النبطي 2 - يوسف زيدان - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 11:28 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

النبطي 2

نشر فى : الإثنين 8 نوفمبر 2010 - 11:08 ص | آخر تحديث : الإثنين 8 نوفمبر 2010 - 11:08 ص

رواية «النبطى» تحكيها الفتاة المصرية مارية، التى تزوجت تاجرا نبطيا وانتقلت من قريتها الواقعة بأطراف الدلتا الشرقية، إلى منطقة «البترا» بجنوب الأردن، حاليا.. الرواية ثلاثة أقسام (حيوات) مرت بها مارية، وحكت ما شاهدته خلالها.

وفيما يلى ننشر الفصل الثانى من «الحيوة الأولى»
نحن فى الكفر نعرف كلام العرب، وهم يعرفون كلامنا. فهم يأتون إلى ساحة السوق، من ألوف السنين، ويأتى معهم أطفالهم الذين كنا نلعب معهم. فيعلم الأطفال الأطفال. يسمونهم هنا التجار، والبعض منا يسميهم أبناء إسماعيل، والبعض العرب. وهم يسمون كثيرا من الأشياء بغير أسمائها، فيقولون المهر بدلا من الأربون، ويسمون الناموس الذباب، والذباب الذباب.. ويسموننا القبط، ويسمون بلادنا مصر، مع أنها من ألوف السنين اسمها كيمى.

من ألوف السنين. تلك هى إجابة أمى، كلما سألتها عن أصل شىء.. متى يا أمى كانت البرابى المجاورة عامرة؟ من ألوف السنين.. متى التصقت بيوت الكفر، بجدار البرابى؟ من ألوف السنين.. متى صنعوا بوابة الكفر المتهالكة؟ متى صارت البلدة البيضاء بيضاء؟ متى صار الكفار كفارا؟ متى جاء النهر ليمر قرب بيوتنا؟ متى اختلفت النساء عن الرجال؟ متى وفد العرب من صحرائهم إلى ساحة السوق؟.. كل ذلك عند أمى، كان من ألوف السنين.

دخلت الحبشية بالأطباق والأرغفة، تسبقها رائحة الطعام. صفتها على أطراف المائدة الطويلة، قصيرة القوائم، التى بوسط الغرفة. هى أيام صوم، لكن رائحة الثوم المقلى فى الطعام، فواحة شهية. عندما دعى العرب إلى الطعام، وهموا بالهبوط إلى الأرض أمام المائدة، سنحت لى فرصة الفرار من الغرفة، فاستبقت مع الحبشية الباب.

تلقتنى أمى فى الفسحة، لهفى، وبعدما احتضنتنى أسلمتنى إلى امرأتين كانتا تهشان الأطفال من أمام غرفة الضيوف. أخذتنى إحداهما إلى غرفة الطبخ، وأجلستنى فى زاويتها على ماجور قديم، مقلوب.. رأسى يدور كحجر الرحى الطاحن، وبطنى يعصره مغص غريب مفاجئ. وددت لو انفردت برهة، لكن النسوة دخلن يسبحن فوق أطفالهن، فغرفن من الأوانى الكبار أطباقا تراصت على الأرض، وسط أرغفة كثيرة انهال عليها الجميع من حولى آكلين، غير ملتفتين ناحيتى.

رحت، وحيدة، أحدق نحو نعلى، وفى رأسى تجوس خواطر حارة، غامضة، رهيفة الأطراف كحواف الصوان المكسور. بعد حين غابت عن أذنى الأصوات، وغامت عيناى، وتذكرت دميانة.

أحتاجك اليوم. أحتاج يا دميانة أن نحكى الحكايات، ونوصل النهايات بالبدايات. أكان يخطر لنا، يا حبة قلبى، أن مآلى سيكون بين هؤلاء الأعراب الأغراب، وأنهم سيطلبوننى من بطرس الجابى. لو سألت أمى، فسوف تقول إن أخى بنيامين صغير ولا يصح له مجالسة خاطبين، وإن العم بطرس قريب لها من بعيد.

كل الناس هنا أقارب، من قريب ومن بعيد، وكلهم أخفوا عنى الأيام الفائتة خبر الخاطبين. لكننى كنت أشعر بشىء فى الخفاء يجرى، فالجارات اللواتى كن يأتين إلى حوش بيتنا نهارا، يبقين مع أطفالهن أطول مما اعتدن، ويتضاحكن أمامى ويتغامزن بغير داع، فلا تعترض أمى ولا تحتفى. كانت تكتفى بالتبسم الباهت، والتشاغل بحياكة ثوبى الجديد هذا، الذى ظننته أول الأمر ثوبا للعيد الذى اقترب. الثوب زاهى الألوان، مؤطرة حوافه بأشرطة القصب الدمياطية البديعة.. دمياط بلدة بعيدة فى جهة الشمال، تصنع أقمشة غالية.

