عن مغزى مصاحبة «الدولرة» لسياسة «التعويم» - محمد يوسف - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 4:58 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عن مغزى مصاحبة «الدولرة» لسياسة «التعويم»

نشر فى : الأحد 9 يوليه 2017 - 9:35 م | آخر تحديث : الأحد 9 يوليه 2017 - 9:35 م

عندما لجأت السياسة الاقتصادية لتحرير قيمة الجنيه المصرى فى سوق الصرف الأجنبى، فيما عُرف بسياسة «تعويم الجنيه»، دقت طبول الدعاية المصاحبة لها لتقدم التبريرات الاقتصادية على سلامة هذا المنحى الاقتصادى الجديد. فمن قائل إن هذا «التعويم» هو بمثابة إعادة الأمور الاقتصادية لنصابها الصحيح، لأنه سيجعل منظومة الأسعار، وعلى رأسها سعر الصرف، تعكس التكاليف الحقيقية فى الأسواق. ومن قائل إنها تمثل دعما قويا للصادرات المصرية فى الأسواق الدولية، نتيجة للتنافسية السعرية المترتبة على الانخفاض فى القيمة الخارجية للجنيه. ومن قائل إنها الوسيلة الوحيدة للتصدى للظواهر الاقتصادية السلبية، كظاهرة الدولرة، كنتيجة للقضاء على السوق الموازية للصرف الأجنبى.
ولأن المبررات الاقتصادية التى تُساق للدفاع عن سياسة التعويم كثيرة، وبُح صوت كاتب هذه السطور فى تفنيد أغلبها، ولأن ظاهرة الدولرة من أهم الظواهر السلبية فى أى اقتصاد نامٍ، لتأثيرها السلبى على السياسات الاقتصادية الإنمائية التى تتبناها الحكومة، فإن الفقرات التالية تُحلل ما إذا كانت سياسة التعويم، التى مر على تطبيقها زُهاء العام، قد نجحت فى محاصرة تلك الظاهرة، حتى نتمكن من التقييم الموضوعى لأحد أهم مبررات اللجوء لهذه السياسة.
***
اقتصاديا، تعنى الدولرة Dollarization الهروب من العملة الوطنية التى تعانى من فقدان لوظائفها الأساسية، كوسيلة للعد الاقتصادى ووسيط للمبادلات وأداة لتسوية المديونيات، واللجوء للدولار الأمريكى، أو لأى عملة قابلة للتحويل، كملاذ آمن لتخزين واكتناز القيمة، وكأداة لتحقيق أرباح قدرية نتيجة للارتفاع المتوقع فى سعر الدولار أمام العملة الوطنية. ومن المعلوم أن هذه الظاهرة تنتشر فى أغلب الدول النامية المدينة نتيجة لمعاناتها من ثلاث فجوات اقتصادية رئيسية:
ــ الفجوة الأولى هى فجوة النقد المحلى أو فجوة التمويل المحلى. فالدول المدينة غالبا ما تعانى من الاختلال بين الطلب على عملتها المحلية وبين المعروض منها، وخصوصا حال الإفراط فى طبع النقود لتمويل عجز الموازنة العامة. وتنعكس تلك الفجوة فى شكل زيادة حادة فى معدل التضخم السائد وفى سلبية سعر الفائدة الحقيقى. وفى ضوء تآكل المدخرات النقدية بالعملة المحلية، تنشأ ظاهرة الدولرة فى السوق. ذلك لان ارتفاع معدل التضخم وتآكل القوة الشرائية للنقد المحلى يجعل الدولار هو الأداة الأكثر ملاءمة للمحافظة على الثروة النقدية من التآكل بفعل هذا التضخم المُستشرى.
ــ والفجوة الثانية هى فجوة النقد الأجنبى. فبالإضافة للفجوة الأولى فى النقد المحلى، تُعانى نفس الدول المدينة من اختلال مُزمن فى سوق الصرف الأجنبى. ويظهر ذلك فى تفوق الطلب المحلى على العملات الأجنبية على المعروض منها. والنتيجة المنطقية لتلك الفجوة هى ظهور السوق الموازية للعملات الأجنبية، وما يصاحبها من فوضى نقدية وتعدد فى أسعار الصرف، وبما يُضعف، فى النهاية، من سيطرة السلطات النقدية على هذه السوق. وإذا كانت فجوة النقد المحلى تنشئ ظاهرة الدولرة، فإن فجوة النقد الأجنبى تُفاقمها وتزيد من حدتها. وليس ذلك بالأمر المستغرب، فالطلب المحلى على النقد الأجنبى، وتوقعات تراجع سعر العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية، يجعل اللجوء للدولرة أمرا حتميا، وخصوصا من قبل شركات الاستثمار الأجنبى والمستوردين وكبار المدخرين.
ــ أما الفجوة الثالثة فهى فجوة التجارة الخارجية، والتى تمثل خللا إضافيا، ولكنه خلل فى الجوانب الحقيقية، وليست النقدية كما فى الفجوتين الأولى والثانية. فتفوق واردات أغلب الدول المدينة على صادراتها يعتبر سببا ونتيجة لظاهرة الدولرة. فبينما يرتفع الميل للاستيراد فى تلك الدول، تقل فى المقابل القدرات التصديرية لها. وينعكس ذلك الخلل فى تزكية ظاهرة الدولرة لتسوية المعاملات الدولية فى قطاعى التجارة والتمويل الآجل.
وليس يخفى وجود تفاعل بين الفجوات الثلاث، وهو ما يُفاقم، فى المحصلة الأخيرة، من ظاهرة الدولرة فى تلك الدول. وإذا تزامن مع تلك الفجوات تطبيق سياسة اقتصادية لا تأخذ بعين الاعتبار الأسباب الحقيقية لنشوء وتفاقم تلك الظاهرة، أو اقتصرت على مواجهة أحد المسببات وأغفلت الأخرى، فإن هذه السياسة تعجز عن محاصرتها، ويظل الهروب من العملة الوطنية والإمعان فى الدولرة هو التوجه السائد فى النظام النقدى للدولة.
****
أما عن أثر سياسة التعويم على الدولرة فى الاقتصاد المصرى؛ فإن المدقق فى مدى معاناة الاقتصاد المصرى من الفجوات الثلاث آنفة الذكر، ومسئوليتها فى استشراء ظاهرة الدولرة، يمكنه أن يرى بوضوح كيف أن السياسة الاقتصادية المصرية عندما اتخذت قرار التعويم، ركزت فقط على التصدى للأسباب النقدية لهذه الظاهرة، ولم تولِ الاهتمام الكافى بأسبابها الحقيقية (وخصوصا انخفاض نسبة المكون المحلى فى الأداء الاقتصادى). آية ذلك أن هذه السياسة اقتنعت بأن القضاء على الدولرة لا يحتاج إلا لتقليل العائد الآنى الذى يجنيه المضاربون من الاحتفاظ بالدولار فى صورة سائلة. ولذلك تجدها تركت سعر الصرف ينخفض فى سوق الصرف الرسمى ليصل لنظيره فى السوق الموازية (وصل لما دون 18 جنيها للدولار)، وزادت من العائد على الادخار بالجنيه فى سوق رأس المال (وصل سعر الفائدة الاسمى على الإيداع لمستوى 16.75%).
