التهمة (أيديولوجى) - وائل جمال - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 10:10 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

التهمة (أيديولوجى)

نشر فى : الأحد 8 مايو 2011 - 8:44 ص | آخر تحديث : الأحد 8 مايو 2011 - 8:44 ص

 كان مجرد اعتناق فكر سياسى أو موقف أيديولوجى فى عهد النظام البائد فى حد ذاته وصمة لصاحب الانتماء السياسى. كان مجرد وصف ناشط أو سياسى أو كاتب بأنه «إخوان»، أو «ليبرالى»، أو «يسارى»، أو حتى «له ميول دينية»، يرتبط فورا فى دعاية مباحث أمن الدولة وإعلامييها وسياسييها بأفكار من نوعية «لديهم مصالح سياسية وراء موقفهم فى تأييد المحتجين»، «يتلقون تمويلا من جهات خارجية تساندهم»، أو كما رأينا فى أكثر التهم شيوعا أثناء ثورة مصر وفى كل الثورات العربية: عندهم أجندات خاصة».

وها هو أحد الأحزاب الجديدة التى دخلت الحياة السياسية بصخب إعلانى غير مسبوق يقدم نفسه فى رسالته التسويقية الإعلامية على أنه «حزب البرنامج لا حزب الأيديولوجيات»، ليبنى وجوده على تصور وفكرة ومنطلقات تقول إن هناك عيبا جوهريا فى إنطلاق الأحزاب السياسية من أسس أيديولوجية وعقائد فكرية وسياسية، وإن هناك ضرورة لتجاوز هذه المنطلقات للحفاظ على استقرار مصر، التى تعلو فوق كل أيديولوجيا. فهل فى مصلحة مصر الثورة فعلا وهى تبنى مجتمعها الجديد أن تتخلى عن كل مبدأ سياسي؟ وهل هناك فعلا إمكانية لبرنامج سياسى بلا أيديولوجيا؟ وهل هناك وجود لرؤية تصنع النهضة التى نحلم بها لا تنطلق من تصور شامل للمجتمع ومستقبله والمصالح التى يخدمها؟ وهل فى مقدور حزب سياسى يتطلع لقيادة هذه المهمة أن يكون حقا بلا أيديولوجيا ولا عقيدة سياسية ويعبر عن كل المصالح المتناقضة فى المجتمع؟


عالم بلا أيديولوجيا؟

هناك عشرات التعريفات لهذه الكلمة التى هى مزيج من Idea أو فكرة وlogy التى هى من أصل يونانى وتعنى علم أو حقل فكرى. الأيديولوجيا هى ببساطة مجموعة من الأفكار التى تمثل أهداف المرء وتوقعاته وتصرفاته،ويمكن اعتبارها رؤية شاملة أو طريقة للنظر للعالم وللأشياء أو مجموعة أفكار تمثل مصالح طبقة اجتماعية. وهى فى ذلك قد تكون تعبيرا عن الحكام فتشكل وعيا يخدم بقاءهم أو الراغبين فى التغيير فتمثل مصالحهم، أو مزيجا مختلطا من كل ذلك.

وهناك علاقة وطيدة بين الأيديولوجيا وبين الانحياز. فهى موقف فكرى وعملى وسياسى واجتماعى فى مجتمع تتناقض فيه المصالح بالضرورة.فهل كان يمكن التعايش بين أفكار أحمد عز ومصالحه مثلا مع مصالح وتصورات عامل مطرود من مصنعه بسبب الكساد أو الفساد؟.

وفى العلوم الاجتماعية كالاقتصاد كان هناك دائما من يقول إن هناك ضرورة لتطبيق مباديء العلوم الطبيعية كالفيزياء والكيمياء التى لقوانينها فى حد ذاتها (قبل أن تتحول إلى تطبيقات) صفة الموضوعية بالنسبة للجميع. الكل سيقع من فوق المبنى بنفس السرعة إذا انطبقت نفس شروط الوزن والارتفاع..الخ.

من هذا المنطلق سيطرت فى الاقتصاد، وهو فى صلب أداء المجتمع نظريات تدعى تحوله لعلم شبه طبيعى عبر تطبيق نماذج رياضية تخرج بنتائج غير قابلة للطعن فيها اتضح أن أغلبها كان تبريرا فجا وموجها لسياسات منحازة اجتماعيا وسياسيا كما ظهر فى أزمة علم التمويل ومحللى عالم المال الذين يتقاضون الملايين وفشلوا علميا فى التنبؤ بالأزمة المالية العالمية لتنكشف إدعاءات الموضوعية، وينفضح انحيازهم لرأس المال المالى والشركات الكبرى.

لم تفضح الأزمة المالية فقط من يقولون إن الاقتصاد السائد وأفكاره قدر مبنى على قوانين علمية بل دمرت نظرية سياسية وفكرية أخرى كادت تسود العالم. ففى عام 1989 أعلن المفكر الشهير فرانسيس فوكوياما نهاية التاريخ بانتهاء كل الأيديولوجيات والأفكار الكبرى حول العالم، لصالح فكرة وحيدة «أثبتت تفوقها الكامل» بعد انهيار كتلة الدولة القمعية الستالينية فى الاتحاد السوفييتى وأوروبا الشرقية: الليبرالية الرأسمالية التى تقدم الأساس الوحيد الذى يُمَكِّن الجنس البشرى من أن يتمتع بالسلام والرخاء والحرية. هزت الأزمة المالية، والحروب المتتالية باسم مجابهة الارهاب من قبلها، هذا التصور من دعائمه بعد أن قاد العالم إلى درجة غير مسبوقة من عدم المساواة فى ظل الوفرة.

