جنوب السودان.. إلى أين؟ - صلاح حليمة - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 3:54 ص القاهرة القاهرة 24°

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

جنوب السودان.. إلى أين؟

نشر فى : الأربعاء 8 يناير 2014 - 8:35 ص | آخر تحديث : الأربعاء 8 يناير 2014 - 8:35 ص

يتداول أبناء جنوب السودان منذ حوالى «ثمانين» عاما نبوءة تنسب إلى أحد سلاطين «الكجور» من قبيلة «النوير»، هو السلطان «واندنق»، وفحواها أن أحد أبناء النوير ويدعى «رياك» سيحكم الجنوب، ومن صفاته فى عينيه «حول»، وفى يديه «شول»، وفى أسنانه «فلجة»، ولا توجد فى وجهه «علامات» وهى صفات تنطبق على رياك مشار.

وقد أضفت هذه النبوءة على مشار المنتمى لقبيلة النوير ــ ثانى أكبر القبائل عددا فى جنوب السودان ــ هالة من القدسية، فأطلق البعض عليه الرجل المختار، واعتقد أفراد قبيلته أنه «مهديهم» المنتظر، فضلا عن اتفاق أعدائه ومؤيديه أنه قائد أسطورة، وله سطوة وهيبة، وقد يكون حاكم الجنوب المنتظر.

وقد تعززت تلك المعتقدات باستعادة مشار «عصا» السلطان «واندنق» التى كانت بمتحف بريطانى بما تمثله من قيمة روحية وتراثية كبيرة لقبيلتة، حيث استقبل مشار والعصا بحفاوة بالغة من الآلاف فى مطار جوبا عام 2009.

وإذا كانت تلك النبوءة تدفع فى اتجاه تولى مشار مقاليد الحكم فى الدولة الوليدة، فإن جنوب السودان فى ظل أوضاعه الداخلية والإقليمية والدولية قد يندفع فى اتجاهات أخرى، ومن بينها «وفاق وطنى» ديمقراطى يحقق توازنا قبليا، أو «تقسيما» لجنوب السودان على أساس قبلى جهوى.

•••

واقع الأمر، أن الصراع الذى انفجر بين سلفاكير (المنتمى إلى قبائل الدنكا، أكبر القبائل عددا فى جنوب السودان) ومشار، صراع «قديم مستحدث» تمتد جذوره إلى عهد جون جارانج.. هو صراع بين «الدينكا» و«النوير» على السلطة والثروة والذى اتسم ولم يزل بالدموية المفرطة إلى حد القتل الجماعى والمقابر الجماعية، ومن مظاهره أيضا الصراع على منصب الرجل الثانى فى تنظيم الحركة الشعبية حتى مصرع جارانج عام 2008، وكان ينتهى دائما بتولى مشار منصب الرجل الثالث.

وفى التقدير، أن هذا الصراع بين الجانبين كقبائل وكقيادات على السلطة والثروة، امتد ليشمل صراعا آخر مستحدثا يتمحور حول الرؤى والتوجهات بصدد قضايا قومية عالقة لجنوب السودان فى علاقته بالسودان، وخاصة قضية أبيى والحدود المتنازع عليها، فضلا عن مواقف تجاه حركات التمرد السودانية.

لقد شهد عام 1991 انشقاق مشار عن جارانج ونائبه سلفاكير، وانضمام ميليشياته «مشار» إلى القوات السودانية، وربما جاء قبول السودان بذلك التحالف فى الوقت الذى كان مشار يتبنى انفصال جنوب السودان عن الدولة الأم، بينما كان جارانج يتبنى حكما ذاتيا للجنوب فى إطار السودان الموحد، ليحتدم الصراع داخل الحركة الشعبية بما يحافظ على وحدة الدولة.

لقد وحدت الإدارة الأمريكية قوى الجنوب فى الفترة من 2001 إلى 2005، فى إطار أجندة تستهدف انفصال جنوب السودان عن الدولة الأم، وبتوقيع اتفاق نيفاشا فى يناير 2005، تولى جارانج رئاسة الحكومة المؤقتة فى إطار حكم شبه ذاتى للجنوب، ثم خلفه سلفاكير عقب مصرعه فى حادث طائرة، ليصعد مشار إلى منصب الرجل الثانى فى الحركة الشعبية.

وتدفع الطبيعة الجغرافية فى الدولة الوليدة وما يدور فيها من صراع سياسى ــ قبلى، وتقلب التحالفات بين القوى، حتى داخل القبيلة الواحدة، إلى تعذر تحقيق أى طرف لنصر عسكرى حاسم ودائم، ولكن من المرجح أن يتسم الصراع بالكر والفر، واستنزاف قوة الطرفين.

•••

لقد تأسست دولة الجنوب على تحالف من القبائل والمناطق، وعلى التزام بالديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وأحكام القانون، ولكن يبدو فى تقدير مشار وبعض المراقبين أن الأمور لم تمض على نحو ما تم التعهد به، وخلافا لما تم التوافق عليه، فبادر مشار ومجموعته باتهام سلفاكير باحكام قبضته على السلطة لتتركز فى يديه، ولجأ إلى أسلوب القهر بدلا من الحوار، والانفراد بالسيطرة على مجلس التحرير السلطة الأعلى فى البلاد ــ بعد إقالته لعدد من القيادات البارزة فيه عام 2013، بل وتعززت تلك الحالة من عدم الاستقرار بسبب تصاعد الخلاف بين القيادات السياسية فى الحركة الشعبية حول القضايا العالقة مع السودان، وانتهاكات الجيش الشعبى فى بعض الولايات.

