مقدمات 5 يونيو 1967 - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 8:19 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مقدمات 5 يونيو 1967

نشر فى : الإثنين 8 يونيو 2015 - 10:00 ص | آخر تحديث : الإثنين 8 يونيو 2015 - 10:00 ص

تركت هزيمة العرب أمام العصابات الصهيونية فى 1947 وقيام الكيان الصهيونى تحت رعاية الولايات المتحدة وإذعان الأمم المتحدة فى 1948 ــ آثارا عميقة على المشرق العربى، فجرت سلسلة من الانقلابات والثورات، بدءا من منطقة الشام التى زُرع الكيان الدخيل فى قلبها على حساب الشعب الفلسطينى ليظل مشردا حتى يومنا هذا.

وكان أول رد فعل هو الانقلاب الذى تزعمه الزعيم حسنى الزعيم فى سوريا فى مارس 1949 وجمع به بين رئاسة الدولة والحكومة والسلطة التشريع بتأييد من الأحزاب القائمة والشعب بأمل تخلص البلد من الركود الذى عانت منه عقب استقلالها ودخولها فى اتحاد جمركى مع لبنان، ومحاولة إقامة وحدة معه رفضها الأخير، وظل رافعا شعار وحدة الهلال الخصيب يلقون اللوم على ما فرضه اتفاق سايكس ــ بيكو ووعد بلفور، رغم أن المنطقة ظلت مقسمة إلى ولايات عديدة خلال فترات الخلافة الإسلامية ومقرا للخلافة الأموية التى جعلت من الخلافة مدخلا إلى إقامة إمبراطورية تبسط هيمنتها باسم الدين. وأقر الزعيم مع باقى الدول العربية هدنة مع إسرائيل، وتحالف مع فاروق ملك مصر والسعودية متراجعا عن مشروعى سوريا الكبرى والهلال الخصيب، فتدنت شعبيته رغم الإصلاحات التى أدخلها على نظام الحكم خلال فترة حكمه القصيرة. وتوالى بعده نحو 20 انقلابا، بدءا بانقلاب الحناوى الذى أنهى فترة حكمه فى 14 أغسطس 1949. ورغم أن شباب الجيش المصرى قد قاموا بثورة فى 23 يوليو 1952 إلا أن الأمر كان شديد الاختلاف، لأنهم عندما أعملوا الفكر فى تحليل أسباب الهزيمة، ردوها إلى جذورها الداخلية المتمثلة فى التركيبة الاجتماعية والخلل الاقتصادى واستمرار سيطرة بريطانيا رغم عقد معاهدة الشرف والاستقلال فى 1936 وإنهاء الامتيازات الأجنبية التى خلفها العثمانيون واستسلم لها محمد على وخلفاؤه.

•••

كانت القلاقل فى سوريا باعثا على التخوف من تكرار الصورة فى مصر. فانحاز فريق من رجال الثورة إلى دعوة محمد نجيب الذى قام بمهمة تقديم رئاسة لها احترامها لدى الشعب ومختلف فصائل الجيش، للعودة إلى النظام البرلمانى، وهو ما كان يعيد سيطرة الفئات التى ارتبطت مصالحها بالمستعمر وتحالفت مع السراى على حساب الغالبية التى أدرجها طه حسين فى زمرة «المعذبون فى الأرض». وكان من هذا الفريق من يؤيد إعطاء مساحة للإخوان المسلمين أملا فى أن تشكل الواجهة الدينية قوة جذب للشعب المؤمن بالسلفية. وذهب فريق آخر بقيادة خالد محيى الدين إلى الدعوة بإقامة نظام اشتراكى باعتباره خير نظام يحقق انعتاقا من روابط الاستعمار ويعيد لقوى الشعب العاملة حقوقها وينقذها من سيطرة الاقطاع والاحتكار التى أعلنت الثورة حربها عليها. غير أن عبدالناصر قاد الدفة نحو توطيد أركان نظام اجتماعى سليم أعاقته النظم السياسية الفاسدة والاقتصادية المشوهة، فلم يقبل تلك الحلول، وقرر إقامة دولة ترعى تنمية توفر دعائم نظام سياسى سليم وتبنى اقتصادا متطورا يتعامل بصورة مستقلة مع باقى العالم وتعود خيراته على تحالف قوى الشعب العاملة فيشتد عودها وتصبح مؤهلة للإمساك بزمام الأمور.

وكانت هذه الرؤية مناهضة للفكر الرأسمالى القائم على ملكية طبقة بعينها لرأس المال باعتباره القادر على، والراغب فى مواصلة النمو، كما أنها مغايرة للماركسية اللينينية التى تعزو التغيرات الاجتماعية إلى ما يتعرض له المجتمع من تطور اقتصادى، وهو ما أطلق عليه سمير أمين اسم المنهج اللارأسمالى. ورفض عبدالناصر تسميته الاشتراكية العربية وفضل تسميته التطبيق العربى للاشتراكية. ومع ذلك وجد فيه الاتحاد السوفييتى سندا فى سعيه لإزاحة الاستعمار الرأسمالى عن منطقة متاخمة كانت القوى الرأسمالية تريد تكبيلها بأحلاف معه فى حربها الباردة معه. وأدركت تلك القوى مدى خطورة اشتداد ساعد هذا المنهج البديل الذى لقى صدى واسعا فى جماعة عدم الانحياز، ووجدت فيه الدول الصغيرة المكافحة من أجل الاستقلال، خاصة فى أفريقيا، بما فيها الجزائر العربية سبيلا واعدا.

•••

وإذا كانت الخمسينيات بمنازعاتها الداخلية وبالعدوان الثلاثى الذى كشف خطورة تغلغل الأجانب فى قطاعات الوساطة والمال وتحكمها بالتالى فى قرارات الإنتاج التى كان لابد من تحريرها لإقامة قطاع صناعى يشكل العاملون فيه قوة شعبية فى مواجهة المالكين لرأس المال، فإن استعادة مقومات الاستقرار أفسح المجال أمام إدارة شؤون البلاد اعتمادا على خطة شاملة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. وتطلب هذا تأهيل الجهاز الإدارى للقيام بواجبات مستحدثة تجاوزت شؤون الإدارة العامة، وهو ما ساهم فيه معهد التخطيط القومى. كما أن دخول الدولة بقوة فى الصناعات المدنية والحربية اقتضى إنشاء معهد الإدارة العليا. وفى الحالتين استغلت الخمسينيات فى إيفاد متدربين إلى الخارج للتعمق فى الأساليب المتفاوتة لإدارة النشاطين التخطيطى والإنتاجى. كما استقل قسما الاقتصاد والعلوم السياسية عن كلية التجارة بجامعة القاهرة.

شهدت الستينيات تصاعد وتيرة بناء دولة قادرة على إرساء قواعد تنمية بديلة.. لا شرقية ولا غربية. ففى بدايتها انطلقت أول خطة للتنمية فى ظل الوحدة مع سوريا، وأظهر تنفيذها ثغرات جرى سدها من خلال تأميم بعض الأنشطة التى وجدت منها مدخلا لنهب مخصصات الاستثمار، لاسيما فى قطاع التشييد، وجرى تعزيز قواعد برنامج الإصلاح الزراعى، وأوضحت عدم قدرة الأجهزة التنفيذية على مجاراة سرعة عجلة التنمية، فتحول ديوان المحاسبة إلى جهاز مركزى للمحاسبات، وضمت مصلحة الإحصاء والتعداد إلى الجهاز المركزى للتعبئة لتمكين الدولة من النهوض بقاعدة البيانات وإزالة التضارب بين المصادر المختلفة وإحكام متابعة الخطة وتقييم الأداء. وساعدت الطفرة التى أحدثها نجاح البرنامج الصناعى الأول الذى أعده المهندس الدكتور عزيز صدقى وأدرج ضمن الخطة على تزايد الثقة فى إمكان بناء صرح صناعى شامخ، يسد الثغرة التى تتسلل من خلالها الرأسمالية العالمية لتواصل استعمارها المقنع، فقررت إيقاف العجلة قبل أن تتحول إلى نموذج ينقذ العالم الثالث من أيدى استعمار كان لازما لتقدمها.

من جهة أخرى جرت محاولات لتعزيز الذراع التعاونية لثلاثية المجتمع الاشتراكى الديمقراطى التعاونى التى أخذ بها تنظيم الاتحاد القومى، ونضجت الصيغة الاشتراكية معززة بمعهد للدراسات الاشتراكية ومجلس لرعاية الشباب إلى جانب إشاعة قصور الثقافة لتتغلغل فى الكفور والنجوع مزيلة عنها أتربة الإهمال التى أهالها عليها الإقطاع، واستخدمت الإذاعة ثم التليفزيون فى الوصول إلى جميع أرجاء الدولة وامتدت إلى الوطن العربى والقارة الأفريقية فأفاق الأفارقة على صوت الحرية، ولعبت شركات المقاولات والنصر للاستيراد والتصدير على إنعاش الحركة الاقتصادية فى دول استغلها الأوروبيون أسوأ استغلال معتمدين على وسطاء عرب، لبنانيين وسوريين بوجه خاص.

•••

غير أن تشجيع النزعة الاستهلاكية التى اعتقد المشرفون على السياسة التنفيذية برئاسة على صبرى أضعفت من إمكانيات الادخار المحلى، ظنا منهم أن هذا فيه إشعار بجدوى التحول الاشتراكى، واتجهت وحدات من القطاع العام تضطر إلى الاعتماد على قروض أجنبية أصبحت نذيرا بالخطر.

ورغم تعدد وحدات الاتحاد الاشتراكى فإنه تحول إلى شِلل، بعضها قاوم عزيز صدقى وأطلق عليه أبو لمعة. كانت هناك نجاحات مبهرة مثل استكمال بناء السد العالى، واتضاح أهمية تطوير إقليم أسوان وهو ما تولاه عزت سلامة (ربما لإبعاده عن مركز القيادة فى القاهرة)، ولكن البنيان القومى احتاج لاستعادة ترابطه فتولى زكريا محيى الدين هذه المهمة، واتخذ خطوات هامة كان يكلفنى بإعداد دراسات لها.

وعندما شعر بعض الزملاء بطبول الحرب تقرع قام نبيل شعث ورمزى زكى الأستاذان بمعهد الإدارة العليا بالدعوة إلى محاضرات أسبوعية، كان نصيبى منها «اقتصاديات الحرب والتعبئة» حددا لها الخميس 8 يونيو 1967 وأصررت على إلقائها لأننا إذا كنا خسرنا معركة فإن علينا الإعداد لكسب الحرب. وفى ظل التطورات سالفة الذكر بدأتها بعبارة أنها ليست حربا للاستيلاء على قطعة أرض، بل على نمط مستقل للتنمية. ومازالت الأحداث تتوالى لتثبت صواب هذا التعريف. وعلينا الآن أن نواصل ما قطعه السادات وخلفاؤه من المضى نحو إعادته إلى نهج عبدالناصر.

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات