سؤال الهزيمة الأكبر: لماذا يتجدد نظام يوليو 1952 دون ارتقاء؟! - عبد العظيم حماد - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 6:30 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

سؤال الهزيمة الأكبر: لماذا يتجدد نظام يوليو 1952 دون ارتقاء؟!

نشر فى : الخميس 8 يونيو 2017 - 8:45 م | آخر تحديث : الخميس 8 يونيو 2017 - 8:45 م
عادت أسئلة هزيمة يونيو 1967 تلح على أذهان أغلب المثقفين المصريين الجادين فى ذكراها الخمسين، وإن كان هذا يعنى أن مصر لم تتجاوز بعد هذه الهزيمة، وآثارها الممتدة حتى اليوم، والغد، إلى ما شاء الله، فإنه يعنى كذلك أن معظم هذه الأسئلة لم تجد بعد إجاباتها النهائية، بل إن بعضها لم يجد محاولات للإجابة من الأصل.
مثلا: لماذا لم تنشر الدولة المصرية وثائق تلك الحقبة على الرغم من انقضاء فترة الثلاثين عاما التى حددها القانون لسرية الوثائق، فإذا كانت الإجابة هى أن أحداث الأزمة التى سبقت أيام الحرب الستة، وأدت إليها، لم توثق بالمعنى المنضبط للتوثيق بحكم سيادة الأداء الارتجالى على قمة السلطة وقتها، فإن المؤكد أن التحقيقات «الفنية» والقضائية التى جرت فى القوات المسلحة، وجهاز المخابرات العامة، وكذلك المناقشات التى دارت فى الاتحاد الاشتراكى، والحكومة قد وثقت، فماذا يمنع من نشرها، أو إتاحتها للمؤرخين والباحثين السياسيين؟
لابد أن هناك مانعا مصطنعا بوعى وقصد كاملين، لأنه يحقق مصلحة مستمرة للسلطة منذ يوم وقوع الهزيمة، وحتى يومنا هذا، فما هى هذه المصلحة؟
يقينا تتمثل هذه المصلحة فى أن عدم كشف الحقائق كاملة يحتفظ لهذا النظام بكثيرمن أوراق التوت التى تستبقى له خاصية المناعة ضد المساءلة والمشاركة، والقدرة الفريدة على التجدد الذاتى، ولكن دون ارتقاء، بالمخالفة الصارخة لكل قوانين التطور البيولوجى، والاجتماعى، التى كشفت للعقل الإنسانى أن التطور يؤدى – حتما ــ إلى الارتقاء، أو أن الارتقاء لا يتأتى إلا بالتطور، وأن الكائن (ومن ثم المجتمع أو نظام الحكم) الذى لا يرتقى فى سلم التطور، فإنه ينحدر على ذلك السلم حتى يبيد، أو يهبط إلى أدنى المراتب.
فعلى الرغم مما بين عهود يوليو الأربعة من تباينات تصل إلى حد التناقض، اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا فى الداخل، وفى التوجهات الوطنية، والتحالفات الدولية، بل و الحزازات الشخصية، على الرغم من ذلك كله، أى على الرغم مما بين هذه العهود من ظواهر انقطاع، فإنها احتفظت بعوامل استمرار، منها ما هو إجرائى، وظرفى، ومنها ما هو بنيوى أصيل، وهذا النوع، هو الذى نود أن نركز عليه فى هذه السطور.
نستطيع أن نلخص العامل المشترك الأعظم بين تلك العهود الأربعة، والذى ضمن للنظام خاصية التطور دون ارتقاء، فى حرصه الواعى على التعقيم المستمر للمجتمع، بحيث لا يتولد فيه البديل الممكن، أولا تتكون فى أحشائه قوى ضغط كفيلة، بإحداث التطور الارتقائى.