وقد أثارت هذه الإجراءات والانتهاكات مشار، فانتقد صراحة الأسلوب الذى يتبعه سلفاكير، معلنا تحديه لرئاسة الحركة الشعبية، بل وتحديه أيضا فى الانتخابات الرئاسية المنتظر إجراؤها عام 2015.

لقد تصاعدت حدة الانتقادات الموجهة إلى سلفاكير، والتى تمحورت حول تخلصه من الإصلاحيين فى حزبه ومن المحيطين به من أحزاب أخرى وتعيين الموالين له ومن مسقط رأسه والمعتدلين فى المواقف مع السودان فى مناصب قيادية.

•••

واقع الأمر أن سلفاكير فى سعيه لتحقيق قدر من الأمن والاستقرار فى العلاقات بين السودان وجنوب السودان، أبدى قدرا من المرونة فى مواقفه وتجاوبا مع حلول وسط تجاه مواقف الخرطوم بصدد القضايا العالقة وخاصة فيما يتعلق بتقاسم العوائد البترولية. ويبدو أن مشار ومجموعته يرون أن ما قدمه سلفاكير من تنازلات قد تجاوز ما لا يجب تجاوزه.

أما ما جرى مؤخرا من تفاقم للصراع بين الطرفين فقد جاء على خلفية تعليمات من سلفاكير بإلقاء القبض على 11 عضوا قياديا من الحركة الشعبية، وقيام جنود من الدينكا بقتل مدنيين من النوير فى جوبا، واستهداف مقر مشار بمدفعية الحكومة، مما أودى بحياة عناصر من قبيلته بمقره، الأمرالذى دفع ميليشيات النوير إلى الانتقام من مدنيين ينتمون لقبائل الدينكا، ومبادرة قوات مشار بالسيطرة على حقول النفط فى مناطق النوير ليهدد بذلك أكثر من 90% من موارد ميزانية الدولة، وليكرس ويعمق من حدة الصراع على السلطة والثروة.

واقع الأمر أن فرص بدء مفاوضات موضوعية بين وفدى الطرفين المتصارعين بأديس ابابا فى اتساق مع قرارات قمة الإيجاد تستوجب التفاوض أولا حول إنفاذ تلك القرارات والتى تتضمن وقف إطلاق النار والإفراج عن المعتقلين السياسيين وفتح ممرات إنسانية آمنة، وهى مفاوضات تجرى وسط أجواء ضبابية حيث تتواصل المعارك العسكرية على الأرض حتى الآن.

وتنتهى قراءة المشهد السياسى والعسكرى فى جنوب السودان إلى أن ميزان القوى حتى الآن يميل إلى حد ما لصالح مشار، اقتصاديا لسيطرته على حقول النفط، وعسكريا حيث تتألف قواته من ميليشيات متحالفة تضم بجانب النوير (ميليشيات الجيش الأبيض تقدر بحوالى 25 ألف مقاتل)، ميليشيات الشلك والمورلى.

فى الوقت الذى يتمتع فيه سلفاكير بشرعية سياسية تحظى بتأييد إقليمى ودولى، مع تصاعد مخاوف من تدخلات من دول أفريقية بالجوار لدعم موقفه العسكرى فى مواجهة قوات مشار، خاصة مع ما يتردد من اقتراب قوات الجنرال «قديت» الموالى لمشار من العاصمة، وبما يهدد بانتقال الأزمة من الأفرقة إلى التدويل.

•••

ويبدو من قراءة موقف مصر من تطورات الأحداث فى جنوب السودان أنه لم يكن على المستوى المنشود فى أزمة تمس صميم الأمن القومى المصرى واقتصر على تحرك هزيل، فى الوقت الذى كان تحرك دول بالجوار وبأفريقيا على المستوى الوزارى، بل وعلى مستوى رؤساء دول وحكومات أفريقية، ومن خارج القارة على مستوى وزراء ومبعوثين دوليين.

لقد كان من الأجدر أن يتواصل التحرك المصرى فى إطاره الثنائى مع دول الجوار ودول الإيجاد والأخرى المعنية بشأن السودان وجنوب السودان للتنسيق والتشاور حول سبل معالجة الأزمة تحقيقا للأمن والإستقرار والوفاق الوطنى فى الدولة الوليدة حفاظا على وحدتها وسلامة أراضيها، وتجنب أى تهديد للأمن والاستقرار لدول بالجوار وبالتالى بالقارة الأفريقية.

وفى الرأى، يتعين أن يتواكب مع ترتيب الأوضاع الداخلية فى مصر جهود أيضا لاستعادة مصر مكانتها ودورها المتميزين والمتفردين فى أفريقيا بما يتسق وتأمين مصالح مصر ودول القارة، وهو الأمر الذى يثير مجددا أهمية تعيين وزير دولة للشئون الأفريقية أو مبعوث رئاسى دائم لأفريقيا يتولى استعادة الدور المصرى المنشود الذى لم يزل مفقودا فى أفريقيا وليرعى ويحافظ على تلك المصالح المشتركة مع دول القارة وخاصة مع دول الجوار ودول حوض النيل، والاضطلاع بالدور المطلوب فى القضايا الأفريقية الساخنة.

صلاح حليمة مساعد وزير الخارجية الأسبق
التعليقات