المشكلة ليست فى العولمة وإنما فى إدارة النظام الدولى - حسن نافعة - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 12:58 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

المشكلة ليست فى العولمة وإنما فى إدارة النظام الدولى

نشر فى : السبت 8 ديسمبر 2018 - 7:30 م | آخر تحديث : السبت 8 ديسمبر 2018 - 7:30 م

فى مقال بعنوان «عولمة تنتهى وعولمة تبدأ»، نشر فى صحيفة الشروق يوم 5 ديسمبر الماضى، طرح الصديق جميل مطر، الخبير البارز فى العلاقات الدولية، أفكارا مثيرة، مفادها أن النظام الدولى يشهد حاليا عملية مخاض قد تسفر عن ولادة «عولمة جديدة» تختلف عن «عولمة قديمة» توشك أن تندثر، وأن الدعوة التى أطلقها كلاوس شواب لإعادة ما أسماه «هندسة المؤسسات الإدارية والسياسية الدولية من القاع وحتى القمة» أمامها الآن فرصة حقيقية للدخول حيز التنفيذ وسيترتب عليها «انتهاء صلاحية المؤسسات الدولية التى أنشأها الآباء المؤسسون للنظام الدولى القائم وتعديلها». وليسمح لى صديقى العزيز أن أختلف معه لسببين، الأول: لأنه لا يوجد شيء اسمه «عولمة قديمة» وأخرى «جديدة»
والثانى: لأن الدعوة التى أطلقها كلاوس شواب، المرجع الأساسى فى النظام الاقتصادى الدولى فى مرحلته الراهنة، حسب تعبير جميل مطر نفسه، ليست جديدة ولا يبدو أن المجتمع الدولى أصبح الآن جاهزا للتعامل معها بجدية أكبر من تعامله مع ذات المقترحات القديمة.
***
لنتفق أولا وقبل كل شيء على أن العولمة ليست «اكسسوارا» يمكن للنظام الدولى أن يتحلى به حينا ويهمله حينا آخر، وإنما هى «عملية» أو «صيررة» ليس بمقدور أحد تجاهلها أو تحديها وهى عملية تواكبت مع الاكتشافات الجغرافية من ناحية ومع الثورة الصناعية من ناحية أخرى. فالاكتشافات الجغرافية حولت الكون كله إلى رقعة واحدة منبسطة يمكن السيطرة عليها من جانب من يمتلكون مقومات وعوامل القوة، أما الثورة الصناعية فقد أفرزت بدورها موجات متعاقبة من الطفرات العلمية والتكنولوجية المتتابعة والتى لا تزال تتوالد حتى الآن بوتيرة متسارعة. ولأنه لن يكون بمقدور أحد تجنب تأثيراتها أو اعتراض طريقها، يصبح المطلوب مجرد تنظيم مساراتها والعمل على توجيه ثمارها لخدمة البشرية أو الإنسانية جمعاء بدلا من احتكار هذه الثمار من جانب دول أو قوى اقتصادية واجتماعية بعينها، كما هو حادث الآن، وتلك مسئولية لا يقدر على تحمل أعبائها سوى «نظام مؤسسى للأمن الجماعى»، كان ولا يزال غير قادر على الصمود رغم المحاولات المتكررة لتثبيت دعائمه ولا يبدو أن الظروف الحالية تساعد على إنشاء نظام بديل أكثر فاعلية فى مواجهة مصادر التهديد التى تواجهها البشرية فى الوقت الراهن خاصة الناجمة عن «العولمة».
