لا تخدعوا أنفسكم - عمرو حمزاوي - بوابة الشروق
الثلاثاء 16 أبريل 2024 6:37 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

لا تخدعوا أنفسكم

نشر فى : الأربعاء 9 سبتمبر 2015 - 7:55 ص | آخر تحديث : الأربعاء 9 سبتمبر 2015 - 7:55 ص

أوروبا التى تغرقها اليوم الحروب الأهلية والاستبداد والعنف فى بلاد العرب فى موجة بشرية عاتية تطرق أبوابها (الأرض والشواطئ) نزوحا وارتحالا وهجرة وطلبا للجوء، أوروبا هذه سبق أن أغرقت العالم فى ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين بفاشيتها وحروبها فى موجة مشابهة لم تغب أبدا حقائقها الصادمة ومشاهدها المخزية.

1933، أحكم النازيون سيطرتهم على المجتمع والدولة وسرعان ما وظفوا آلتهم القمعية لتعقب واضطهاد ومصادرة الملكية الخاصة للمواطنين المنتمين للديانة اليهودية لدفعهم إلى الارتحال بعيدا عن الأرض التى امتهنت النازية تراثها الإنسانى المستنير والمتسامح (تطور فى القرن السابع عشر فى أعقاب الحروب الدينية) وفرضت عليها العداء للسامية والفكر التآمرى والعقاب الجماعى وكراهية الآخر مكونات لهستيريا عنف عام. ارتحلت أعداد كبيرة من الأسر الألمانية المنتمية للديانة اليهودية إلى الجوار الأوروبى (إلى سويسرا وفرنسا وبريطانيا ودول أخرى) وارتحلت أعداد أكبر إلى أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية وإلى ملاذات آمنة أخرى فى موجة هجرة ولجوء أولى واسعة النطاق.

1938، شرع النازيون فى توظيف الصمت العالمى على جرائمهم واستخدام آلتهم العسكرية لالتهام الدول المجاورة، من النمسا التى ضمت دون حرب إلى أجزاء من تشيكوسلوفاكيا السابقة ومن بولندا التى احتلت عسكريا ودفعت تداعياتها إلى نشوب الحرب العالمية الثانية. هنا تشكلت موجة هجرة ولجوء ثانية شملت يهود أوروبا الذين نجوا من محارق النازية ومن دمار جيوشها التى كانت تغزو وتخضع بسرعة فائقة، ومجموعات عرقية ذات خصوصية كقبائل الغجر (الروما والسينتى تحديدا)، وأعداد كبيرة من العلماء والمبدعين والفنانين والمفكرين والكتاب والسياسيين ممن رفضوا الاستسلام للفاشية وبحثوا عن الحرية بعيدا عنها. وكان أن اتجهت هذه الموجة الأوسع من سابقتها والتى تواصلت حتى نهاية الحرب العالمية الثانية فى 1945 إلى أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية بصورة أساسية، وكان أن تمكنت المجتمعات المستقبلة للنازحين والمهاجرين واللاجئين من استيعابهم على نحو أفضل ونجحت فى الإفادة من قدراتهم العلمية والفنية والفكرية والاقتصادية أيضا. وعلى هامش موجة الارتحال إلى الأمريكيتين، نزحت مجموعات سكانية كبيرة داخل القارة الأوروبية هربا من جيوش النازية والفاشية وهربا من الحروب الدامية (خاصة فى أراضى الاتحاد السوفييتى السابق) وتكررت ذات المأساة فى بعض مناطق القارة الآسيوية على وقع الاجتياح والاستعمار اليابانى.

1945، هزمت النازية الألمانية والفاشية الإيطالية وهزمت عسكرية القتل والدمار فى اليابان وترتب على ذلك موجة نزوح وارتحال ثالثة كان ضحاياها السكان الألمان للأجزاء الشرقية من ألمانيا النازية (بروسيا الشرقية) التى احتلتها الجيوش الروسية وأعملت فيها جنون الانتقام من الغزاة المهزومين (غزت الجيوش النازية الاتحاد السوفييتى فى 1941 وقتلت ملايين الأبرياء)، وكان ضحاياها أيضا من الأسر اليابانية التى أرسلتها الفاشية للاستيطان فى «المستعمرات» اليابانية المنتشرة فى مناطق آسيوية مختلفة ورتبت الهزيمة العسكرية اعتداءات ممنهجة ضدها وعنف واسع النطاق وتهجير مأساوى باتجاه وطنهم المدمر. لم تنجح ألمانيا المهزومة ولا اليابان المدمرة فى استيعاب النازحين والمهجرين واللاجئين بيسر، وأضافت عذابات «العائدين» إلى مأساة الخراب العام الذى خلفته النازية والفاشية وعسكرية القتل فى البلاد التى تسلطوا عليها.

تعلم الكثير من الأوروبيين درس الثلاثينيات والأربعينيات المروع وأسسوا لتجارب ديمقراطية وتنموية نجحت واستقرت وأبعدت شبح الفاشية والحرب، بل تحرك الأوروبيون المنخرطون فى جماعة ثم فى اتحاد لمساعدة جوارهم فى شرق ووسط وجنوب قارتهم لتطبيق مبادئ الديمقراطية والتنمية المستدامة ولتجاوز حروب أهلية عصفت ببعض المجتمعات ورتبت موجات لجوء محدودة نسبيا (الحرب الأهلية فى يوغسلافيا السابقة ولجوء أعداد مؤثرة من سكان الدولة التى انهارت وتفتت إلى بلدان أوروبا الغربية).

واليوم، تخدع أوروبا ذاكرتها التاريخية وعقلها الجمعى إن ظنت إن موجة اللجوء العاتية القادمة إليها من بلاد العرب ستتراجع أو تسمح بالسيطرة عليها ما لم تتخلص المجتمعات العربية من الفاشية والاستبداد والتطرف والتخلف وتنفتح على تجارب ديمقراطية وتنموية حقيقية.

 

عمرو حمزاوي أستاذ علوم سياسية، وباحث بجامعة ستانفورد. درس العلوم السياسية والدراسات التنموية في القاهرة، لاهاي، وبرلين، وحصل على درجة الدكتوراة في فلسفة العلوم السياسية من جامعة برلين في ألمانيا. بين عامي 2005 و2009 عمل كباحث أول لسياسات الشرق الأوسط في وقفية كارنيجي للسلام الدولي (واشنطن، الولايات المتحدة الأمريكية)، وشغل بين عامي 2009 و2010 منصب مدير الأبحاث في مركز الشرق الأوسط لوقفية كارنيجي ببيروت، لبنان. انضم إلى قسم السياسة العامة والإدارة في الجامعة الأميركية بالقاهرة في عام 2011 كأستاذ مساعد للسياسة العامة حيث ما زال يعمل إلى اليوم، كما أنه يعمل أيضا كأستاذ مساعد للعلوم السياسية في قسم العلوم السياسية، جامعة القاهرة. يكتب صحفيا وأكاديميا عن قضايا الديمقراطية في مصر والعالم العربي، ومن بينها ثنائيات الحرية-القمع ووضعية الحركات السياسية والمجتمع المدني وسياسات وتوجهات نظم الحكم.
التعليقات