أنا أعرف أنواع الأقمشة، لأن أمى تحيك لأهل الكفر، وتخيط ملابس النسوة وجلابيب الأطفال. كلما قصر منها الخيط، مدت لى الإبرة لأضع لها خيطا آخر. ما عادت ترى الثقب الدقيق، فقد صارت كبيرة السن. ربما بلغت من عمرها الأربعين. لو سألتها عن سنها، فلن تجيب. أم نونا، كانت تردد دوما أنها فى عمر أمى، وسمعتها الشهر الماضى تقول مازحة، إنها تشعر بنفسها فى العشرين، مع أنها بلغت الأربعين.

انتبهت لما حولى حين تزحفت نحوى طفلة، وراحت تشاغب ذيل ثوبى البراق. هى ابنة مارية، ابنة هيدرا السقا. عمرها عامان. أود لو أحملها إلى حجرى، لكنها ستلطخ ثوبى الجديد بالتراب وبقايا الطعام. أبدعت أمى حياكة هذا الثوب، فهى ماهرة الأصابع، لكنها لا تحيك جلابيب الرجال ولا أثواب العرائس. فهذه، يخيطها حائك مخصوص، عنده بيت كبير ودكان صغير، فى قلب الكفر الكبير. الكفر النائمة بيوته على خد النهر، مثلما تنام بيوت كفرنا.

قبل عرس دميانة بأيام، ذهبت مرة إلى ذاك الكفر الذى نسميه الكبير، لأنه بالنسبة إلى كفرنا كبير. أحضرنا من هناك ثوب زفافها الأخضر المزركش، وإكليل العرس. كنا جماعة كبيرة من أهل كفرنا. ذهبنا مع دميانة وأبيها الطيب، الذى يسميه الناس أحيانا أبوالعنق، لأن عنقه طويل نحيل. سرنا غربا بحذاء النهر وقد ابتدأ ازدياد فيضانه، حتى وصلنا للكفر الكبير بعد ساعة سير. يقولون، لو أكملنا يومها احتذاء ضفة النهر، لوصلنا إلى بلدة أبعد من الكفر الكبير، وأكبر منه، اسمها الزقازيق.. ويقولون، إن أجدادنا جاءوا قديما من تلك البلدة البعيدة، التى لم أرها. الزقازيق فى كلامنا، معناها السمك الصغير.

فى الكفر الكبير بيوت كثيرة، كبيرة، بينها دروب طوال متعرجة. فى التفافة درب منها، ينزوى دكان الحائك وبيته. زوجته امرأة طيبة، قدمت لنا يومها، بليلة قمح محلاة بعسل، بلا حليب. قضينا الظهيرة فى بيتها ممتلئين بالمرح، ثم عدنا بثوب الزفاف والإكليل، وقد كاد يدهمنا فى الطريق ظلام الغروب.

فى طريق عودتنا، كانت العصافير ترجع صاخبة إلى الأشجار، وكان أبودميانة يداعبنا بالنكات، فتضحك قلوبنا وعيوننا والشفاه. هو رجل طيب. أم دميانة لم تأت معنا يومها، فهى لا تستطيع المشى إلى بعيد، ولم يجد زوجها لها بغلة لتركبها. هكذا قال لنا. لما اقتربنا من كفرنا، اقتربت منى دميانة وهى تحتضن بتحنان ثوب عرسها، وهمست بأنها تنوى إبقاء زوجها فى السرير عاريا، أسبوعا كاملا، حتى تشبع منه. اضطربت من كلامها فلم أرد، ولم تكن تنتظر ردا. بدت مع شرودها، كأنها تفيض من باطنها إلى باطنها.. فى جلسة المساء، حكيت لأمى ما جرى فى رحلتنا، وذكرت ما همست به دميانة لى، فجفلت ثم مالت برأسها من فوق سريرها نحوى، وقالت مرتجفة وهى تزم شفتيها وحاجبيها:

عيب.. عيب.
إذا كان فى الزواج عيب، فلماذا يحتفل به الناس. يزينون العروس ليشجعوا الزوج، وينشرون على الملأ خرقة دم العذرية، ويتركون الزوجين منفردين ليفعلا كل ما يشتهيان. وبعد ذلك يقولون إذا ذكرت أمامهم الأفعال، إنها عيب.
لعل العيب فى الكلام، لا فى الفعل. فالأمر ما دام مكتوما لا يقال، ولا يقال عنه، فهم يقبلونه. المكتوم عند الناس مقبول. أيام حبستنى أمى، رجوتها باكية أن تطلقنى مثلما كنت حرة، فرفضت وقالت إننى كبرت، وإنها تخاف على من كلام الناس. الكلام هو العيب، وهو ما يخيف.

