الذى لم يكن انقلابًا - عبد الله السناوي - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 9:54 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الذى لم يكن انقلابًا

نشر فى : الإثنين 8 يوليه 2013 - 9:50 ص | آخر تحديث : الإثنين 8 يوليه 2013 - 9:50 ص

لأول مرة منذ حرب أكتوبر قبل أربعين سنة تجرى فى مصر تحولات جوهرية فى بنية الدولة وصناعة القرار فيها بلا استئذان مسبق أو إشارات خضراء من واشنطن.

 

مفاجأة ما جرى أربكت البيت الأبيض الأمريكى، فلم يكن مرتاحا لتدخل الجيش لكنه لم يكن مستعدا أن يضحى بمصالحه الاستراتيجية فى أكثر البلدان أهمية فى الشرق الأوسط.

 

لم تصف الإدارة تدخل الجيش بالانقلاب لكنها بدت أكثر توجسا فى التعاطى مع عزل «محمد مرسى» على غير النحو الذى تصرفت به أثناء إطاحة «حسنى مبارك»، رغم أن الثانى أقرب من الأول وأدواره فى خدمة الاستراتيجية الأمريكية اتصلت لثلاثين سنة.

 

الرهان على «مرسى» يتجاوز الرجل إلى أدواره والتفاهمات التى جرت مع جماعته قبل يناير وبعده لضمان مستقبل المعاهدة المصرية ــ الإسرائيلية وإعادة تأهيل حركة حماس لمقتضيات تسوية تطبخ على نار هادئة للقضية الفلسطينية تنهيها عمليا بلا صداع استراتيجى كبير، والرهان ذاته يتجاوزه مرة أخرى فى ترتيبات إقليمية تعد لمرحلة ما بعد «بشار الأسد» تتقرر فيها مصائر دول المشرق العربى..

 

وقد أبدى «مرسى» استعدادا فوق كل توقع وتصور للمضى فيما تطلبه السياسة الأمريكية أو توحى به مندفعا إلى الحوادث المشتعلة بخطاب مذهبى يعمق الصراعات فى المنطقة ما بين سنى وشيعى بلا تحسب لمصالح الأمن القومى المصرى وضروراته على النحو العشوائى الذى قطع به العلاقات مع سوريا.

 

لا أحد فى واشنطن يعنيه «محمد مرسى» ولا مصيره السياسى والإنسانى، وكل ما يزعج يتعلق بخيارات اختلفت الآن، وما هو غامض بطبيعته يثير القلق، وهناك خشية أن تجرى التطورات المصرية بالقرب من خيارات «جمال عبدالناصر» الإقليمية.

 

معضلة «مرسى» أن تقاليد الجيش تعود إلى الحقبة الناصرية ومفاهيمها للأمن القومى، رغم الخروقات الفادحة التى جرت على نحو ثلاثين عاما متصلة، بينما توجهاته تلتفت إلى اتجاهات أخرى تنقطع أواصرها مع ما استقر فى العقيدة العسكرية.

 

لم يستأذن الجيش المصرى هذه المرة البنتاجون الأمريكى، ففى مرتين سابقتين كانت هناك إشاراتا مرور لإطاحة رجلين قويين على التوالى، أولهما الصديق القديم «حسنى مبارك»، الذى كان يوصف بالكنز الاستراتيجى لإسرائيل لكنه استهلك دوره وبات عبئا على السياسة الأمريكية.. وثانيهما المشير «حسين طنطاوى»، لم تكن مستريحة إليه تماما، لكنه لم يقف حائلا دون ضغوطاتها التى أفضت إلى إجهاض ثورة يناير، ولم تكن لديها مشكلة فى إطاحته تمكينا للرئيس الجديد وجماعته.

 

المثير للالتفات فى تناقضات المواقف الأمريكية أن السلطة نقلت فى أعقاب يناير إلى حكم عسكرى مباشر تقبلته ورحبت به واعتبرت ما جرى ثورة أبهرت العالم.. بينما تحفظت على نقل السلطة مؤقتا فى أعقاب يونيو إلى رئيس المحكمة الدستورية العليا، وقضاة المحاكم العليا فى العالم يوصفون عادة بـ«عراقة فى الأسلوب وعراقة فى المدرسة».

 

فى حالتى يناير ويونيو هناك ثورة شعبية تدفقت فيها الجموع لإعادة صياغة التاريخ من جديد وحقائق القوة على مسارحه، وفيهما تدخل الجيش مرة برفض إطلاق الرصاص على المتظاهرين السلميين والضغط الصامت على الرئيس الأسبق للتنحى عن الحكم، ومرة لمنع الاحتراب الأهلى والضغط على الرئيس السابق لقبول انتخابات رئاسية مبكرة.

 

فى المرتين كان هناك تدخل للجيش فى المشهد السياسى لكن بدرجتين مختلفتين، اعتبر الأول فى الخطاب الإعلامى الغربى ثوريا بينما نظر إلى الثانى كانقلاب عسكرى. لم تكن هناك فروق جوهرية فى التدخلين، لكن المصالح اختلفت هذه المرة، فالأساس فى الحالتين الإرادة الشعبية. المثير هنا أن زخم الاحتجاجات فى يونيو أكبر حجما واكثر إبهارا.

 

فى حركة الحوادث بدا قائد الجيش «عبدالفتاح السيسى» كلاعب شطرنج يدرك مراكز القوة على رقعة اللعبة ويحرك بيادقه بحساب، عنده خططه وخططه البديلة.. هو رجل متدين لكنه يرفض فكرة الدولة الدينية، توجهه ناصرى لكنه لا يعمل على إعادة إنتاج تجربة يوليو، رؤيته الاستراتيجية واسعة ومطلعة على العالم، حذر كرجل استخبارات عسكرية يعرف مواطن أقدام، حاول بقدر ما يستطيع تجديد شباب القوات المسلحة وإعادة تأهيلها من جديد بعد تجربة مريرة فى الحكم أساءت إلى صورتها، ضبط أعصابه إلى أقصى حد ممكن من الاستفزازات التى كانت تتعرض لها من حين إلى آخر، استوعب الغضب حوله.

 

لم يكن مستعدا على أى نحو لعمل انقلابى، فهو يدرك مغبته وعواقبه ولا يريد أن يدفع بالجيش المصرى فى العمل السياسى لكنه كان مقتنعا بأن التدخل قد يكون إجباريا لمنع انهيار الدولة أو قبل الفوضى بخطوة واحدة وإلا فإن الجيش سوف يكون طرفا فيها.

 

لم يفاجأ تماما بالثورة، فتدهور مستويات الأداء العام باد أمامه، وتخبط الرئاسة فى ملفات الأمن القومى تجاوز كل حد، وكانت ملفات سيناء والإرهاب فيها والعصيان المدنى فى بورسعيد المدينة الأكثر استراتيجية وإدارة أزمتى مياه النيل وسوريا داعية إلى التساؤل داخل الجيش عن مدى أهلية الرئيس للحكم.

 

كان الانحياز ليونيو ومظاهراته طبيعيا، فالبنية الاجتماعية لضباط الجيش تنتسب إلى الطبقة الوسطى التى دأبت على مناهضة فكرة بناء دولة دينية فى مصر. رأى الجيش أمامه رئيسا يلوح بالاحتراب الأهلى، ينكر الحقائق حوله وأشباح الفوضى فى خلفية المشهد وانهيار الدولة ماثل فيه، يرفض الانتخابات الرئاسية المبكرة، ويلخص الشرعية فى شخصه دون أن يدرك أن شرعيته تقوضت.

 

كان تدخل الجيش محتما للوقوف بجوار الإرادة الشعبية ضد حكم فقد رشده واتزانه واتصاله بالواقع مهددا باستخدام المحاكم العسكرية لمحاكمة الصحفيين!

 

قبل أن يتدخل الجيش مباشرة حسم وحدته الداخلية وأقسم القادة العسكريون على المصحف الشريف بأن يكونوا يدا واحدة وإرادة واحدة، وأن يتقدموا بلا تراجع للوقوف بجوار الشعب وإنهاء حكم ظلامى.

 

أثناء المواجهات الدموية ومحاولات جر الجيش إلى صدامات للضغط لإعادة «مرسى» إلى السلطة بدت المواقف مرة أخرى داخل المؤسسة العسكرية متسقة مع مقدماتها.. «لن يعود أبدا»، و«لن نتراجع مهما كانت الضغوط والتحديات والأثمان»، على ما قال الفريق أول «عبدالفتاح السيسى» للقادة العسكريين.