ويقول المفكر البريطانى الكبير تيرى إيجلتون فى كتابه المبسط عن الأيديولوجيا إن عالم فوكوياما المبشر بنهاية الأيديولوجيا تغاضى عن ظهور مدوى للأصولية الإسلامية قابله بزوغ أيديولوجى ليمين أمريكى مسيحى متطرف قاد به جورج بوش الصغير العالم.

ظل العالم وحتى العلم محكوما بالعقائد السياسية برغم أنف فوكوياما، ويظل كذلك إلى لحظتنا هذه. وانكشفت نهاية الأيديولوجيا والتاريخ كوهم كبير.


مصر تحتاج للأيديولوجيات وللانحيازات المعلنة

على الأرض وفى عالم السياسة والاقتصاد والأحزاب، حتى اولئك الذين يتبنون البراجماتية والعملية التى تقدم نفسها على أنها فوق الأفكار المسبقة، يتبنون أيديولوجيا أو تصورا وعقيدة سياسية. ولا يمكن أن تعمل سياسة أو قانون اقتصادى لمصلحة كل أفراد المجتمع. هناك دائما متضررون وفائزون. لو رفعت الضرائب المباشرة لتمويل عجز الموازنة يتضرر الأفقر أكثر من الأغنى وقد تتظاهر النقابات، ولو قررت الحكومة اتباع ضرائب تصاعدية لتمويل التعليم والصحة لن تكون الشركات ورجال الأعمال سعيدة وربما تقاوم هذا الإجراء. وفى مجتمع قامت فيه ثورة سياسية تمردا على سيطرة قلة مترفة وسياسات منحازة اجتماعيا ضد الأغلبية التى يقبع جزء كبير منها تحت خط الفقر أو تتأرجح على حافته، هل هناك مجال إلا للانحياز لهؤلاء؟

إن من يدافعون عن التغاضى عن التناقض الهائل فى المصالح وبالتالى فى الأفكار والبرامج بعد عقود من سياسات الليبرالية الجديدة، على نمط رأسمالية المحاسيب الذى شهدته مصر، يدافعون عن إصلاح طفيف يحفظ التوازن القديم وإن ببعض المنح والتنازلات وليس نوع التغيير الذى لن يرضى حكام المجتمع الماضى، وأغلبهم مازالوا معنا يحكموننا فى عالم الإنتاج والعيش..فى عالم الاقتصاد.

ماذا ستفعل مع هؤلاء؟ كيف ستخلق حزبا يضم كل هؤلاء معا فى هذه اللحظة وماهى السياسة التى سينفذها لتدافع عن الاثنين معا؟ كيف تنقل العدالة الاجتماعية من شعار مجرد إلى سياسة عملية؟ أى إجابة على أسئلة الواقع تعنى فورا انحيازا اجتماعيا ما ودفاعا عن مصلحة دون أخرى وأخيرا منطلقا فكريا معينا، أمرا لا مهرب منه، حتى إن رفض الحزب الاعتراف بها.

بل أزيد على ذلك أن مشكلة مصر السياسية الآن، التى يحددها البعض بغياب الأحزاب ذات الجذوروسط الجماهير، هى انعكاس لميراث الاشتباه فى الميول السياسية والفكرية كمصدر أساسى لاغنى عنه للرؤى المتكاملة التى نبنى الوطن من خلالها.

لا يكفى تأسيس أحزاب تضم هذا العدد أو ذاك من رجال «محترمين»، أو وجوه مشهورة، أو قيادات نخب غير منسجمة، لصياغة مستقبل البلاد. ولن تعمل تلك الصيغ التوفيقية الفوقية إذا قامت على جمع مالا يمكن جمعه من مصالح وأفكار بادعاء التمثيل الشامل الحصرى لكل المصالح والفئات فى البلاد.

إن مستقبل الوطن ونهضته رهن بالأفكار الكبرى الواضحة التى تمثلها الأيديولوجيات والرؤى السياسية والفكرية الأمينة فى إعلان هويتها، إسلامية أو ليبرالية أو اشتراكية أو أيا كانت، شريطة أن تتجاوز اختبارين لافكاك منهما: اختبار الواقع الذى لم يرحم التطرف اليمينى لاقتصاد السوق بعد أن أسقط حكم الأحزاب الواحدة وبيروقراطية الستالينية قبلها بعقدين. اختبار الواقع وهو اختبار قاسٍ يفرض مرونة الأفكار وحيويتها وقدرتها على الاستجابة الناجحة لتطلعات الأغلبية.

أما الاختبار الثانى فهو اختبار المصالح: لمن تعمل أفكارك ومن يدفع ثمنها؟ ما الفئات الاجتماعية التى تمثلها وكيف توفق بينها؟ ما موقفك من أغلبية المجتمع من المنتجين والعمال والطلاب والمهنيين الذى صنعوا الثورة ويحلمون بعالم حر وعادل؟ أين مكانهم فى برنامجك وكيف تسلحهم بالتعليم والصحة وحسن العيش وتحميهم من الاحتكار والفساد وغلو الأغنياء؟ ولا إجابة على هذه الأسئلة تخلو من أيديولوجيا ولا نهضة للوطن دون الحوار بل والصراع الفكرى والسياسى بين الأحزاب والأيديولوجيات المختلفة التى تتبناها.


وائل جمال كاتب صحفي
التعليقات