضاؤهم وتلبية احتياجاتهم وتنمية مهاراتهم لتتوافق مع سوق العمل بشكل تجارى الخ.

 

وفى نفس الوقت الذى تم السماح بانشاء جامعات خاصة، بدأت الدولة المصرية فى تقليص الدعم الحقيقى للجامعات الحكومية بل وتم الاعتداء على الامكانيات المحدودة داخل الجامعات الحكومية وذلك بانشاء برامج داخل الكليات بمصروفات توازيا مع البرامج الموجودة فى الأصل، وبالتدريج وصلنا الى وضع عبثى نجد فيه مسارين للتعليم داخل نفس الجامعة: مسار بمصروفات عالية يخصص له حجرات وامكانيات، ومسار بدون مصروفات تتقلص الامكانيات المتوافرة للملتحقين به يوما بعد يوم وتتعمق الفجوة بين القادرين وغير القادرين.

 

●●●

 

تم تبرير تراجع الدولة فى دعم التعليم العالى بالالحاح على حجتين أساسيتين: أولا: أن التعليم العالى غالى التكلفة بالضرورة، وأن الدولة محدودة الموارد وغير قادرة على توفير تعليم رفيع المستوى بدليل تدنى مستوى التعليم فى الجامعات الحكومية المجانية. ثانيا: أن نموذج التعليم المقترح يتوافق مع اتجاهات عالمية بل ويحاكى نماذج موجودة فى العالم المتقدم. يتماشى هذا الاتجاه مع سياسات الخصخصة التى مضت فيها الدولة المصرية تنفيذا لبرامج الاصلاح الاقتصادى المتفق عليها مع صندوق النقد والبنك الدولى.

 

بالنسبة للحجة الأولى، لا يجوز مناقشة ضعف ميزانية التعليم الا فى سياق كلى تناقش فيه ميزانية الدولة، أولوياتها، والأهم الانحيازات السياسية التى توجهها. فمناقشة الميزانية، أى ميزانية، تتضمن بالضرورة قرارات فى صالح بعض الفئات مقارنة بفئات أخرى. علينا الاجابة عن السؤال التالى: هل نعتبر التعليم العالى حقا أصيلا من حقوق المواطنة فى مصر الجديدة تكفله الدولة وتضعه على رأس قائمة الأولويات؟ أم يتحول التعليم العالى فى مصر الى سلعة غالية متاحة للقادرين فقط ؟

 

بالنسبة للحجة الثانية، فآن الأوان للتعلم من أخطاء الغير. فمن أهم الآثار المترتبة على انهيار السوق العالمية فى ٢٠٠٨ أنه سلط الضوء على المغالطات التى روج لها أنصار الليبرالية الجديدة عن قدرة السوق على تنظيم نفسه وتصحيح أخطائه وأفكار كثيرة أخرى ثبت فشلها وانحيازها لمصالح طبقة رجال الأعمال والمؤسسات عابرة القوميات. فى مجال التعليم العالى، تعالت الأصوات منددة بسياسات الليبرالية الجديدة فى تغيير مسارات وأهداف مؤسسات التعليم العالى فى أعتى الديمقراطيات.

 

فى انجلترا على سبيل المثال، والتى شهدت فى الست سنوات الماضية تراجعا ملحوظا فى دعم الدولة لمؤسسات التعليم العالى وتغليب نموذج لادارة الجامعات يحاكى النموذج المتبع فى ادارة الشركات، وهو ما تعارف على تسميته ب corporatization of universities كل هذا نتيجة لتطبيق أفكار وسياسات الليبرالية الجديدة، تقف الجماعة الأكاديمية لمواجهة تجليات تلك السياسات حيث أصبحت جامعات عريقة تدار بمنطق الشركات الهادفة الى الربح وأصبح التعليم سلعة تدخل فى سوق المنافسة، حيث يغلب الربح على المدى القريب على الاستثمار فى التعليم على المدى البعيد من أجل المصلحة العامة، وحيث يعامل الأساتذة على أنهم هم أيضا سلعة تدخل فى سوق المنافسة ويقيم أداءهم وفق معايير كمية للجودة يمكن ادخالها فى قاعدة بيانات ومن ثم عليهم تقديم الدليل الكمى على «جودتهم».

 

فى يونية ٢٠١١ تقدم مجموعة من الاساتذة فى الجامعات البريطانية باستقالتهم من مجلس أبحاث الفنون والدراسات الانسانية Arts and Humanities Research Council احتجاجا على ما سموه استحواذ الليبرالية الجديدة على المجال الأكاديمى.

 

وفى ٢٠١١ أيضا صدر كتاب عنوانه «العدوان على الجامعات: بيان رسمى للمقاومة (تحرير مايكل بيلى ودس فريدمان) ويحتوى على مجموعة من المقالات تقدم نقدا لاذعا لسياسات خصخصة التعليم فى بريطانيا والسياسات الليبرالية الجديدة التى تتبناها الحكومة الائتلافية بزعامة ديفيد كاميرون. بشكل عام، هناك تنامى ملحوظ فى حركات المقاومة داخل المجال الأكاديمى ضد طوفان الليبرالية الجديدة.

 

●●●

 

أخيرا، من أقوى الحجج التى تستخدم لتبرير النكوص عن دعم الدولة للتعليم العالى واتاحته لجميع فئات الشعب مقولة أنه لا يوجد بديل آخر فعال للارتفاع بمستوى التعليم العالى والابقاء فى نفس الوقت على المجانية. والحقيقة أن المسار القديم الذى فرض علينا من قوى فى الداخل والخارج أصبح غير صالح لنا وأن الثورات العربية عززت من روح المقاومة لسياسات الافقار والتمييز التى استشرت فى المرحلة السابقة فى النظام العالمى الجديد ومن ثم تقع علينا مسئولية التفكير خارج الصندوق والتقدم بحلول مبتكرة لتحقيق المصلحة العامة.

هدى الصدة أستاذ الأدب المقارن بجامعة القاهرة
التعليقات