 

للجيش المصرى صلة فريدة بشعبه، والمصرى العادى يثق فيه ويعتبره العامود الفقرى للدولة بدونه فإن حياته تفتقد سندها، وهذه العلاقة الاستثنائية تعود إلى تأسيس الدولة الحديثة على عهد محمد على (١٨٠٥) فقد نهضت على ركيزتين، أولاهما الجيش الحديث الذى دمج بالتدريج أولاد الفلاحين فيه إلى أن جرى تمصيره بالكامل، وهو قاعدة الدولة وسند الشرعية فيها، خاض حروب مصر واحدة تلو أخرى، انهزم وانتصر، تدخل أربعة مرات لحسم خيارات التاريخ المصرى بدءا من ثورتى «أحمد عرابى» و«جمال عبدالناصر» إلى يناير ويونيو..

 

وثانيتهما البعثات التعليمية التى أرسلت إلى فرنسا، وقد أسست بفضل «رفاعة الطهطاوى» لدولة جديدة تتصل بعصرها وتنفتح أمامها العلوم والثقافات ومناهج التعليم الحديثة، ومشكلة جماعة الإخوان المسلمين أنها اصطدمت بالركيزتين معا، الدولة بمعناها الحديث والجيش قاعدتها الصلبة.. والمثقفون والفئات الأكثر تعلما فى المناطق الحضرية بمعايير التنمية البشرية، قبل أن يخسروا الفئات الاكثر عوزا التى اعتادت أن تمنحهم أصواتها فى صناديق الاقتراع.

 

المثير للالتفات عند تدخل الجيش أن الدولة بدت متماسكة وقوية بكامل مؤسساتها وعافيتها كما لم يحدث منذ منتصف السبعينيات،  فالشرطة صالحت شعبها فى الميدان ومؤسسة القضاء أكدت حضوره ونزعتها للاستقلال، والخارجية تحركت بفاعلية لافتة غابت عنها لنحو عقدين، كأن كل ما بنته الجماعة قصور على رمال ذرتها إعصار يونيو وثورته.

 

الدولة هى الحقيقة الكبرى فى التاريخ المصرى الحديث، والصدام معها تكلفته باهظة على مستقبل جماعة و جدت نفسها فى عزلة عن مجتمعها وفجوات الكراهية معه تعمقت.

 

أدارت جماعة «الإخوان المسلمين» أزمة إطاحة رجلها فى القصر الجمهورى بالطريقة ذاتها التى جعلت من هذه الإطاحة مسألة محتمة. عاندت الحقائق ولم تر عشرات الملايين التى احتشدت فى (٣٠) يونيو بصورة لا مثيل لها فى التاريخ الإنسانى الحديث كله، وفى الجمعة الدامية ذهبت إلى احتراب أهلى أقرب إلى الانتحار التاريخى.

 

تصرفت كـ«ميليشيات» تستخدم السلاح ضد مواطنيها، تعتلى أسطح البنايات فى منطقة سيدى جابر وتقذف بشابين من فوق إحداها والصور بذاتها جريمة ضد الإنسانية تنزع عنها أخلاقياتها وأحقيتها فى الحكم معا، حاولت استنساخ موقعة «الجمل» عند مدخل ميدان «عبدالمنعم رياض» واقتحام ميدان التحرير بقوة السلاح، وتكررت المواجهات فى نحو ثمانى محافظات، وكانت ذروة المشاهد الدامية إطلاق الرصاص الحى فى الشيخ زويد على جمع كبير من المواطنين العزل أثناء تأدية صلاة الجمعة احتجاجا على عزل «مرسى» واستهداف مطار العريش الدولى وأكمنة أمنية بالأسلحة الثقيلة بما يؤكد صلات الرحم السياسى مع تنظيم القاعدة.

 

الفكرة الرئيسية فى التحريض على العنف واستباحة الدماء وتصعيد المواجهات إثارة فوضى واسعة تقوض الدولة وتدفع الجيش للتورط فى حرب شوارع لرفع سقف المقايضات فى الحد الادنى أو استنساخ السيناريو السورى فى الحد الاقصى. الرهانان خاسران مقدما، فما جرى فى مصر ثورة شعبية حقيقية، ثورة جديدة مكملة ومصححة، وللشعب الذى اطاح برئيسين فى عامين ونصف العام الكلمة الفصل فى النهاية.