فى أمريكا وبقية العالم يتقرر الآن مستقبل الصحافة - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 8:08 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فى أمريكا وبقية العالم يتقرر الآن مستقبل الصحافة

نشر فى : الأربعاء 8 مارس 2017 - 11:10 م | آخر تحديث : الأربعاء 8 مارس 2017 - 11:10 م
«نحن فواعل التاريخ، ما نفعل وما نقول هو الحقيقة. نخلق الجديد كل يوم، بل كل ساعة. نحن نفعل وأنتم تكتبون أو تذيعون وتبثون». هذه العبارة المنقولة من مقابلة أجراها صحفى معروف مع مسئول فى دولة كبيرة تحمل عديد المعانى لمفهوم الصحافة عند بعض المسئولين من ذوى الميول اليمينية. تحمل أولا معنى أن ما يقوله الزعماء ومساعدوهم من المسئولين حقائق لا تقبل التشكيك أو التدقيق علما بأنهما الوظيفتان اللتان لا تقوم صحافة بدونها. تحمل ثانيا معنى أن الصحافة، بكل أنواعها التقليدية والعصرية، لم تكن لتوجد لو لم يكن هناك زعيم ومسئولون آخرون يفعلون ويقولون. بدونهم لن يجد الصحفيون ما يفعلونه، بدونهم لا معنى ولا ضرورة لوجود صحف وصحفيين. تحمل ثالثا معنى أن لا شيء أو كائن آخر فى الدولة يصنع «حقيقة» إلا الزعيم ومن يساعده من الموظفين الكبار، لا اعتبار لمجتمع أو مؤسسات أو أفكار، ولا «حقيقة» إلا ما يصدر عن الدولة ممثلة فى حكومتها رئيسا ووزراء ومساعدين، ما يصدر من خلالهم أو بسببهم. هم الذين يصنعون الواقع وواجب الصحفى التبشير بهذا الواقع الجديد والتعامل معه كحقيقة.

جرت هذه المقابلة فى دولة ديمقراطية تزعمت لعقود عديدة الدعوة لاحترام الحريات ومبادئ الفصل بين السلطات، جرت فى الولايات المتحدة الأمريكية فى عهد الرئيس بوش الصغير، أجراها الصحفى رون ساسكيند مع مسئول كبير فى البيت الأبيض. وقتها كان المحافظون الجدد يهيمنون على عملية صنع السياسة، أكثرهم نشأوا فى مرحلة صعود اليمين فى عقد السبعينيات ثم فى أحضان رئاسة دونالد ريجان. ساد الظن بعدها أن هذا التيار كان يمثل أقصى ما يمكن أن يصل إليه التطرف اليمينى فى الولايات المتحدة، ساد الظن أيضا بأنه بسبب الفشل المريع الذى لحق بالتدخل العسكرى الأمريكى فى العراق، فإنه، أى هذا التيار، سوف ينسحب من دائرة الحكم وينحسر من السياسة الأمريكية عموما، وقد حدث. حدث فعلا أنه انسحب مع عودة الليبراليين إلى الحكم فى عهد الرئيس باراك أوباما وانحسر نفوذه فى مؤسسات الدولة. انسحب وانحسر ولكن ليحل محله، ويكاد يهيمن، يمين أشد تطرفا وتعصبا حمل إلى الحكم فى واشنطن الرئيس دونالد ترامب وجماعاته، ومن بينها أو على رأسها الجماعة المنتسبة إلى بريتبارت، الصحيفة الإلكترونية الشهيرة.

كان متوقعا منذ اليوم الأول فى الحملة الانتخابية أن الصحافة الأمريكية، وأقصد بالصحافة جميع أجهزة الإعلام، أن تهتم بتغطية أخبار المرشح دونالد ترامب، هذا الرجل الدخيل على الحياة السياسية وبخاصة بعد أن تنكر له الحزبان الجمهورى والديمقراطى وسخر منه عديد أفراد النخبة الحاكمة فى أمريكا. أدرك ترامب منذ البداية أن الصحافة سوف تكون عدوه اللدود فى الحملة الانتخابية وأن انتصاره الحقيقى فى النهاية لن يقتصر على فوزه فى الانتخابات، فمعركته مع الصحافة سوف تستمر شرسة حتى وهو رئيس للدولة. عرف ترامب، كما عرف ويعرف كثيرون من الحكام فى أمريكا وخارجها أن الفوز النهائى والمطلق للحاكم لن يتحقق إلا بتحقيق النصر فى معركته مع الصحافة.