البعض اختار مصطلح تجريف السياسة عنوانا لهذه القدرة، ولكن هذا المصطلح لا يكفى للتفسير هنا، ومما يثبت هذه الملاحظة أن العالم عرف نظما مماثلة لنظام ضباط يوليو 1952 نجحت فى تجريف مجتمعاتها من السياسة، ولكن ما إن ضعف النظام، أو منى بهزيمة كبرى كهزيمة 1967 فى مصر، أو بدا فشله مؤكدا، فإن «السياسة» كانت تنطلق من عقالها، لا لتملأ الفراغ فحسب، ولكن لتحقق النجاح المتصل فى كل الميادين بما فى ذلك عبور المراحل الانتقالية بأمان، والمقصود بالسياسة هنا هو القوى المنظمة التى تمثل تكوينات اجتماعية، واختيارات فكرية، وفى الوقت نفسه تفرز قيادات مقنعة، وكوادر لديها الخبرات اللازمة.
الأمثلة كثيرة ونخص منها إسبانيا والبرتغال، فى أوروبا الغربية، وبولندا وتشيكو سلوفاكيا فى أوروبا الوسطى ومعظم دول أمريكا اللاتينية، وإذا عدنا قليلا إلى الوراء يمكن ضم ألمانيا وإيطاليا واليابان إلى هذه القائمة.
فلا أحد يجادل فى أن الديكتاتورية االعسكرية فى كل تلك البلدان جرفت السياسة فيها، وعلى نحو أكثر شمولا، وبوسائل أكثر بشاعة مما فعل نظام الضباط فى مصر، ومع ذلك فقد نهضت السياسة فيها كلها من جديد، فور سقوط النظم الحاكمة فى كل منها، والسبب هو أن مجتمعاتها لم «تعقم»، إذ بقى فيها نظام جيد للتعليم، ومعدلات كبيرة من النمو الاقتصادى، وشبكات فعالة من التنظيمات النقابية والطلابية والمهنية، ومثيلتها فى المجتمع المدنى، ولو حول الكنائس، وصولا إلى الأحزاب السياسية.
العبرة إذن هى أن تجريف السياسة دون تعقيم المجتمعات أولا بأول لا يمنع من ظهور البديل المناسب للنظام الفاشل أو المهزوم، وليست هذه هى حال المجتمع المصرى مع نظام ضباط يوليو 1952، إذ لم يكتف الضباط بحل الأحزاب بعد استيلائهم على السلطة، بل إنهم طبقوا خطة منهجية، لتفكيك، ثم إذابة بقية التنظيمات النقابية، والمهنية، بل إن «الجمعيات الخيرية» لم تسلم من هذا المصير، وبلغ السخف مدا تأميم مستشفيات، ومدارس، هذه الجمعيات، ليس فقط الجمعية الخيرية الاسلامية، أو الجمعية الخيرية القبطية، أو جمعية المساعى المشكورة، وجمعية المبرة، وجمعية المواساة، ولكن أيضا جمعية الرفق بالحيوان!! وبالطبع كان تحجيم الجمعيات العلمية وحصارها داخل أسوارها من أولويات الضباط، ليتوقف دورها التنويرى العام، ثم ليضمحل دورها العلمى المتخصص، بما فى ذلك الجمعيات التى لا تعنى مباشرة بالاقتصاد والسياسة والاجتماع والقانون، كالجمعية الجغرافية، وسائر الجمعيات الطبية والهندسية، بل ومنتجى القطن والبطاطس !!
لذلك فبمجرد أن قررت السلطة الانسحاب بالدولة تدريجيا من أداء وظائفها الخدمية بحجة الأزمة الاقتصادية، خصوصا فى عهد حسنى مبارك المتطاول، فإن المجتمع لم يستطع ملء الفراغ، خاصة فى ميدان التعليم، والثقافة العامة، بل إن التعليم ذاته تحول إلى «سلعة»، بمعنى تحول مؤسساته الخاصة إلى «بيزنيس» أى منشآت هدفها الأول والأخير هو الربح المالى، وهذا وضع لا نظير له حتى فى أكثر الدول إيمانا بالرأسمالية.
