هل علينا أن نختار بين التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية؟ - سامر سليمان - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 2:25 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

هل علينا أن نختار بين التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية؟

نشر فى : الأحد 9 مايو 2010 - 10:18 ص | آخر تحديث : الأحد 9 مايو 2010 - 10:18 ص

ويستمر الجدل فى قضية الحد الأدنى للأجور الذى يجب على الدولة أن تحدده وتفرضه على القطاع الخاص كما على نفسها باعتبارها صاحبة عمل. لقد كان الجدل حقا مفيدا، وهو بالتأكيد كاشف عن حقيقة أساسية وهى أن قضية العدالة الاجتماعية وتحسين مستوى معيشة العمال والعاملين بأجر من الطبقات الوسطى عادت لتتصدر المشهد السياسى والإعلامى المصرى فى السنوات الأخيرة، وأن الأصوات المحبذة لإنصاف هؤلاء الناس وعدم تجاهل مطالبهم المشروعة باتت مسموعة فى الدولة كما فى المجتمع.

المحمود فى الجدل العام الدائر فى قضية الحد الأدنى للأجور أنه ينقل النقاش عن العدالة الاجتماعية بعيدا عن الكلام عن الفقراء باعتبارهم «غلابة» محتاجين لرعاية الدولة من خلال الدعم أو التكافل الاجتماعى. فالحقيقة الثابتة هى أن الكثير من الفقراء والمحرومين فى مصر يكدحون وينتجون قيمة مضافة للمجتمع. هؤلاء يستحقون الإنصاف والعدالة، لا المساعدة والإحسان. هذا لا ينفى بالطبع أن هناك نسبة أخرى من الفقراء غير منتجة أو إنتاجها شديد الضعف وأنها تظل تحتاج لمساعدة الدولة ورعايتها. لكن من المهم جدا التمييز بين هؤلاء الفقراء الذين يعانون الحرمان بالرغم من عرقهم وكدهم فى العمل وبين أولئك الفقراء الذين يعانون من الفاقة بسبب حرمانهم من العمل وعدم قدرة الدولة والمجتمع على الاستفادة من طاقاتهم الكامنة. فالسياسات المنصفة لهؤلاء مختلفة عن السياسات الراعية لؤلئك.

لن يتفق الكل بالطبع على إيجابية تصدر قضية العدالة الاجتماعية المشهد السياسى الآن. فالبعض يتساءل.. كيف نتحدث عن زيادة الأجور قبل زيادة الإنتاجية؟ أليس الأجدر أن نزيد من حجم الكعكة قبل أن نتصارع على تقسيمها؟ مشكلة هذا الطرح أنه يقوم على افتراض خاطئ وهو حتمية التضحية بالعدالة الاجتماعية لمرحلة ما من أجل تحقيق النمو الاقتصادى. هذا الافتراض مبنى على تجربة بعض المجتمعات التى تزامن فيها النمو الاقتصادى السريع مع تفاوت شديد فى توزيع الدخل. مشكلة هذا الافتراض هو عدم وجود دليل على أن تحقيق النمو يتطلب التضحية بالعدالة. فهناك تجارب كثيرة قامت على المزاوجة وليس المفاضلة بين النمو الاقتصادى والعدالة الاجتماعية. ربما من أهم التجارب المعاصرة التى من المهم الالتفات إليها الآن هى البرازيل تحت حكم حزب العمال بقيادة الرئيس الحالى لولا. فهذا البلد يحقق معدلات نمو سريعة وفى نفس الوقت يحكمه حزب يضع قضية العدالة الاجتماعية فى صدارة اهتماماته.

ليس هناك تناقض حتمى بين النمو والعدالة الاجتماعية. كل من يعيش فى هذا البلد يعرف جيدا أن من أهم أسباب تدهور الإنتاجية فى مصر هو غياب الحافز الكافى للتفانى فى العمل. لا يمكن بأى حال من الأحوال فهم التردى الذى أصاب الخدمة الطبية فى مستشفياتنا العامة مثلا بدون التعرض للظلم الفادح فى الأجور الذى أصاب الأطباء والممرضات فى هذه المستشفيات. كما لا يمكن تفسير انهيار العملية التعليمية التى تعد بحق أكبر نكبة تعرضت لها مصر فى العقود الأخيرة بدون الحديث عن الرواتب الهزيلة التى يحصل عليها المعلم والتى دفعته للمرور اليومى على الطلاب فى بيوتهم لإعطائهم الدروس الخصوصية ومن ثم تحصيل راتبه بنفسه من أولياء أمورهم. بالطبع زيادة الأجر لا تضمن بالضرورة إنتاجية مرتفعة، لأن التفانى فى العمل يتوقف على عوامل عديدة منها رسوخ قيم العمل ووجود نظام صارم للمحاسبة. القدماء أكدوا على ثنائية الثواب والعقاب لضمان التفانى فى العمل ومن ثم زيادة الإنتاجية. فإذا كان الكل متفق على أننا متهاونون فى المحاسبة والعقاب ــ وهذا موضوع يستحق مقالة مستقلة ــ فدعونا نتفق على أننا مهملين للثواب بنفس القدر.

لقد عادت قضية العدالة الاجتماعية إلى صدر المشهد السياسى المصرى وليس هناك من سبيل لتأجيل حسمها حتى نحقق التنمية الاقتصادية. فسطوع نجم هذه القضية فى السنوات الأخيرة ليس وليد أزمة عابرة أو ظرف مؤقت وإنما هو مرتبط بتغييرات عميقة فى مصر كما فى العالم. فعلى المستوى العالمى شهد الفكر الاقتصادى التطبيقى مراجعات كثيرة تخلى بمقتضاها عن بعض المسلمات النيوليبرالية، خصوصا بعد الأزمة الاقتصادية العالمية الأخيرة. وقد انعكس ذلك على مصر بالطبع، وهو الانعكاس الذى يمكن الاستدلال عليه من العديد من التصريحات لمسئولين بارزين فى الدولة كما لمقالات وتصريحات هنا وهناك لكثير من الاقتصاديين المصريين.

بالإضافة إلى ذلك فإن مساحات الحرية التى زادت فى مصر فى السنوات الأخيرة، سواء بفضل ثورة المعلومات وكسر احتكار الدولة للإعلام، أو بفضل نجاح المجتمع فى فرض بعض التنازلات على نظام حكم يمر بأزمة سياسية، قد أدت إلى نمو غير مسبوق فى ثقافة وممارسات الشكوى والاحتجاج. فلا يكاد يمر يوم فى مصر الآن بدون أن تتحرك جماعة هنا أو هناك للمطالبة بحقوقها الاقتصادية أو السياسية أو الثقافية. بعبارة أخرى، حتى لو افترضنا على سبيل الجدل أن هناك تعارضا ما بين النمو الاقتصادى والعدالة الاجتماعية فإن الظرف السياسى المصرى والعالمى لا يتيح إهمال هدف العدالة حتى لو أثرت بالسلب على معدلات النمو.

وفى كل الأحوال، النمو الاقتصادى السريع ليس كل شىء. التوازن فى هذا النمو يجب أن يكون على قمة الأهداف.

إذا اتفق معى القارئ الكريم فى أن قضية العدالة الاجتماعية بات من الصعب تجاهلها فى مصر فإن التفكير الإيجابى والعملى يجب أن يدفعنا بعيدا عن المفاضلة بين العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية، بل يجب أن يضعنا على مائدة البحث فى كيفية المزواجة بينهما وفى الطرق التى من خلالها يمكن الاستفادة من العدل الاجتماعى فى خلق بيئة عمل صحية تقوم على تعاون كل أطراف العملية الإنتاجية وفى قيام مجتمع يقوم على التوازن فى أهدافه والتضامن بين طبقاته.

وبالتأكيد الكلام الحالى عن العدالة الاجتماعية من خلال زيادة دخول أصحاب الأجور وليس فقط بواسطة الدعم يعطى فرصة ذهبية للدخول فى مناقشة جدية عن حالة العمل فى مصر.. عن هؤلاء الذين يفنون أنفسهم فى الشغل، وعن أولئك الذين لا يقدمون إلا الحد الأدنى وعن أولئك الذين يتظاهرون بالنشاط وهم لا يعملون شيئا على الإطلاق. هكذا تستقيم الأمور.

سامر سليمان  كاتب وأكاديمي مصري
التعليقات