***

أعتقد أن تاريخ الصحافة كمهنة سوف يتوقف عند هذه المرحلة باعتبارها واحدة من أهم مراحل التحول فى تاريخها. هى المرحلة التى اجتمعت فيها جملة تطورات من داخل المهنة مع جملة تحولات سياسية فى شتى أنحاء العالم مع لحظة صدام عنيف مع رئيس أكبر دولة ديمقراطية. هو فى الحقيقة صدام يستحق وصفه بمعركة تكسير عظام وفى رأى كاتب هذه السطور هو الصدام الذى سوف تحدد نتيجته مصير هذه المهنة ليس فقط فى أمريكا بل فى العالم كله. أذكر كيف أن محللين أمريكيين عديدين قرروا خلال الحملة الانتخابية الأمريكية أن المرشح ترامب لن يفوز ليس لكونه أميًا فى السياسة الدولية، أو على الأقل غير ملم بمجاريها وقضاياها، وليس لكونه يمثل الفئة الأسوأ سمعة فى قطاع رجال الأعمال، وهو قطاع المراهنات والقمار وتجارة النساء والصفقات المشبوهة فى الداخل والخارج والمتهربين من دفع الضرائب، وليس لكونه لا ينتمى لحزب من الحزبين الرئيسين أو لأنه لم يتول منصبا سياسيا فى حياته، وليس لكونه غير معتمد على تمويل مالى كبير من جماعات ضغط أو قوى مالية نافذة، إنما قرر هذا البعض من المحللين أنه لن يفوز لأنهم تأكدوا من حقيقة أن أكثر من 360 صحيفة أمريكية أعلنت تأييدها للمرشحة هيلارى كلينتون بينما لم تؤيد المرشح ترامب على امتداد الولايات المتحدة طولا وعرضا سوى إحدى عشرة صحيفة لا أكثر، هذه النسب نفسها امتدت إلى شبكات التليفزيون الأمريكية والدولية وغيرها من وسائط الاتصال، حتى إن شبكة فوكس نيوز، ذات الميول اليمينية تخلت عنه لبعض الوقت.

***

لم يكن متصورا أن مرشحا فى دولة تقوم فيها الصحافة، مقروءة كانت أم مرئية أم مسموعة، بدور رئيس فى صنع وتوجيه الرأى العام يفقد ثقة هذه الصحافة ورغم ذلك يفوز فى الانتخابات. لا شك أن نية مختلف الأجهزة الإعلامية كانت قد استقرت على تجاهله. ولا شك، أن دونالد ترامب نجح باستخدام أساليب تميزت بإبداع وقدرة على الابتكار ليجبر الصحافة على التعامل معه وتغطية حملته الانتخابية بحماسة تفوق تغطيتها حملات بقية المرشحين. من هذه الأساليب، التى ربما يكون قد استخدم أحدها سياسى أو زعيم آخر فى مكان آخر من العالم بدرجات متفاوتة من النجاح، أنه اعتمد على خبرة اكتسبها من إدارته لبرامج تليفزيون الواقع. اكتسب مثلا خبرة توظيف كلمات بعينها تنطلق من فمه كطلقات رصاص تصيب من تصيب من المشاهدين، تنتزعهم من مقاعدهم وتثير توترهم وتربك تصرفاتهم. هذه الكلمات لا تصدر عن سيناريو مكتوب سلفا أو معد خصيصا وإنما تلقى تلقائيا وبدون الأخذ فى الاعتبار احتمال وجود أطفال أو نساء أو حضور لهم حساسيات خاصة.