ومن المؤكد أن هذه الإجراءات النقدية وإن كانت قد قللت من العائد الآنى من الدولرة، فإنها لم تؤثر البتة على العائد المتوقع منها فى الأجلين المنظور والمتوسط، فضلا عن الطويل. ذلك لأن المعالجات النقدية لفجوة التمويل المحلية وفجوة الصرف الأجنبى وفجوة التجارة الخارجية لم تأخذ فى اعتبارها الأثر السلبى على معدل التضخم ولا على الاستثمار المحلى ولا على قطاع الصادرات. فمن المعلوم أن الزيادة الكبيرة فى سعر الفائدة والانخفاض الشديد فى قيمة الجنيه تزيد، بنفس الدرجة تقريبا، تضخم التكاليف وتقلل من بواعث الاستثمار الإنتاجى ولا تُحسن تلقائيا من تنافسية الصادرات المصرية. وبالتالى، فإن «حوافز الدولرة» ستظل موجودة فى جسد الاقتصاد المصرى، ومصاحبة لسياسة التعويم الحالية، طالما ظلت الفجوات الثلاث المشار إليها على اتساعها الحالى.
***
قبل عرض الشروط التى نراها أساسية للقضاء على ظاهرة الدولرة فى مصر، دعنا نقرر أن التصدى لهذه الظاهرة لن تُحدثه الحلول النقدية دون الحقيقية، ودعنا نقرر كذلك أن تعويم الجنيه ليس المخلص من هذه الظاهرة كما يدعى أنصار التعويم، بل قد تتزامن، أو حتى تتفاقم، الدولرة بعد اتخاذ قرار التعويم. وتأسيسا على ذلك، فإن الشروط الضرورية للقضاء على هذه الظاهرة المرضية تتمثل فى تضييق فجوات الاقتصاد المصرى المشار إليها من خلال:
ــ تطوير سياسات الاستثمار الوطنى، بتحفيز نسبة المكون المحلى فى الاستثمارات القائمة والجديدة، مع توجيه تلك الاستثمارات للقطاعات مرتفعة القيمة المضافة. فكلما زادت هذه النسبة فى الاستثمار الإجمالى، قلت فى المقابل التوقعات المستقبلية بانخفاض قيمة الجنيه أمام الدولار، وهو ما يجفف من حوافز الدولرة تدريجيا.
ــ تدعيم الطاقة التصديرية للاقتصاد المصرى، عبر تعزيز الكفاءة الإنتاجية لعناصر الإنتاج المشتغلة فى قطاع التصدير، وعبر زيادة الدعم النقدى الموجه للصادرات، وخصوصا الصناعية منها. وفى ذات الوقت، وضع مزيد من القيود على الاستيراد، وخصوصا الترفى والكمالى منه. وكلما نجحت السياسة التجارية فى ضبط قطاع التجارة الخارجية، وتقليل العجز فى الميزان التجارى، كلما اثر ذلك ايجابيا على سوق الصرف الأجنبى، وقلل من حوافز الدولرة تدريجيا.
ــ إعادة النظر فى الزيادات الأخيرة فى سعر الفائدة، مع إعادة الاعتبار لسياسة أسعار الفائدة التفضيلية، ومد مظلتها لتشمل الصناعات الصغيرة والمتوسطة والكبيرة، طالما كانت تعتمد على مكون محلى مرتفع، وطالما تخصصت فى القطاعات مرتفعة القيمة المضافة أو توجهت للتصدير.
هذه أهم الشروط التى نرى ضرورتها لمحاصرة ظاهرة الدولرة فى الاقتصاد المصرى، وهى شروط تنبثق من رؤيتنا لهذه الظاهرة فى إطار نظرة كلية، باعتبار الدولرة انعكاسا لمشكلة أعمق واشمل، وهى مشكلة الاعتماد الاقتصاد المصرى المتزايد على الخارج. ومن هنا، فإن القضاء المبرم على هذه الظاهرة ليس بتعويم الجنيه المصرى، ولكنه بصياغة برنامج اقتصادى وطنى يجعل الاعتماد على الذات أساس النمو الاقتصادى المصرى ومفتاح نهضته الشاملة.

محمد يوسف باحث رئيسي في مركز تريندز للبحوث والاستشارات بدولة الإمارات
التعليقات