ولإبقاء المجتمع معقما ومذعنا، جرى ويجرى ضرب أية محاولة – مهما يصغر شأنها – للتنظيم الاجتماعى المستقل، وأذكر هنا مثالا واحدا، لكنه بالغ الدلالة فى إثبات ملاحظتنا، ففى بداية نشأة ظاهرة «الكومباوندات السكنية»، حاول السكان الملاك فى واحد من أوائلها ظهورا، تنظيم أنفسهم فى جمعية مشهرة، تختار ممثلين عنهم لدى إدارة الكومباوند، فكيف استقبلت الإدارة، والأهم كيف استقبلت الدولة هذه المحاولة؟ لقد استدعت الإدارة مباحث أمن الدولة، وقضى «النشطاء» فى ذلك الكومباوند أياما تحت الاتهام والتحقيق، ثم نبه عليهم ألا يعاودوا الكرة!!.
لكل ذلك لم يكن مستغربا أن يموت الرئيس أنور السادات، وجميع الاحزاب مجمدة، وجميع النقابات فى مصر تحت الحراسة القضائية، كطريقة غير مباشرة للتعقيم، فى حين كانت الطريقة مباشرة فى عهد سلفه جمال عبدالناصر، من خلال اشتراط عضوية الاتحاد الاشتراكى للحصول على عضوية أية نقابة، وقد واصل حسنى مبارك طريقة السادات، وتوسع فيها.
ولذلك أيضا كان من الطبيعى أن تتغير قوانين الانتخابات، كلما ظهر من التطبيق ثغرة يمكن أن تنفذ منها أحزاب مستقلة إلى التمثيل البرلمانى.
ولذلك ثالثا فمن الطبيعى أن تمر عهود ثلاثة من نظام يوليو دون صدور قانون حرية تداول المعلومات، أو قانون محاكمة الوزراء، أو قانون النقابات العمالية المستقلة، وأن يبقى الحال على ما هو عليه فى عهد نظام يوليو الرابع، بل ويضاف إليه تشريعات وإجراءات جديدة تقضى على أية بذور بذرتها ثورة يناير 2011، ويونيو 2013، يمكن أن تثمر مع الأيام بديلا محتملا، أو قوة ضغط تدفع التطور السياسى فى مصر نحو الارتقاء.
فرأينا قوانين تنزع البقية الباقية من استقلال القضاء، والاجهزة الرقابية، ورأينا محاولات لتدجين الأزهر، فضلا عن تجميد الانتخابات الطلابية، وانتخابات المجالس المحلية، وإلغاء قوانين انتخابات رؤساء الجامعات، وعمداء الكليات، كما رأينا تجميد مشروع قانون النقابات العمالية الحرة، وأخيرا وقد لا يكون آخرا، صدر قانون الجمعيات الأهلية، الذى يستكمل هذه الدائرة العقيمة والمعقمة،مع غياب أية جهود أو نيات جادة للنهوض بالتعليم، بل والغضب العلنى من أية مطالب بنهضة تعليمية، ويعنى ذلك فى مجمله مزيدا من الهبوط على سلم التطور. ************************************
ربما نكون قد وفقنا فى السطور السابقة فى الإجابة عن سؤال هزيمة يونيو 1967 الأكبر، ولكن يبقى سؤال المستقبل معلقا، أقصد السؤال عن مصير البذور التى ألقتها ثورة يناير فى تربة المجتمع المصرى؟
لا أملك إجابة نهائية، ولكن حركة التاريخ تحتم التفاؤل، لأن الأجيال التى تمردت على دولة يوليو ستظل عصية على التعقيم، فى عالم مستمر فى الاختلاف عن العالم الذى عرفته الأجيال السابقة.

 

عبد العظيم حماد رئيس تحرير جريدة الشروق السابق. كاتب صحفي مصري بارز ، وشغل عدة مناصب صحفية مرموقة على مدار تاريخه المهني.ولد عام 1950 ، وحصل على بكالوريوس العلوم السياسية ، وعمل كمحرر ومعلق سياسي منذ عام 1973 ، سواء في الإذاعة والتليفزيون أو في مجلة أكتوبر أو في جريدة الأهرام ، وكان مديرا لتحرير الأهرام الدولي في أوروبا ، وكبيرا لمراسلي الأهرام في منطقة وسط أوروبا ، وله مؤلفات وأبحاث وكتابان مترجمان ودراسات دولية متنوعة.