فقد أفرزت الحرب العالمية الأولى نظاما للأمن الجماعى جسدته «عصبة الأمم»، لكنه ولد ميتا لأسباب عديدة. فالولايات المتحدة لم تشارك فى إدارته من البداية، والاتحاد السوفييتى لم يلتحق به إلا لفترة قصيرة جدا كانت فيها رياح الحرب العالمية الثانية قد بدأت تهب على العالم فعلا وكانت معظم أقاليم العالم لا تزال واقعة تحت الاستعمار الأوروبى المباشر. ثم جاءت الحرب العالمية الثانية لتفرز نظاما بديلا للأمن الجماعى جسدته «الأمم المتحدة» حاول أن يكون أكثر اكتمالا وفاعلية لكنه سرعان ما أصيب بالشلل لأنه قام على افتراض مفاده أن التحالف الذى تحقق بين الدول الكبرى المنتصرة فى هذه الحرب وهى الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفييتى والصين سيستمر بعدها وهو الافتراض الذى سرعان ما تبين أنه غير واقعى، خاصة بعد انقسام التحالف المنتصر فى الحرب إلى معسكرين متصارعين. وإذا كانت «الأمم المتحدة» قد صمدت منذ تأسيسها عام 1945 ولم تتعرض للانهيار حتى الآن فلأسباب تتعلق بتوازن الرعب النووى وليس بكفاءة أو فاعلية مؤسساتها التى كان عليها أن تتاقلم مع تطورات ومتطلبات الحرب الباردة. وقد لاحت فرص متباينة لإعادة إحياء وتشغيل نظام الأمن الجماعى كما نص عليه الأمم المتحدة غير أن موازين القوى القائمة فى النظام الدولى لم تسمح بانتهازها كما ينبغى.
فحين اندلعت أزمة الكويت عقب احتلالها من جانب العراق عام 1990 لاحت فرصة حقيقية لإعادة إحياء نظام الأمن الجماعى كما نص عليه ميثاق منظمة دولية كانت قد تحولت بالفعل ولأول مرة فى تاريخ البشرية إلى إطار مؤسسى لنظام كونى يضم مختلف دول العالم. فالغالبية الساحقة من المستعمرات كانت قد حصلت على استقلالها وانضمت للأمم المتحدة كدول مستقلة وكانت الحرب الباردة قد انتهت رسميا فى وقت لم يكن فيه الاتحاد السوفييتى قد انهار أو تفكك بعد، وجميع القادة الكبار فى العالم رفعوا فى ذلك الوقت شعار «نحو نظام عالمى جديد» تلعب فيه الأمم المتحدة الدور الرئيسى فى العلاقات الدولية». غير أنه ما إن تمكن التحالف الدولى الذى تقوده الولايات المتحدة من تحرير الكويت حتى نسى الجميع هذا الشعار وانصرف كل إلى مشاغله وهمومه الخاصة. فالاتحاد السوفييتى الذى سقط وتفكك انكفأ على نفسه وراح يعيد ترتيب بيته من الداخل، أما الولايات المتحدة فقد انشغلت بإعادة ترتيب الأوضاع فى نظام دولى سعت لأن يكون أحادى القطبية وبما يتفق مع أحلامها فى الهيمنة المنفردة ومن ثم راحت تبذل كل ما فى وسعها لتوظيف الأمم المتحدة كأداة سياسية لخدمة أهداف سياستها الخارجية وبدأت تعتمد على حلف الناتو كأداة عسكرية بديلة لنظام الأمن الجماعى الذى يشرف عليه مجلس الأمن.
ثم لاحت فرصة ثانية لإعادة إحياء هذا النظام حين تعرضت الولايات المتحدة لهجوم إرهابى كاسح ومفاجئ فى 11 سبتمبر عام 2001 غير أن الإدارة الأمريكية بقيادة بوش الابن فضلت العمل بمفردها وبما يتفق مع استراتيجيتها الرامية لتحويل القرن الواحد والعشرين إلى «قرن أمريكى جديد». لذا، فما إن انتهت من إسقاط نظام طالبان ــ المتهم بإيواء تنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن ــ حتى استدارت نحو العراق الذى لم يكن له أى صلة بالإرهاب وذلك بهدف إسقاط نظام صدام حسين تمهيدا للشروع فى إعادة تشكيل «نظام شرق أوسطى جديد»، يتناسب مع رؤيتها للهيمنة المنفردة على العالم، غير أنها سرعان ما انغرست عميقا فى الوحل العراقى وراحت تستنزف اقتصاديا وسياسيا وعسكريا الأمر الذى أتاح لروسيا فرصة ذهبية لإعادة ترتيب بيتها من الداخل وللصين فرصة ذهبية للاندفاع بأقصى سرعة نحو تبوأ مكانة القوة الاقتصادية الأولى فى العالم لينتهى الأمر بفشل مشروع «القرن الأمريكى الجديد» وبداية تآكل قدرة الولايات المتحدة على الهيمنة المنفردة على النظام الدولى الجديد.