لم أعد أكلم أمى كثيرا، مثلما كان الحال فى زمنى البهيج، أيام كنت أدور طيلة النهار مثل كل الصبايا، فى حنايا البرابى المجاورة، وفى الأطراف وساحة السوق. أزور بيوت الكفر كلها، ثم أعود قبل الغروب لأحكى لأمى بالليل ما جرى فى النهار، وأروى لها كل ما سمعته، كى تطمئن على. أمى لم تكن يوما مطمئنة.. المكان الوحيد الذى طالما تمنيت الذهاب إليه، وما ذهبت، هو البلدة البيضاء التى تفصل ساحة السوق الفسيحة، بين سورها الخلفى وبيوت كفرنا.

كفرنا يبدو من خارجه كأنه بيت واحد كبير، نبت من جانب جدار البرابى، ثم امتد إلى حافة الربوة المشرفة على تلك الأرض الوطيئة، التى يعلو إليها النهر حين يفيض، ويزرعها أهل الكفر حين يغيض. يسميها أهل الكفر هبة النهر، وكنا أيام الطفولة نسميها الملاعب.

الربوة التى يجلس الكفر على حافتها، فوقها كل ما أعرفه. خرابة الآثار القديمة المسماة البرابى، بيوت كفرنا، ساحة السوق، البلدة البيضاء. وعلى امتداد النظر، تحوط الربوة من جميع الجهات، عدا جهة النهر، عروش الكروم والأشجار العالية والنخلات المتباعدة والمتقاربة. وعلى مبعدة منا، كفور أخرى تختبئ وسط الزروع، وتحوطها الخضرة التى تحوطنا.

الخضرة تمتد حولنا، حتى آخر العالم. آخر العالم. وصلت إلى هناك، يوم جريت فزعة من صرخات أمى والنسوة، بعد صيحات هيدرا السقا فى الدرب، بأن عمى بشاى قد قتل فى ترعة الثعبان.

انتبهت من هيجان خواطرى وجولان الأفكار، حين علت جلبة الرجال الخارجين من غرفة الضيوف. أصداء ضحكاتهم بين الجدران، صاخبة. بحماس ومرح، نهضت النسوة من حول الطعام، وفى ذيولهن الأطفال، فتحشروا خارج غرفة الطبخ لينظروا ظهور العرب المغادرين. رفعت عينى إلى شباك الغرفة، فرأيت أن أوان الغروب قد حان.

قمت متمهلة من فوق الماجور المقلوب، ونفضت عن ذيل ثوبى الغبار والنمل الساعى. خرجت من غرفة الطبخ تائهة، فرأيت بطرس الجابى عائدا بعدما ودع العرب. رجال الكفر خرجوا معهم، لتوديعهم ثانية عند ساحة السوق. استدعانى بإشارة باسمة إلى غرفة الضيوف، فدخلت أمى معى وسبقتنى إلى حيث جلس. جلس بنيامين عند الزاوية اليسرى للغرفة، وبقيت واقفة خلف أمى.

وهو يمد يده فى جيب جلبابه، التفت بطرس الجابى مبتهجا إلى ناحية بنيامين، وهز راضيا رأسه السمين وهو يهنئ أمى المبتسمة، ويناولنى خمسة دنانير ذهبية، لامعة، قال إنها الأربون. أضاف بصوت أعلى: سيكون عقد الأملاك، والتتويج بالإكليل، وبقية مراسم الزيجة؛ بعد أربعة أسابيع.

دمعت عين أمى حين مد بطرس الجابى يده فى جيبه الآخر، وأعطانى من عنده دينارين ذهبيين، لا يلمعان، قال إنهما هدية عرسى.. لم أمتلك قبل اليوم دنانير، لكن كان قلبى يخفق لها، حين أرى لمعانها فى يد التجار بساحة السوق.
أشار بطرس الجابى إلى الصرة الموضوعة على الأرض، وقال إنها هدايا العرب لى، ولأمى. أكد أنهم قوم كرماء، وأغنياء، وأنه يعرفهم منذ زمن بعيد، ويعرف أقاربهم الساكنين بصحراء سيناء، والصحراوات الممتدة إلى قوص. لم أكن يومها قد عرفت ما سيناء، وما قوص. وليتنى ما عرفت.
دعت أمى لبطرس الجابى بدوام السعادة، فهز رأسه مسرورا وهو يخرج من غرفة الضيوف وأمى تتبعه، وأنا أتبعها. فى منتصف الفسحة التى بين الغرف، همس لأمى بصوت خفيض، بالكاد سمعته: اسمعى، لن أكون هنا يوم العرس، فعندى بعد أسبوعين رحلة للصعيد، ولا أعرف متى سأعود، فالأحوال هناك مضطربة، ويقال إن جند هرقل سيرجعون فيطردون البابيلين.

أظهرت أمى الجزع، ثم قالت بصوت مرقق، وهى تعقد أصابع كفيها على بطنها: سوف ننتظرك يا سيدى، فالعرس بدونك لن يكون مبهجا، وأنت لنا السند الوحيد والمعين.

لا.. لا تؤخرى مارية، فيهجم عليها لهيب الصيف فى طريقها إلى بلاد العرب. وقد أغيب فى رحلتى شهرين أو أكثر، فعندى عمل كثير هناك.

تعود لنا سالما، يا سيدى.
اسمعى، بسنتى سيبقى هنا ومعه الحبشية. إن احتجت شيئا لعرس مارية، اطلبيه منهما.
هل سأراك يا سيدى قبل سفرك؟

طبعا، سأرسل فى طلبك. ولكن اهتمى بمارية الأيام القادمة، فهى الآن العروس.
ترحلت النسوة والأطفال عن القصر، وكنا آخر من رحل. فقد بقينا خلف بطرس الجابى، حتى تركنا عند السلم الذى بآخر الفسحة، وصعد إلى طابقه الأعلى. غرفة نومه هناك، وهناك غرف أخرى لا أعرفها، لأننى ما صعدت إلى هذا الطابق قط.

أمى صعدت إليه كثيرا. فهى قريبة له من بعيد، وهو يطلبها للعناية بقصره، فتقضى هناك طيلة النهار ولا تعود إلى سريرها منهكة، إلا بعيد الغروب. هو رجل طيب، وطويل، وليس له زوجة.

خرجنا إلى الحديقة الأمامية، وقد كاد الظلام يمحو الظلال، فاستوقفنى بسنتى السمين. كان ينتظرنا فى غبش الغروب، بجلبابه الغامق المتهدل، تحت شجرة الرمان الكبيرة التى عند بوابة القصر. نادانى فعدت من خلف أمى، إليه، ولما وقفت قبالته هم أن يتكلم، لكنه اكتفى بالصمت وهو يمد لى يمناه، ليهدينى دينارا ذهبيا لامعا، ويمد عينيه محدقا كالأبله إلى شفتى التحتانية. تمنعت عن قبول هديته، فأصر بأن صر حاجبيه، من دون أن يحول عينيه عنى. مددت ذراعى لآخذ منه الدينار شاكرة، فتعمد لمس باطن كفى بأطراف أصابعه. امتدح فجأة ثوبى، فهربت من أمامه. مع أن الثوب يستحق المديح.

لما انصرفت عنه، ظل بسنتى متسمرا بموضعه تحت الشجرة. أحسست به، من دون أن ألتفت ورائى، أنه ينظر إلى ورائى وينادينى بلا صوت. أسرعت الخطى، حتى لحقت بالخارجين من باب القصر الخلفى، إلى الدرب المظلم. أدركت الباقيات من النسوة، ومن ورائهن أطفالهن، ومن ورائهم أمى والحبشية تحملان صرة الهدايا الثقيلة. أغلقت خلفى الباب الخلفى للقصر، وبقيت برهة عند باب بيتنا، أنظر السائرين فى الدرب، وهم ينسلون من أمامى رويدا. ابتلعتهم حلكة الدرب وأبواب بيوتهم وبوابة الكفر.

كفرنا صفان من بيوت مبنية بالطين المعجون بالتبن. بين الصفين درب، رطب مفتوحة عليه كل البيوت. كنت أظنه فى صغرى، جزءا من بيتنا. بأول الدرب البوابة القديمة المفتوحة دوما على ساحة السوق، وبآخره الباب الخلفى لقصر بطرس الجابى. بيوت الصف الذى على يمين الخارج من باب القصر الخلفى، يحدها من خلفها جدار البرابى السميك، الثقيل.

الصف يبدأ من ناحية الساحة، بالكنيسة. بعدها بيت حنا الكرام، وبعده بقية البيوت التى آخرها بيت الكاهن شنوته، ثم بيتنا. بيتنا بين قصر الجابى وبيت الكاهن، محصور. كان أبى ينوح مساء فى سريره بترنيمة تضايق أمى، فتنهره، لكنه لا يكف عن العويل بما معناه: جناحك مكسور يا عصفور، بين الجابى والكاهن محصور.. بعدما مات أبى، ظل نواحه يتردد زمنا فى أحلامى.

بيوت صفنا تستند كلها إلى جدار البرابى، المشقوق فى بعض البيوت. الشق الذى فى بيتنا جعلناه بابا إلى البرابى، لكنه مرتفع عن الأرض كنافذة. والشق الذى فى بيت حنا الكرام، كبير، ومفتوح بلا باب على ناحية من أرض البرابى، تحوطها أحجار كبار متكسرة. كان حنا الكرام يربى هناك الخنازير، ويلقى لها كل مساء بالقمامة التى يجمعها ساعة الغروب من ساحة السوق، ويتركها أمامها كى تمصها طيلة النهار التالى. كانوا يسمونه حنا الكرام، مع أنه لا يزرع الكروم، ولم أشاهد يوما عنقود عنب فى بيته. فى بيته شهدت الويل، وعرفت الفزع.

الصف المقابل لبيتنا، يبدأ من عند البوابة ببيت العم سمعان، صاحب النسناس. نسميه بذلك، لأنه كان يعيش مع قرد صغير من نوع النسانيس، طويل الذيل جميل الوجه، لا يكف عن الحركة. كنا نلعب معه ونحن صغار، فيلاعبنا ويبتهج معنا. ذهب به العم سمعان مرة، ولم يعد به. من بعدها. هو يعود إلى الكفر أيام جمع العنب، لأنه يعمل بالمعصرة، ومع الخريف يرحل ليعمل فى نواح بعيدة لا أعرفها. يقولون عنه هنا إنه مجنون، لأنه لم يتزوج قط، ويكلم نفسه حين ينفرد وحين يمشى وحيدا.. أمى كانت تقول: الذى يعيش وحيدا سيموت وحيدا، وقد لا يجد من يدفنه.

بآخر هذا الصف بيت عمى بشاى، المواجه لبيتنا. عمى بشاى كان أصغر من أبى بسنوات، وكان يذهب إلى بيته فى الليل فقط، أما نهاره فيقضيه خارج الكفر، أو فى بيتنا. لما ذهب إلى الحرب الكبيرة، وقتل هناك، أغلقنا بيته فمات من طول الوحدة، لأن المكان لا يحيا من غير السكان.
بعدما وقفت برهة عند باب بيتنا، حائرة دخلت البيت هانئة ومنهكة. كان بنيامين قد دخل قبلى إلى حجرته الأقرب إلى الباب، ودخلت أمى والحبشية حجرتنا اللصيقة بالبرابى. قابلت الحبشية فى الحوش، خارجة وهى تبتهج، فأغلقت خلفها باب البيت وذهبت إلى حجرة الحبوب المتوسطة بين الحجرتين، لأخلع عنى متسترة بظلامها، هذا الثوب الجديد الملتصق بصدرى وخصرى.

ارتحت حين أغلقت بابها ورائى، ومن ورائه سكتت الأصوات، أو سكنت أذنى عن استماعها. وارتحت حين طرحت عنى ستر رأسى وخلعت نعلى، ثم أرجحت فى الظلام شعرى. وارتحت حين رفعت عنى برفق، ثوبى اللصيق المؤجج وما تحته من سراويل.. بقيت لحظات فى وحدتى عارية، مطمئنة للوحدة والظلام، ومضطربة الباطن.. قبل أن أمد ذراعى اليسرى، لألتقط ردائى المنزلى المعلق على الوتد الغائص فى الحائط، ألصقت بحائط الحجرة ظهرى الدافئ. رفعت يدى وأنا مغمضة العينين، حتى لمست الوتد بأناملى المرتجفة، ومررت بها عليه ثم تعلقت به.. بدأ اهتزاز قلبى، حين أحسست بأطراف ضفائرى المفكوكة، تداعب كتفى وعنقى وأعالى صدرى.

أمسكت شعرى بيدى اليمنى، وحككت به رقبتى من مبتداها، فاعتراها خدر لذيذ. بأطراف أصابعى وأظافرى، رحت أفرك صامتة صدرى، وأخمش منتهاه الناهض.. تماوج فى برد ودفء، ثم غمرتنى الرعشة المخدرة، وسرت بأسافلى سخونة تزايدت، والتهبت، وتأججت، وتوهجت.. ثم هدأت، وأخذنى الدوار.

نواصل الأربعاء المقبل نشر الفصل الثالث
يوسف زيدان كاتب وروائي مصري
التعليقات