***

استخدم أيضا الكذب ولكن بإبداع وطلاقة. لا شك عندى فى أن خبرته فى تليفزيون الواقع وفى عقد الصفقات ساعدته على اكتساب القدرة على المراوغة والخداع دون الشعور بأى درجة أو نوع من الحرج أو الخجل. هذا الرجل يكذب كما يأكل ويشرب. ولكن كذبه ليس كالكذب المألوف أو العادى، بل هو الكذب الصادم. قيل إن كذبه يجبر المستمع أو المشاهد على أن يفكر مرتين، ويجبر كل صحفى يحترم مهنته أن يترك ما فى يده من قضايا أخرى ملحة ليلجأ لمصادر يدقق عندها قبل النشر فى صحة أو زيف ما صدر عن ترامب، وقبل أن ينتهى الصحفى المحترم من تدقيقه أو قبل أن يعود لينتبه لعمله فى مكان آخر أو فى قضية أخرى يكون ترامب قد ألقى بقذيفة أخرى، أقصد كذبة أخرى. هكذا فرض ترامب نفسه على الصحافة خبرا أوحد وقضية لا تنافسها قضية أخرى. أجبر الصحافة الأمريكية على أن تتفرغ و تتصدى له أمام الرأى العام خصما فى معركة لا هوادة فيها.

ثالثا، استخدم سلاحا لم تتقن استخدامه بعد الصحافة الأمريكية خاصة والعالمية عامة. استخدم الرسائل القصيرة المعروفة بالتغريدات كقنابل متفجرة يستيقظ على دويها الرأى العام وأجهزة الإعلام، كلهم معا وفى وقت واحد. هكذا احتفظ بالمبادرة فى صراعه مع الصحف. عرف أن الصحف لا تقوى على الرد فى لحظتها، وغير مؤهلة للرد بمثل هذا الإيجاز، وغير مزودة بالأعداد الكافية من المحررين الجاهزين لمهمات التحقق والتدقيق فى هذه الرسائل القصيرة المتلاحقة. عرف أن الرأى العام لا يرحم المقصر ولن يصبر فى انتظار نشر مقال طويل أو تحقيق مستفيض يرد على رسالة اطلقها ترامب فى الصباح الباكر وفى الغالب نسيها، أو أطلقها عند نزول الليل وترك الصحفيين يسهرون ليتحققوا ويدققوا ثم ليفاجأهم عند الفجر برسالة تفجّر موضوعا مختلفا كل الاختلاف.

***

رابعا، استخدم، منذ بداية الحملة الانتخابية، قضية كان يعرف أن الصحافة أهملتها وهى قضية عمال الصناعات الثقيلة. خلف إهمال الصحافة ضغينة لدى هؤلاء العمال العاطلين عن العمل إما بسبب انتقال صناعات إلى المكسيك ودول أخرى أو بسبب التحول العام نحو استخدام الإنسان الآلى وتكنولوجيات أخرى حديثة. المهم أن ترامب استطاع تأليب قطاعات عديدة فى الرأى العام وبخاصة المسيحيين الإنجيليين وكثير من البيض من سكان الجنوب والوسط ضد الصحافة، وبخاصة الموصوفة بالليبرالية.

***

أكرر هنا اقتناعى بأن الدائر فى أمريكا حاليا هو حرب تكسير عظام بين ترامب شخصيا وجماعته من جهة والصحافة بمعناها الواسع من جهة أخرى. أكرر اقتناعا آخر، وهو أن هذه الحرب لن تنتهى بفوز ساحق لطرف على الآخر. لا أتصور الصحافة بوضعها الراهن فى العالم كله، كصناعة منهكة ومرتبكة بسبب صعوبات وتكليف التأقلم مع تطورات جذرية فى المهنة وتحت واقع الضربات العنيفة والمطاردات المستمرة من جانب السلطة الحاكمة، تستطيع تحقيق فوز حاسم على حكومات شعبوية وزعماء شعبويين أغلبهم يمثلون تيارات يمينية صاعدة. فى الوقت نفسه لا أتصور أن هذه الحكومات والزعماء الشعبويين قادرون على تحقيق فوز حاسم على الجماعة الصحفية فى دولهم. دافع اقتناعى بسيط، وهو أن الشعبوية حالة مؤقتة بحكم التعريف، والصحافة، بالمعنى العام الواسع، حالة متجددة بحكم التعريف. الحرب بينهما قدر مكتوب وتكلفة باهظة تدفعها الشعوب ووقودها الصحفيون فى كل مكان.

 

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي