أحلام راضي - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 10:35 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أحلام راضي

نشر فى : الجمعة 9 نوفمبر 2018 - 11:50 م | آخر تحديث : الجمعة 9 نوفمبر 2018 - 11:50 م

كان الليل طويلًا، والساعات الرحبة تمتد في كرم وسخاء، والأفق الداكن يغشى الطرقات والبيوت، وينعم عليها بسلامٍ لا يقضُّه أرقُ المضاجع، وقلقُ الساهرين.
طاف بالسيارة في شوارع المدينة، انعطف يمينًا ويسارًا ودار حول الميادين الكبيرة؛ معالمٌ يحفظها منذ الطفولة عن ظهر قلب، وأخرى لاحت في ناظريه جديدة. زال ما زال من ذاكرته، واحتفظ بالقليل فيها.
***
لم تتح له فرصة التجوال شرقًا وغربًا منذ زمن طال؛ له أعوام يمارس عمله بإتقان وتفان، يذهب إلى مكتبه، ومنه إلى موقع من مواقع العمل حيث يقضي نهارًا أو يبيت. يتابع العمال، يراقب ما يصنعون، يعطي الأوامر والملحوظات، ويعقد الاتفاقات، ويسعى إلى إنهاء المستندات، واستخراج ما يلزم من أوراق. كهذا هي أعمال المقاولات؛ تستوجب الجد والانتباه، وقدرًا وافرًا من المثابرة والمناورة والعناد.
فتح نافذة السيارة شاعرًا بالاختناق، لم يكن الطقس حارًا لكنها الذكريات؛ الشقة التي اضطر مؤخرًا إلى بيعها، والسيارة الأحدث التي تنازل عنها جبرًا لا طواعية، والأولاد الذي سيواجهون إن آجلًا أو عاجلًا، مشقة الانتقال إلى مدرسة أقل مستوى.
***
في لحظة فارقة تعرض راضي للإزاحة، لا وفقًا لقوانين الفيزياء والطبيعة، بل خرقًا لها. ضاق المجال أمامه ولفظته السوق إلى الهامش بدلًا مِن قلبها، ثم ضاق به الهامش أيضًا؛ فاعتصره اعتصارًا. ظل يقاوم حتى آخر رمق؛ فيقبل بما يقيم معيشته ويحفظ ماء الوجه، إلى أن انغلق الهامش تمامًا وأظلم الأفق، ولم يكن الوحيد في كبوته؛ فقد أصابه ما أصاب أقرانه ورفاقه واحدًا تلو الآخر دون أن ينجو أحد.
***
رنَّ محموله فأجاب الداعي، توصيلة أخرى لا يهتم بتفصيلاتها؛ لا يملك الرفض ولا يعبأ بالمكان. منذ أن التحق بأوبر والأمر سيان، ومنذ ان تغيرت قواعد السوق والحال قد انقلبت رأسًا على عقب، ولم يعد في طاقته البقاء، ولا في إمكاناته الاستمرار؛ كانت ضوابط المصارعة مجحفة.
***
ذوي وذبل وانحنى وهو بعد شاب. تقلَّص وتقشَّف وربط ما استطاع من أحزمة؛ إنما هيهات. توقف في النهاية بعد أن بذل ما في وسعه؛ صفى مكتبه وسوى حساباته، وانضم إلى آلاف القابعين وراء مقود سيارة؛ ينتظرون الإشارة.
***
ركب زبون ألقى بمزحة، ومدَّ حبال الوصل والكلام، وبمجرد أن اطمأن إلى نوايا جاره وأفكاره؛ راح يفرغ ما حمل من هَمٍ في الأحشاء. لم يكُف عن الحكي على مدار نصف الساعة، ثم غادر السيارة، تاركًا راضي يجتر ما كان قبل عام أو بعض عام. لم تضنيه يومًا الحاجة ولا أوجعته الحكايات، لكنه صار مكروبًا؛ تفرز عيناه الدموع بلا خجل كلما أنصت لعابر، واستجلبت الكلمات إلى نفسه شجونًا لا قبل له بمواجهتها.
***
استقبلته زوجه بابتسامة واسعة، فتحت ذراعيها مُتهللة وهي تزف إليه البشرى. قالت إنها قد وجدت الحل لأزمتهما؛ فثمة وظيفة شاغرة في المؤسسة الكبرى ذاتها، يمكنه أن يتقدم لها. المعايير بكل تأكيد عادلة، والشروط في سيرته ومؤهلاته متوفرة، وربما يتمكن عبر علاقاته من العثور على "واسطة"، تدعم قبوله وتضمنه، وتجعل من الفرصة يقينًا لا احتمالًا. سوف يعمل تحت غطاء المؤسسة في أمان، سوف يصبح جزءًا من هذا الكيان، ولن يمكن في هذه الحال طرده أو إزاحته. لا شك الآن أنهما سيسترجعان بالتدريج حياتهما السابقة، ولن يضطر الولدان لما يكرهان. طابت نفسه وأخذ يستفسر منها عما لديها من معلومات، همت بالحديث لكن المصباح انطفأ ودهمهما السواد.
***
فتح عينيه ببطء، نظر حوله فألف نفسه في السيارة لم يغادرها. كانت العقارب تشير إلى الثالثة ما بعد منتصف الليل، غفا كما اعتاد في هذا الوقت منذ تبدلت مهنته. تمم على ما يحمل من أغراض ومتعلقات، مد يده إلى جيب السترة يتحسس الحافظة، فيما أفتر ثغره عن ابتسامة صغيرة؛ تحمل من المرارة أضعاف ما تحمل مِن رضاء.
***
رن المحمول من جديد، فحملق بعينين حمراوين في الشاشة الصغيرة، ثم أدار المفتاح وضغط دواسة البنزين، متوجهًا إلى العنوان الذي سيلتقط منه الراكب التالي، وقد ارتسمت على زجاج السيارة بقايا الأحلام التي راودته منذ قليل. أحلام لا يجسدها الواقع ولا يشبعها، أحلام منقوصة البهجة منزوعة الرضاء. أحلام راضي.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات