اقتصادنا بعينى الأستاذ - وائل جمال - بوابة الشروق
الثلاثاء 16 أبريل 2024 4:57 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

اقتصادنا بعينى الأستاذ

نشر فى : الأحد 9 أكتوبر 2011 - 9:35 ص | آخر تحديث : الأحد 9 أكتوبر 2011 - 9:35 ص

«لو كان مذهبك يقول: إن الأسواق الحرة لو تركت لحالها ستؤدى لأفضل النتائج الممكنة وأن التدخل الحكومى فى الاقتصاد دائما ما يجعل الأمور أسوأ، فكينز عدوك وهو عدو خطير على نحو استثنائى». هذا ما كتبه بول كروجمان الاقتصادى الأمريكى الحائز على نوبل فى مقدمة الطبعة الجديدة من الكتاب العمدة للمفكر الاقتصادى الانجليزى الكبير جون ماينارد كينز «النظرية العامة للتشغيل والفائدة والنقود»، والصادرة فى وقتها تماما بالعربية عن دارى كلمة والعين بترجمة إلهام عيداروس ومراجعة د.عبدالله شحاتة.

 

لكن لاعجب أن خصصت صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية اليمينية المحافظة فى 8 يناير 2009 صفحة كاملة عن كينز. فالسبب واضح: الاقتصاد فى أزمة والموضة هى تدخل الدولة.

 

هذا رجل وضع نصب عينيه إنقاذ الرأسمالية من الرأسماليين خلال الكساد الكبير فى الثلاثينيات. صاغ هذا الاقتصادى الانجليزى ثورة فى التفكير الاقتصادى قالبا رأسا على عقب الأفكار القديمة، التى تقول إن الأسواق الحرة ستؤدى فى الأجلين القصير والمتوسط بشكل أوتوماتيكى إلى التشغيل الكامل. وفى أعقاب الحرب العالمية الثانية، تبنت حكومات الغرب أفكار كينز حول ضرورة تدخل الدولة الاستثمارى ورفع الأجور لتفعيل الطلب «الذى يحدد المستوى العام للنشاط الاقتصادى». نجحت أفكار كينز لإصلاح الرأسمالية، مع ما سمى باقتصاد التسليح الدائم، فى قيادتها لأطول ازدهار اقتصادى فى تاريخها، من 1945 وحتى بداية السبعينيات. ومع دخول الاقتصاد العالمى مرة أخرى فى الكساد، بتراجع معدلات الأرباح وصدمة أسعار النفط، تصاعد النفوذ الأكاديمى والسياسى لأنصار اليد الخفية، أو فكرة السوق التى تنظم نفسها بنفسها، بانسحاب الدولة والخصخصة وتحرير التجارة العالمية. ودشنت سياسات رونالد ريجان فى أمريكا ومارجريت تاتشر فى بريطانيا عصرا جديدا ساد العالم شرقه وغربه بوصفته المعممة لإطلاق يد الأسواق والشركات الكبرى فى تحديد مصائر إدارة الاقتصاد.

 

 

كيف عاد الأستاذ؟

 

أى فشل عظيم يجبرنا على إعادة النظر. يقول لنا روبرت سكيدلسكى الاقتصادى البريطانى ومؤرخ حياة وأفكار كينز إن الأزمة الاقتصادية العالمية الحالية هى «أعظم فشل لنظام السوق». وهو ما يتفق معه الملياردير الأمريكى جورج سوروس مؤكدا أن «الملمح الملحوظ فى الأزمة المالية هو أنها ليست ناتجة عن صدمة خارجية مثل أوبك.. الأزمة تولدت من النظام ذاته».

 

ويرصد سكيدلسكى ثلاثة أنواع من الفشل للسوق: الأول مؤسسى يتعلق بالبنوك والمؤسسات المالية والحكومات التى تبنت نظرية كفاءة السوق: أن السوق قادرة وحدها على وضع السعر الصحيح دائما لكل السلع، وأن تدخل الدولة أو المنظم سيمنعها من ذلك. أما الفشل الثانى فهو فكرى أسقط مصداقية النظريات الاقتصادية السائدة، التى فشلت فى التنبؤ بالانهيار أو تفسيره على حد سواء. ويبقى الفشل الثالث لنظام السوق أخلاقيا، كما يضيف سكيدلسكي: «فشل لنظام قائم على الاستدانة. وفى القلب منه عبادة للنمو فى حد ذاته عوضا عن أن يكون طريقا لتحقيق حياة أحسن، وهكذا أصبح التفكير والسياسة الاقتصاديان يعطيان الكفاءة الاقتصادية، وسيلة النمو، الأولوية المطلقة على كل شيء. حتى وان كان حياة البشر».

 

أما فكرة كينز الكبرى فهى استخدام السياسة الاقتصادية الكلية لتحقيق التشغيل الكامل. وكان اقتراحه المحدد هو استخدام السياسة النقدية لتأمين أسعار فائدة منخفضة فى نفس الوقت الذى تقوم فيه السياسة المالية (الانفاق الحكومى) بتحقيق مستوى متواصل من الاستثمار الحكومى أو نصف الحكومى. ومن ثم تشجع الأخيرة على تشجيع الطلب الاستهلاكى بإعادة توزيع الدخل من الشرائح الأغنى إلى الأقل دخلا وادخارا. بذلك يتحدى كينز فكرة أساسية سائدة أخرى هى أن خفض الأجور هو طريق التشغيل الكامل، يقوم عليها تصور كامل لرافضى رفع الأجور.