***
كان لفشل هذا المشروع ارتدادات واضحة على الداخل الأمريكى، جسَّدها تمكُّن أوباما من الوصول إلى البيت الأبيض رغم جذوره الإفريقية، وهو تطور رأى فيه البعض فرصة لإحداث تغيير جذرى فى السياسات الأمريكية وبطريقة تساعد على تمكين المنظومة المؤسسية الأممية من التعامل مع مصادر التهديد الجديدة فى نظام دولى تتسارع وتيرة عولمته. فى مقدمة مصادر التهديد هذه: المخاطر البيئية، انتشار الإرهاب والجريمة المنظمة، الفقر، الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.. إلخ. غير أن ارتباط الدولة الأمريكية العميقة بمصالح الحركة الصهيونية من ناحية وحرص مؤسساتها على عدم ظهور قوى منافسة للولايات المتحدة على قمة النظام الدولى من ناحية أخرى حالا دون حدوث هذا التحول، وبالتالى لم يعد أمام الدول المتنافسة على قمة النظام الدولى، فى سياق كهذا، سوى التصدى لمشكلات العولمة كل بطريقته الخاصة، فى ظل موجات متواصلة من الهجرة راحت تتدفق على الدول الغربية خاصة فى اتجاه الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبى كان من أهم أسبابها انتشار الفقر والإرهاب وفشل ثورات الربيع العربى، الأمر الذى ساعد على خلق ظروف ملائمة لتنامى قوة اليمين المتطرف فى معظم دول أوروبا الغربية وربما أيضا على بروز الظاهرة «الترامبية» فى الولايات المتحدة الأمريكية.
***
تجدر الإشارة هنا إلى أن أدراج الأمم المتحدة تعج منذ عشرات السنين بتقارير تتضمن مقترحات عديدة لإصلاح البنية المؤسسية للنظام الدولى، غير أن أيا من هذه المقترحات لن يكون لها تأثير حقيقى على فاعلية هذه البنية إلا إذا اتفقت الدول دائمة العضوية فى مجلس الأمن على صيغة ما تسمح بتوسيع قاعدة العضوية وتغيير طريقة اتخاذ القرارات فيه، وهو تطور يبدو تحقيقه مستحيلا فى ظل موازين القوى الراهنة فى النظام الدولى، خاصة إذا ظل ترامب قادرا على الاحتفاظ بموقعه فى البيت الأبيض لسنوات أخرى اثنان أو ستة. صحيح أن القوى الدولية المؤثرة على النظام الاقتصادى العالمى قد تكون جاهزة ومهيأة حاليا لإدخال إصلاحات على طريقة عمل منظمات بعينها، كمنظمة التجارة الدولية، تفاديا لحرب تجارية يعتقد كثيرون أنها ستكون وبالا على الجميع، غير أن ذلك لن يغير شيئا من قدرة النظام الدولى على التعامل مؤسسيا مع مصادر التهديد الناجمة عن العولمة.
نحن إذن لسنا أمام عولمة «قديمة» تتلاشى وأخرى «جديدة» تبدأ، وإنما أمام معضلة لا تزال مستحكمة تتعلق بعدم قدرة النظام الدولى ببنيته الراهنة على التكيف مؤسسيا مع متطلبات عولمة لا تزال تمارس تأثيرات عميقة على مجمل التفاعلات الدولية منذ عصر الكشوفات الجغرافية وحتى يومنا هذا. لذا أظن أن النظام الدولى سيمر بأزمات كثيرة قادمة قبل أن يصبح ناضجا لإحداث التحولات المؤسسية اللازمة للتكيف مع عملية العولمة.

أستاذ العلوم السياسية

حسن نافعة أستاذ العلوم السياسية
التعليقات