يوم مع.. أسماء البكرى - كمال رمزي - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 11:54 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

يوم مع.. أسماء البكرى

نشر فى : السبت 10 يناير 2015 - 8:00 ص | آخر تحديث : السبت 10 يناير 2015 - 8:00 ص

فى باريس، عشت واحدا من الأيام المتلألئة فى الذاكرة، والسبب: أسماء البكرى.

الحكاية، ترجع إلى معهد العالم العربى فى «مدينة النور»، حين كانت الناقدة ماجدة واصف، تنظم، بكفاءة، مهرجان السينما العربية. لا يفوتها، إلى جانب مسابقة الأفلام، إقامة ندوات وحلقات بحث، وصلت لذروتها بإصدار مجلد ضخم وثمين وأنيق، يعد الأهم باللغة الفرنسية، بمناسبة مرور مائة عام على السينما المصرية.. كنا، صديقى العزيز، الراحل، فايز غالى، من ضيوف المهرجان.. دأبنا، يوميا، على محاولة زيارة الأماكن الشهيرة.. غالبا، كفلاحين، نفشل بانتظام فى الوصول لمبتغانا. نتوه بين خطوط المترو المتقاطعة، تحت الأرض، كذلك لا نعرف طريقنا على اليابسة.. قبل السفر إلى فرنسا، وعدنى مخرجنا النابه، يسرى نصر الله، أن يكون مرشدا لنا فى دروب باريس. لكنه انشغل بعرض فيلمه الملحمى «باب الشمس».. أقنعنا أنفسنا، فايز وأنا، أن التوهان فى المدينة لا يخلو من متعة، وقبل الاستسلام التام للفكرة، جاء طوق النجاة متمثلا فى أسماء البكرى، صاحبة الثقافة الرفيعة، بنت البلد برغم أصولها الارستقراطية، وعدتنا باصطحابنا، طوال النهار فى تجوال لن ننساه.. بطريقتها البسيطة، التى تجمع بين الطرافة والصرامة، قالت إنها، فى مقابل عملها، ستكون مصروفات اليوم، من مأكل ومشرب ومواصلات، علينا، وأنها لن تدفع فرنكا واحدا، طوال النهار.

وافقنا على مضض، تظاهرنا بالحماس للاتفاق.. قبل أن أحدثك عما رأيناه، ألفت النظر إلى أنها، الخبيرة بدهاليز باريس، أجادت اختيار مقاهٍ ومطاعم فى شوارع جانبية، أثمان مشروباتها ومأكولاتها، أقل من ثلث ما تعودنا على دفعه فى المحلات التى كنا، بجهلنا، نغشاها.

أسماء البكرى، بلا ماكياج، ترتدى بنطالا من الجينز، وفانلة برقبة، فوقها جاكيت واسع، وحذاء كوتشى، رياضى.. بطريقتها المقتحمة، طلبت منا ــ أو أمرتنا إن شئت الدقة ــ أن ينزع كل منا رابطة عنقه، لأنها تعطى إحساسا مزيفا بأننا من السياح «البرجوازيين»، بينما هى تعرف تماما أننا من «البروليتريا» ــ هكذا لغتها ــ وبدأنا المسيرة.

مع أسماء البكرى، تقرأ التاريخ فى شوارع باريس، بل من الأحجار والأسوار.. فى محطة مترو «الباستيل»، ثمة حجرة سوداء أسفل حائط الرصيف. لم ننتبه لها من قبل. أشارت أسماء نحوه وأخبرتنا أنه آخر ما تبقى من أسوار سجن الباستيل الشهير، ترك فى هذا المكان كى يذكر الأجيال الجديدة بأن للحرية تاريخا مكتوبا بالنضال والدم، فعلى أبواب السجن، قتل ما يقارب من المائة ثائر، قبل الاقتحام، يوم 14 يوليو 1789، الذى أصبح عيدا للحرية.

بالقرب من ساحة الكونكورد، جلسنا فى مقهى صغير، أشارت أسماء نحو الشوارع الجانبية الضيقة، وقالت: من هنا خرج الآلاف من الغاضبين، يلقون القمامة على الموكب التعيس للملكة مارى انطوانيت فى طريقها للإعدام بالمقصلة المقامة فى الساحة.. لم يفتها أن تذكر لنا، فى تفصيلة إنسانية لافتة، أن «مارى»، المصابة بنزيف حاد، طلبت من ضابط شاب، تغيير سروالها المضمخ بالدم. الضابط النبيل، أمر بعض جنوده بالالتفاف حولها، بظهورهم، كى تفعل ما تشاء ــ بهذه اللقطة، أتذكر أن مذاق «الإكسبرسو»، ازداد مرارة.

تمكنت أسماء، بحكم علاقتها الوطيدة بمديرة متحف «اللوفر»، من الحصول على ثلاث تذاكر ــ مجانية ــ لدخول المتحف، متجاوزين الطوابير الطويلة.. المتحف، بمقتنياته، وطريقة إضاءته، ونظافته، ونظامه، وزواره من تلاميذ المدارس وطلبة الجامعات، فضلا عن سائحين من ربوع العالم، يعتبر من عيون باريس.. بعد جولة، والوقوف أمام «الموناليزا»، وسط الزحام، توجهنا إلى القسم الفرعونى، العامر بتماثيل ضخمة للملوك، ومسلات، وعدة تماثيل أصلية لـ«أبوالهول».. أكثر من سؤال تبادلناه: متى نهبت كل هذه الآثار، وكيف نقلت من مصر إلى فرنسا.. ثم جاء السؤال المحرج: لو أن هذه الآثار لا تزال فى وطنها، هل كان من الممكن أن تبقى سليمة، ونعرضها على هذا النحو؟ أنبأتنا أسماء، لأننا ننبهر بضخامة الأشياء ولا نلتفت إلى قيمة الإبداع. بعد مهاترات لطيفة، قادتنا إلى حجرة فى نهاية قسم الفرعونيات، خالية إلا من صندوق زجاجى، موضوع فوق منضدة، وعلى سطح الصندوق عدسة مكبرة.. إذا نظرت خلالها، ستجد «دبوس» صدر على شكل القنفد، مصنوع من البلور، عيناه الصغيرتان عبارة عن نقطتين بارزتين بلون أزرق ــ إذا لم تخن الذاكرة ــ أشواك القنفد ليست مدببة، لكن على شكل رأس الدبوس.. قطعة من الجمال الخالص، بالغة الدقة، من إبداعات زمن الأسرات القديمة، علقت مرشدتنا: انها عندى أثمن من التماثيل الجرانيتية الضخمة.. وأردمت، بطريقتها، وقاموسها اللغوى الخاص: من هذه «العكروتة» التى كانت تضع الدبوس على صدرها، وما شكل الملابس التى ترتديها؟.. لا يزال شكل الدبوس، بعد سنوات طويلة، يتراءى لى.

فى المساء، جلسنا فى مطعم قليل التكاليف، هى التى تعرفه طبعا، وكنت، فيما سبق، كتبت مقالا عن فيلمها «شحازون ونبلاء» بعنوان جارح «معرض العاهات»، ذلك أنى لم أجد فى أبطال الرواية التى كتبها البير قصيرى، بعنوان «منزل الموت المحتوم»، والتى اعتمدت عليها أسماء، سوى الوهن النفسى وضعف الإرادة.. تعرضنا للفيلم والمقالة، وبدت متكررة إلى حد ما.. وعدتها أن أعيد مشاهدة كل ما حققته، واكتب عنه، لكنى لم أفعل، وان كنت ما أزال عند وعدى.

كمال رمزي كاتب صحفي
التعليقات