 

تقوم الفكرة على أن كل عامل زاد دخله أو وجد وظيفة بسبب استثمار الدولة، الذى يمول بالعجز، سينفق أجره موفرا سوقا لما ينتجه غيره من العمال، الذين بدورهم سينفقون أجورهم لتتوسع السوق أكثر وأكثر. وبينما يتوسع الاقتصاد مقتربا من التشغيل الكامل، فإن إيرادات الحكومة تزيد من الضرائب على الدخل والانفاق، إلى أن تتمكن من تغطية ما أنفقته سابقا بالدين.

 

 

السياسة والمصالح

 

فى مقال بمجلة «فورين أفيرز» الأمريكية، عنوانه «لماذا يزداد الأغنياء ثراء»، يرصد روبرت ليبرمان أستاذ العلوم السياسية بجامعة كولومبيا مفارقة بين ارتفاع البطالة لأعلى معدلاتها فى 30 عاما وانخفاض دخول العمال الذين حافظوا على دخولهم بصعوبة، وبين وضع الـ% الأكثر ثراء الذين زاد دخلهم بشدة بينما تراجع دخل 95 % من الأمريكيين خلال عام 2009، واصفا النظام الذى يؤدى إلى ذلك بنظام «الفائز يأخذ كل شىء». يقول ليبرمان إن هذا الوضع ليس فقط نتاجا لميل الأسواق. وإنما أيضا بسبب الانحياز السافر للساسة والمؤسسات السياسية، وعلى رأسها الكونجرس، لصالح الأغنياء. تركز الثورة الهائل ليس فقط نتاجا لاقتصاد الأسواق الحرة وإنما أيضا فرز النظام السياسى الذى يحتضنه.

 

بذلك يمكن فهم كيف تلقفت الأسواق المالية، التى تفجرت الأزمة من عندها، كينز ليعاد اكتشاف أفكاره المدافعة عن تدخل الدولة لضبط تشوهات السوق، لما كان معنى ذلك ضخ الأموال بالتريليونات فى حزم الإنقاذ التى استهدفت البنوك المنهارة. وكيف رجع السياسيون ورجال الشركات الكبرى والاقتصاديون من أتباعهم مرة أخرى لقواعدهم سالمين بعدها مطالبين بتخفيض الأجور والإنفاق العام والتقشف عندما تعلق الأمر بالفقراء والعمال، فيما نشهده حاليا فى سياسات اقتصادية تجتاح أوروبا وتحاول شق طريقها فى مصر برغم الثورة.

 

 

إصلاح أم ثورة؟

 

وقت أن كان العالم ينزلق إلى الكساد الكبير كتب كينز يقول: «لدينا مشكلة فى جهاز التشغيل (مولد التيار)»، أى أن النظام بحاجة لمولد جديد للتيار وليس لاستبدال السيارة كلها». وهاهو العالم ينزلق إلى كساد جديد أكثر قسوة على الملايين، لا يبدو فيه الرأسماليون راغبين فى أن ينقذهم أحد.

 

لكن كينز، وإن توقفت بصيرته عن تجاوز النظام الذى يخلق كل هذا البؤس، يعطينا شيئين لا غنى عنهما للسياسة الاقتصادية فى مصر والعالم فى هذه اللحظات غير العادية فى التاريخ: الأول هو تحد علمى موثق ورصين وسارٍ لنظريات وأفكار فى إدارة عيشنا فشلت فى تجاوز اختبارات الواقع. يقول كينز فى مقدمة كتاب «النظرية العامة»: «كان تأليف هذا الكتاب بالنسبة للمؤلف عبارة عن نضال طويل من أجل الهرب من الطرق المعتادة فى التفكير والتعبير» فى محاولة لتحرير الاقتصاديين من القيود الفكرية التى جعلتهم غير قادرين على فهم الكساد الكبير.

 

أما الأمر الثانى، فهو أنسنة الاقتصاد واستعادته من عالم النماذج الرياضية الجاف والقاصر، الذى يصب الربح صبا فى جيوب، ويدمر حياة الملايين فى نفس الآن. يقول سكيدلسكى فى كتابه «عودة الأستاذ» إن الأزمة ألقت الضوء على قضايا إنسانية أخلاقية تتعلق بالبيئة والرفاه وعلاقة الاقتصاد بحياة الناس، وإن كينز فى ذلك لديه على الأقل شيء واحد يقوله يخص النمو: لو كان النمو وسيلة لغاية، فكم من النمو كافٍ؟ وما هى الأهداف الإنسانية القيمة الأخرى التى قد يهدرها هذا التركيز الأحادى على النمو الاقتصادى؟ وهى أسئلة قد تعنى إجاباتها «سيارة» أو نظاما اقتصاديا جديدا، أكثر كفاءة لأنه أكثر إنسانية.

وائل جمال كاتب صحفي
التعليقات