«النيل نجاشى».. كلام قديم جديد - أيمن الصياد - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 7:50 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«النيل نجاشى».. كلام قديم جديد

نشر فى : الأحد 9 يونيو 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الأحد 9 يونيو 2013 - 8:00 ص

رغم حماقة «البث المباشر» لاجتماع يناقش قضية «أمن قومي» داخل المقر «الرسمي» للحكم، وفى حضرة «رئيس الدولة»، الأمر الذى له تبعات قد يصعب تداركها فى موضوع بهذه الحساسية والخطورة، فهذه محاولة لإخراج ملف النيل من براثن استقطاب مقيت اختصر الملف على أهميته إلى محاولة طرفى الاستقطاب «السياسي» استغلاله لأحراز أهداف؛ كلٌ فى مرمى الآخر. ففى الموضوع جغرافيا وتاريخ، أقدم مما جرى فى الاتحادية، وأبعد بالتأكيد من مرمى بصر من أدمنوا النظر تحت أقدامهم..

 

ودليل ذلك ربما أن هذا مقال يعتمد بل ويستعيد ماكنت قد كتبته فى «وجهات نظر» قبل سنوات، ضمن ملف مهم عن الموضوع. مما يوضح أن القضية ليست بنت اليوم. وأن ما نراه اليوم ليس أكثر من حلقة فى سلسلة تواصلت على مدى عقود ثلاثة ندفع فيها ثمن تآكل لمكان ومكانة، لم نستردهما للأسف «لأسباب مفهومة» رغم ثورة وقف العالم فى حينه مشدوها أمام مشهد بات أيقونة «لانصهار شعبها فى الميدان»، قبل أن نأخذها إلى ما أخذناها اليه؛ استقطابا وتقسيما.. وجموحا… فجنوحا٠

 

كان العام ١٩٣٣، عندما وقف «الأنيق» محمد عبد الوهاب يزين جيب سترته بمنديله الأبيض المميز على شكل الأهرامات «المصرية» الثلاثة، ليغنى من كلمات أحمد شوقى «النيل نجاشي».

 

ثم كان العام ٢٠١٣، عندما بدا مثيرا للمتابع للمشهد على «مسرح» دولة المصب، أن هناك من كان قد نسى الحقيقة الجغرافية البسيطة، التى بدأ بها أحمد شوقى مطلع أغنيته الشهيرة «النيل نجاشي» والتى توارث المصريون الترنم بها منذ أن شاهدوها للمرة الأولى فى فيلم «الوردة البيضاء» لمحمد كريم، قبل حوالى قرن كامل من الزمان.

 

بين التاريخين تاريخ طويل، وبقدر ما هطل على هضبة الحبشة من أمطار «جرت فى النهر مياه كثيرة»، حسب مايقول التعبير الشائع. كان زمن عرف فيه المصريون أن التاريخ تصنعه الجغرافيا، كما تصنعه «الإرادة». وضع المصريون أيامها «الدائرة الأفريقية» ضمن الدوائر الحاكمة للسياسة الخارجية (راجع «فلسفة الثورة» ١٩٥٣).

 

وقتها اعتبرت كل الثورات الأفريقية القاهرة عاصمة لها. جاء لومومبا، وتزوج نكروما من «فتحية». وعرف بطرس بطرس غالى طريقه الى كل ركن وكل زعيم قبيلة أو حركة تحرر فى القارة الفتية، كما ذهب عبد الباسط عبد الصمد ليقرأ القرآن هنا وهناك مازالت تسجيلاته فى جوهانسبرج ١٩٦٦ الأكثر انتشارا على الانترنت.. وكان ذلك كله، وغيره كثير تجسيدا لما يعرفه أساتذة العلاقات الدولية بـ «القوة الناعمة»؛ تقديرٌ ومهابة ونفوذ، لايحتاج الى سلاحٍ، أو الى تهديد به.

 

بين التاريخين تاريخ «ذو صلة» طويل. بنى المصريون السد العالى، بالإرادة وفقط بأننا «معا نستطيع». لم يكتف المصريون زمنها بإدراكهم أن «النيل نجاشي»، بل غنوا أيضا «وقف الخلق ينظرون جميعا كيف أبنى قواعد المجد…».

 

•••

 

والحاصل أن الرصيد الذى صنعته مصر فى سنوات الصعود منتصف القرن الماضى قد تلاشى فى الثلاثين سنة الأخيرة. انصرفت مصر غفلة أو استدراجا عن القارة «عمقها الجنوبي»، كما انصرفت عن غيرها، بعد أن حسبت أن أمنها وأمانها مرهون فقط برضا واشنطن. وكان لذلك مظاهر كثيرة؛ كانت مصر قد قامت بإغلاق مكاتبها التجارية فى إفريقيا وبيع منشآتها ومبانيها فى إطار ما سمِّى ب«الخصخصة». ثم كان أن غابت تدريجيا عن المشاركة الفعالة التى تليق بمكانة كانت لها فى مؤتمرات القمة الإفريقية والمؤسسات التابعة لمنظمة الوحدة الإفريقية، وجرى بالتالى انحسار طبيعى للأنشطة الأهلية والمدنية ابتداء من البعثات الدينية والتعليمية، وانتهاء بالأزهر الشريف، بل ولحق العطب روابط كانت قوية بين الكنيسة فى إثيوبيا وكنيسة الإسكندرية. (يذكر جيلنا كيف كان الامبراطور هيلاسلاسى ينحنى ليقبل يد البابا كيرلس) ولم تحاول مصر الرسمية «المنشغلة» الإبقاء على شيء من هذه العلاقات، والتى كانت من أهم الروابط بين الشعبين فى كل من مصر وإثيوبيا.

 

لقد تركت مصر التى انكفأت على ذاتها لعقود، إفريقيا خالية من أى دور أو مكانة مصرية. وكان من الطبيعى أن تخلو الساحة للآخرين. جاء الصينيون من الشرق، والايطاليون من الشمال.. وبالطبع كان الفرنسيون والأمريكيون، وحتى الاسرائيليون هناك.

 

لم تعد مصر اذن هى مصر التى عرفها الأفارقة، كما لم تعد أثيوبيا التى يأتى منها ٨٥ % من مياه النيل هى الدولة الحليف. ولذلك قصة طويلة، لعبت فيها أطراف كثيرة.

 

فى عام ١٩٧٤ وصل «منجستو هايلاميريام» بالشيوعيين الى السلطة فى إثيوبيا. فتغيرت سياسة مصر التى كانت قد اختارت بوضوح الانحياز للمعسكر الغربى تجاه إثيوبيا من النقيض إلى النقيض. بدأ «السادات» خصومة غير مباشرة مع إثيوبيا، تبدت فى موقف مصر المعلن وقتها من الصراع حول أوجادين. فضلا عن تأييد بأساليب مختلفة لكل من أريتريا والنميرى.

 

ثم كان أن جاء «النيل» ليصل بالخلاف المكتوم، الى ذروة العلانية عندما أعلن السادات عن فكرته لتوصيل مياه النيل إلى اسرائيل (١٩٧٩) ليخرج منجستو مذكرا بالاتفاقات التى تمنع مصر من أن تفعل ذلك، ومهددا بأن اثيوبيا ستبنى سلسلة من السدود والخزانات. وقتها هدد السادات بالحرب «للحفاظ على الحقوق المكتسبة والتاريخية فى مياه النيل» ورد منجستو ملوحا بأنهم على استعداد لأن يكون النهر «نهرا من الدماء»..

 

ثم كان أن ذهب السادات.. ثم ذهب منجستو. وبقى النيل فى مكانه؛ «نجاشي» يأتى من الحبشة ويجرى الى مصر.. ويغنى له عبد الوهاب.

 

•••

 

هل إسرائيل هناك..؟

 

رغم أنه من غير المنطقى أو الواقعى الذهاب بعيدا مع الذين ينشغلون بالبحث عن الأصابع الاسرائيلية وراء كل قصة. الا أن الاهتمام الاسرائيلى بأفريقيا لا يخفى على أحد، خاصة بعد أن كسرت معاهدة السلام مع مصر حاجزا تقليديا بين اسرائيل والقارة السوداء وأتاحت لتل أبيب فرصة اقامة علاقات دبلوماسية مع دول أفريقيا التى لم تكن حتى تعترف بها.

 

على كل حال، فللاسرائيليين مع النيل قصة يذكرها كل من اهتم بهذا الملف.

 

فى ١٦ يناير ١٩٧٩ نشرت مجلة «أكتوبر»، ذات العلاقة المعروفة بالرئيس الراحل أنور السادات خطابا من الرئيس المصرى الى مناحم بيجين رئيس الوزراء الاسرائيلى يقول فيه: «سوف نجعل مياه النيل مساهمة من الشعب المصرى باسم ملايين المسلمين كرمز خالد وباق على اتفاق السلام، وسوف تصبح هذه المياه بمثابة مياه زمزم لكل المؤمنين أصحاب الرسالات السماوية فى القدس ودليلا على أننا رعاة سلام ورخاء لكافة البشر». وقالت المجلة إن السادات أعطى بالفعل إشارة بدء حفر الترعة، وطلب عمل دراسة جدوى دولية لتوصيل المياه إلى القدس.

 

ورغم أن الأستاذ أنيس منصور والذى كان رئيسا لتحرير أكتوبر وقتها ومقربا من الرئيس السادات قال بعد ذلك أن السادات لم يكن يقصد، وأن الرسالة لم تكن أكثر من بالون اختبار، الا أن الدكتور بطرس غالى والذى كان وزيرا للدولة للشئون الخارجية أيام السادات، كان قد قد قال فى مذكراته أن موشى ديان ابلغه موافقة الرئيس السادات على مد مياه النيل لاسرائيل وهنا ابلغ بطرس غالى الدكتور مصطفى خليل رئيس الوزراء بما سمعه وهرع الاثنان للسادات للتأكد من الخبر فأكده لهما!! وهنا أبلغه د.مصطفى خليل ان هذا غير قانونى ويتنافى مع اتفاقيات حوض النيل فقال له السادات والرواية لغالى «نبقى نقول لهم المية بتروح فى البحر».

 

أيا ماكان الأمر، فالفكرة رغم غموض مازال يحيط بكثير من تطوراتها لم تتم. ولكنها بقيت دوما فى خلفية مايجرى. كما بقيت مذكِّرة دوما بالدور الذى لعبته المياه فى الصراع العربى الاسرائيلى. وبالتذكير به كرقم أساسى فى معادلة الأمن القومى.

 

فى صفحات التاريخ نقرأ:

 

•  فى مارس ١٩٠٣ ومن نافذة فندق «شبرد»، الذى كان ينزل فيه، تأمل تيودور هيرتزل طويلا نيل القاهرة الذى يجرى أمامه قبل أن يذهب للقاء اللورد كرومر ليقترح عليه «أن نمد فرعا من النيل الى صحراء سيناء لنتمكن من توطين اليهود المهاجرين هناك»، وكانت مسألة توطين اليهود فى سيناء محل بحث وقتها، وموضوعا لمفاوضات ماراثونية يهودية بريطانية اشترك فيها تشامبرلين وزيرالمستعمرات البريطانية، وغيره من المسؤولين البريطانيين. اصطدمت على الدوام بعدم ترحيب بطرس غالى «الأب» وزير الخارجية المصرى أيامها، قبل أن تنهار تماما على صخرة الأسباب التقنية التى طرحها مهندس الرى البريطانى وليام جارستون الذى كان رأيه أن المشروع «غير عملى. فضلا عن أن البريطانيين أنفسهم لم يرحبوا بإيقاف الحركة فى قناة السويس لحين الانتهاء من حفر نفق لتمر به المياه أسفلها. (Stewart، Desmond. «Herzl’s Journeys in Palestine and Egypt.» Journal of Palestine Studies 3، No. 3 (1974): 18-38)

 

• فى عام ١٩٦٧، نشبت الحرب التى غيرت نتائجها مجريات الصراع فى الشرق الأوسط. ولم يكن «تحويل مجرى نهر الأردن» ببعيد عن كل ماجرى.

 

• فى عام ١٩٨٢ وتحت مسمى ربما كان ذا دلالة «عملية الليطاني»، أقدمت اسرائيل على غزو لبنان للسيطرة على نهر الليطانى، والذى وفر لها ٨٠٠ مليون متر مكعب من المياه سنويا.

 

• فى أوائل التسعينيات من القرن الماضى ظهر كتاب لخبير المياه الاسرائيلى «اليشع كيلي»، يعرض فيه من الناحية التقنية مشروعا متكاملا لتنفيذ فكرة هيرتزل القديمة (Kally، Elisha، and Gideon Fishelson. Water Resources and the Arab-Israeli Peace Process. Westport، Conn: Praeger، 1993)

 

...وغير ذلك كثير. دون مرة أخرى أن نذهب بتوقعاتنا بعيدا. أو أن نقع فى محظور اختزال الأمر كله فى «مؤامرات اسرائيلية» مفترضة. فالحقيقة أن المسألة أبعد من ذلك بكثير، وأننا وحدنا نتحمل المسؤولية كاملة.

 

•••

 

هل لمصر حق قانونى فى النزاع الحالى حول مياه النيل؟

 

الإجابة الواضحة والمختصرة: «نعم» وفى ذلك تفصيل كثير يكفى مراجعة اتفاقية فيينا لعام ١٩٧٨ الخاصة بالتوارث فى مجال المعاهدات الدولية والتى تقضى بعدم المساس بحقوق الدول النهرية

 

ولكن السياسة لم تكن أبدا قانونا فقط. فكما أهدرت السياسة يوما ما ما أتت به الحرب عام ١٩٧٣، هانحن نخشى اليوم أن نراها وقد أهدرت حقا قانونيا لم نعد فى المكان «أو المكانة» التى تمكننا من الحفاظ عليه.

 

والخلاصة أن السياسة المصرية تجاه ملف النيل فى السنوات الأخيرة جانبها التوفيق، إذ بدا أنها أنها اطمأنت كعادتها إلى «التوقع بالتمنيات». فطوال أكثر من عشر سنوات من المفاوضات لم ننتبه إلى إصرار دول المنبع على مطالبهم، بل ولم نكترث بأن هناك أبحاثا علمية تجرى هناك، ودراسات جدوى، ووفود تذهب وتجيء. لم نر جديدا هناك، رغم أنه كان يطرق بابنا كل يوم. لم يخدعنا أحد، فموقف الآخرين كان «واضحا ومحددا ومعلنا»، لعشر سنوات كاملة. ورغم ماجرى فى كينشاسا (٢٠٠٩) من خلاف بدا لكل ذى عينين أنه تجاوز خط اللاعودة، الا أن المنهج «الفرعوني» فى التفكير كان كعادته كافيا لعدم رؤية «عصا موسى تتحرك».

 

تغير العالم.. فرفضنا رؤيته يتغير. ورفضنا أن نعترف ولو لأنفسنا أننا تغيرنا، فكان طبيعيا أن يتغير الآخرون. رفضنا أن ندرك أن التمثال القائم فى جوهانسبرج هو لعبد الناصر الراحل منذ أربعين عاما، لا لأحد بعده. كما غفلنا عن أن ثلاثين عاما من الابتعاد والتعالى عن القارة «السوداء» التى كنا يوما الهاما لثوارها وقادتها له بالتأكيد تبعاته وآثاره. وبدا مضحكا أن من نسى تاريخه، يتحدث اليوم عن حقه التاريخى.

 

قبل سنوات ثلاث (٢٠١٠)، وبعد أن نبهت الصحافة المصرية الى أن هناك مشكلة فى الأفق، تذكرت مصر الرسمية أن هناك بلدا «يملك مفاتيح النهر» اسمه اثيوبيا. ولطمأنة المصريين الذين كانوا فى طريقهم الى صناديق الاقتراع. حرص التلفزيون المصرى «الرسمي» على اجراء حوارمع رئيس حكومتها ميليس زيناوى (توفى فى أغسطس من العام الماضي). وكان الرجل قد أدلى بحديث «للجزيرة» قبلها بأيام (١٩ مايو ٢٠١٠) قال فيه نصا: «أعرف أن البعض فى مصر لديهم أفكار بالية تستند إلى أن مياه النيل هى ملك لمصر وهى تمتلك الحق فى كيفية توزيع مياه النيل، وأن دول المنبع غير قادرة على استخدام المياه لأنها غير مستقرة وفقيرة».

 

مضيفا: «هذه الظروف تغيرت، فإثيوبيا فقيرة ولكنها قادرة على تسخير الموارد الطبيعية الضرورية لإقامة أى أشكال من البنى التحتية والسدود على النهر.. لا أرى ما يمنع مصر من الانضمام للركب، لن تستطيع مصر أن توقف إثيوبيا أو تمنعها من بناء سدود على النهر، هذا تاريخ ولن يكون جزءا من الحل، فالحل ليس هو محاولة مصر أن توقف ما لا يمكن وقفه».

 

قد يكون أن أية اجراءات قد تقوم بها أثيوبيا أو غيرها، لن يكون لها تأثير على الأرض قبل عشرين عاما على الأقل، كما طمأن سياسيون مصريون ناخبيهم يومها. ولكن تبقى حقيقة أن عشرين عاما فى عمر النهر، ليست أكثر من طرفة عين.

 

يومها بدا رغم اهتمام التلفزيون الرسمى بالحوار، وبالبلد الآفريقى «الشقيق» أن هناك من جاء متأخرا جدا فاثيوبيا / زيناوى، لم تعد هى الحبشة / هيلاسلاسى. وأن ما سمعناه يومها من الحاكم الأثيوبى، لم يكن أبدا تكرارا لما كان أسلافنا يسمعونه من «الامبراطور» فى حضرة «الزعيم» أو فى بهو الكاتدرائية المصرية فى العباسية.

 

•••

 

أين نحن الآن؟ ربما أمكن تلخيص شيء من الإجابة فى النقاط التالية:

 

 بعد سنوات من المفاوضات، خسر المصريون، ربما بلاعودة معركة التمسك بالاتفاقات القديمة. فما جرى قد جرى، والدول السبع التى وقعت فى عنتيبى، قد مضت خطوة الى الأمام كما قال لنا زيناوى قبل سنوات ثلاث ولا يعنيها من بعيد أو قريب أن يتمسك البعض باتفاقياتهم القديمة. «نحن نعيش فى قرن جديد» كررها الرجل إحدى عشرة مرة فى حديثه للتلفزيون المصرى، كأنما يقولها لمن لايريد أن يعترف بحتمية «التغيير».

 

الملف الذى ترك عشر سنوات كاملة للفنيين، رغم حقيقة مركزيته فى «الأمن القومي» المصرى، اتضح أنه سياسى بامتياز. ولم يعد العامل الحاسم فى المعادلة هنا، مقياس النيل ارتفاعا وانخفاضا، أو بندا فى اتفاقية هنا أو بندا هناك. وانما «قدرة» كل طرف على أن يصل الى أهدافه. ويعرف التاريخ والعلاقات الدولية أن لهذه القدرة عوامل ومعايير.

 

رغم تخوفٍ مشروع من أن دبلوماسية اللحظة الأخيرة جاءت بعد «أن سبق السيف العزل»، الا أن لاشيء غيرها ممكنٌ «وواقعي» الآن. شرط أن يكون لها استراتيجية واضحة، وأن لاتكتفى بالتعامل مع التداعيات دون النظر الى المسببات.

 

أن حل مشكلات حوض النيل بعد أن فات مافات يتطلَّب النظرة إلى الحوض كوحدة مائية واقتصادية وبيئية واحدة واعتراف كل دولة بحقوق الدول الأخرى، دون حديث استعلائى جرى اختباره. يقول الخبراء أن الطاقة الكهربائية فى إثيوبيا التى يمكن توليدها من النيل وحده تكفى كل دول الحوض، وأن إمكانيات السودان الزراعية، والثروة السمكية فى البحيرات الاستوائية تشكل آفاقا واسعة للتعاون. يبقى ذلك كله مرهونا «بالسياسة».

 

•••

 

وبعد..

 

فلا أحد يملك بحسابات المسؤولية التاريخية أن يهون من الأمر، فـ «مصر هبة النيل»، ليس مجرد قول مأثور لمؤرخ مشهور، ولاعبارة يبدأ بها التلاميذ مواضيع الانشاء. بل هى حقيقة حفرتها الجغرافيا فى كتاب التاريخ. وعبر آلاف السنين كان النيل دوما أشبه «بالحبل الشوكي/ العصبي» الذى يربط الجسم كله زراعة واقتصادا وتكاملا «ودولة مركزية». يحدثنا المقريزى أن الناس فى مصر «كانت تأكل بعضها بمجرد أن ينقص مقياس النيل لأقل من ١٦ ذراعا».

 

ولكن لاأحد يملك اليوم، وأيضا بحسابات المسؤولية التاريخية، أن يتحدث «حديث السادات» مهددا بقصف أديس أبابا «منجستوهيلاماريام»، فتلك لغة «قرن فات»، وارجعوا الى حديث زيناوى واشاراته الإحدى عشرة.

 

•••

 

«النيل نجاشي» نعم منذ أن عرفناه قبل آلاف السنين. ولكن عرفنا أيضا أن أحدا لم يبخل به يوما ــ حبا أو احتراما ــ على مصر.. «التى كانت».

 

واقرأوا التاريخ.

 

 

النِّجاشِيّ: فى «لسان العرب» هوكلمةٌ للحبَش تُسَمى بها ملوكها.

والكلمة فى اللغة العربية منذ بداية عهد الدعوة الإسلامية، فقد أذِن الرسول [ لعدد من أصحابه الذين لَقُوا الاضطهاد من قريش فى الهجرة إلى أرض الحبشة «فإن فيها ملِكا لا يُظلَم عنده أحد»، وكان لقب ذلك الملك «النجاشي».

 

أيمن الصياد  كاتب صحفى
التعليقات