عصر ما بعد الحقيقة - إكرام لمعي - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 9:20 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عصر ما بعد الحقيقة

نشر فى : الجمعة 10 فبراير 2017 - 9:55 م | آخر تحديث : الجمعة 10 فبراير 2017 - 9:55 م
فى عام 1967 انهزمت الدول العربية وعلى رأسها «مصر وسوريا والأردن وفلسطين» والذين كانت لهم مواجهة مباشرة مع إسرائيل، وذلك فى ستة أيام. برز فى ذلك الوقت مذيع صوت العرب «أحمد سعيد» الذى أذاع البيانات العسكرية الكاذبة والمبالغ فيها لدرجة أنه ذكر أن مصر أسقطت أكثر من ثمانين طائرة إسرائيلية فى اليوم الأول، بينما الطائرة المصرية الوحيدة التى أسقطتها إسرائيل خرج الطيار منها حيا. وكانت الشعوب العربية جمعاء تتابعه وتصدقه بسبب الأحداث التى سبقت نشوب المعارك؛ حيث كان عبدالناصر يتحدث وهو واثق تماما من النصر، وقد قام بإغلاق خليج العقبة فى وجه إسرائيل والذى كان قد فتحه أمام الملاحة الإسرائيلية كشرط لوقف إطلاق النار وانسحاب إسرائيل من سيناء ــ التى احتلتها أثناء المعارك ــ فى معركة عام 1956.

إن موضوع احتلال إسرائيل لسيناء أثناء معارك العدوان الثلاثى على مصر وانسحابها، لم يعرفه معظم الشعب، ولعلك تتعجب عزيزى القارئ متسائلا: وهل احتلت إسرائيل سيناء أثناء العدوان الثلاثى؟ والإجابة نعم.. بل إن انتصارنا فى تلك الحرب جاء بسبب الإنذار الأمريكى للدول الثلاث«إنجلترا وفرنسا وإسرائيل» بالانسحاب. واشترطت إسرائيل حينئذ أنه إذا كانت أمريكا تصر على انسحابها من سيناء فلتسمح بمرور سفنها فى خليج العقبة. إلا أن هذه الحقيقة ضاعت فى خضم الاحتفالات الضخمة والأناشيد الحماسية التى ادعت أننا انتصرنا على إسرائيل.

***

لاشك أن الإعلام تطور فى العالم بين عامى 1956 و1967 وكان من الصعب خداع الشعب ثانية، إلا أن أحمد سعيد كان يعيش بعقلية 1956 وظن أنه يمكن أن تنسحب إسرائيل من سيناء بحل سياسى وأمر أمريكى كما حدث من قبل دون أن يشعر الشعب أو العالم بذلك، لكن إسرائيل 56 ليست هى إسرائيل 67 ولا أمريكا أيضا بل ولا العالم.

هكذا توالت الأيام وتنحى عبدالناصر وأعاده الشعب وانقسمت القيادة المصرية. أما عما اقترفه «أحمد سعيد» من أكاذيب فقد لاقى استهجانا ضخما من الشعب المصرى والشعوب العربية، إلا أنه وياللعجب أصبح هذا الأمر اليوم أمرا عاديا ومبررا فى عصر (ما بعد الحقيقة)، بل أصبح أيضا سندا وحجة دامغة تبرر دفن الحقيقة ونتائجها.

إن مصطلح «ما بعد» صيغ كمصطلح يعبر عن ما ليس له قوام أو شكل، وأول مصطلح فى التاريخ بدأ «بما بعد» كان مصطلح «ما بعد الاستعمار» وكان القصد منه الاعتراف بانتهاء مرحلة وعجزها عن تحقيق أهدافها ومحاولة احتواء مشكلات وتداعيات سقوطها. وهو نفس الأمر فى مصطلحات عصر «ما بعد الصناعة» و«ما بعد الحداثة».... إلخ. وهذه كانت محاولات للبحث عن أطر ثقافية وسياسية وفكرية جديدة، ومحاولة للبحث عن فهم جديد لمنطلقات ثبت فشلها، وبدلا من الإقرار بالفشل وحسم الأمر والبحث عن بدائل ظهر مصطلح «ما بعد» بهدف الالتباس والتسويف.

من العجيب أن قاموس أكسفورد اعتبر تعبير «ما بعد الحقيقة» كلمة عام 2016. وفى عام 2017 ظهرت مرادفات لهذا المصطلح مثل «الحقائق البديلة» و«الادعاءات الخاطئة» ومن الواضح ولا شك أن ما هذه إلا بداية لتدفق مصطلحات من هذه النوعية. وهكذا فى زمن «ما بعد الحقيقة» يدور الحوار حول ما هو حقيقى وما هو مفبرك أو مضلل؛ فقد تصبح الحقيقة بعيدة عن الفهم والإدراك، فمصطلح «ما بعد الحقيقة» لا هو الحقيقة ولا هو سندها، بل هو شبه الحقيقة. وهكذا نجد أنفسنا فى موقف غير أخلاقى على كل المستويات وعلينا أن نتحمل نتيجة ذلك؛ حيث يتم فقدان الثقة وانعدام الإحساس بالأمان والأمثلة على ذلك كثيرة ومتعددة حيث يقدم السياسيون معلومات أقرب إلى الحقيقة وليس الحقيقة كلها؛ يستخدمونها للهروب من سؤال محرج أو لتضليل الرأى العام، وهذا يتضح بقوة عند ذكر الأرقام مثلا عند الإشادة بإنجاز فلا مانع من إضافة أرقام تبدو منطقية، أو أرقام فى طريقها للتحقيق، أو أرقام حديثة دون مقارنتها بالأقدم منها حتى لا يظهر أن الفارق ليس كما يروج له، إنها ليست كذبا لكنها شبه الحقيقة.

لذلك تسعى المؤسسات الجادة والتى تبحث عن التدقيق بالحقائق إلى استخدام مقياس فيقولون مثلا إن تصريحا معينا هو حقيقى بنسبة 30 أو 90 فى المائة بدلا من القول أنه كاذب وفى الحقيقة هو ليس كذبا بواحا. أما الحقائق الكاذبة فهى معلومات لا أساس لها من الصحة يتم تقديمها بطريقة لتبدو كالصحيحة والصادقة (عملية فبركة) لخدمة وجهة نظر سياسية معينة. ولذلك نرى أن الإعلام الصحيح الأمين أصبح العبء عليه أثقل عن ذى قبل؛ حيث عليهم فضح الكذب البين والصريح والتمييز بينه وبين ما يكون اختلافا فى الأوليات أو وجهات النظر لمصلحة المشاهد أو المستمع.

***

الحقيقة التاريخية تقول إن مبادئ تقديم المعلومات وفقا لمعايير مهنية لم يكن قبل مائة سنة، أى بدأ فى القرن العشرين لكن القضية هى استخدام التكنولوجيا والتقنية الحديثة لتقديم معلومات شبه حقيقية أو مفبركة. وما يثير العجب أن هذه الحقائق الناقصة أو الملونة أو شبه الحقائق يحرص مروجوها أن تكون ــ بالطبع ــ أكثر إثارة وتشويقا فتنتشر بسرعة مذهلة بين الناس. ومن أهم ما حدث فى مصر بهذا الشأن هو عن الأعداد التى خرجت أثناء ثورة 25 يناير أو 30 يونيو، والتى شكك فيها البعض بقولهم أن ميدان التحرير من المستحيل أن يتحمل خمسة ملايين أكثر أو أقل، بينما الذين يصرون على تقديم رقم محدد يلجأون للتصوير من زوايا مختلفة. وإن قلنا أن الذين خرجوا كانوا بالملايين فالتضخيم هنا سيكون فى صالح البعض والتضليل سيكون فى صالح البعض الآخر، والطرفان لهما أهداف سياسية ولا يهمهم الحقيقة ويقدمون حقيقة بديلة ليست كاذبة. وهذا يذكرنى بالفيلم التلفزيونى لأحمد زكىو آثار الحكيم «أنا لا أكذب ولكنى أتجمل» وهى قصة حب لابن تُربى (يدفن الموتى) لزميلة ثرية كانت مقتنعة به على الرغم من الفارق الطبقى، وكان هو قد أخفى عمل والده وعمله عنها لكن عند اكتشاف الحقيقة الكاملة كان الانفصال.

فى الانتخابات الأمريكية الأخيرة ثبت وبحسب دراسة مدققة نشرت على أحد المواقع أن الأخبار الكاذبة كانت أكثر رواجا وانتشارا من الأخبار الحقيقية. إن الدعاية بمعناها الصحيح هو تقديم السلعة أو الخبر بشكل مبالغ فيه مستهدفا قطاعا معينا من البشر دون بقية الجمهور؛ فتقدم السلعة الفلانية للأطفال أو الجمهور المتدين أو العلمانى أو المثقف... إلخ.

أما الآن فلم تعد هناك أية حدود، ومن أهم الأمثلة الواضحة فى هذا الأمر موقف ترامب من إيران، فأمريكا بعد تولى ترامب مرشحة أن تشتبك مع إيران سواء كان هذا الاشتباك عسكريا أم سياسيا أم اقتصاديا، وهذا الاشتباك لابد أن يشمل دولا أخرى مثل العراق وسوريا واليمن ولبنان. وكان الاستفزاز الإيرانى لأمريكا إطلاقها الصاروخ الباليستى وهنا جاء الإسراع بإطلاق تصريحات من ترامب بفرض عقوبات اقتصادية على طهران، وجاء تصريح وزير الدفاع الأمريكى الجديد «جيمس ماتيس» من نوع تصريح عصر ما بعد الحقيقة أو شبه الحقيقة إذ ينص على أن إيران «الدولة الأكثر رعاية للإرهاب فى العالم»، وبالطبع هذا ليس بجديد. هذا فى الوقت الذى لا تستطيع أمريكا أن تتحدث عن تقدمها ولا تستطيع أن تستخدم شعارات مثل «تمكين الشعوب المقهورة من إيران» أو «مواجهة الاستبداد الدينى»؛ وهى الشعارات الشبيهة بما حدث فى تحرير الكويت أو تمكين المرأة الأفغانية فى مواجهة التخلف، كل هذه المفاهيم أصبحت ملتبسة مفبركة متناقضة.

***

ماذا نقول فى مصر مثلا عن التصريحات التى أطلقت بأن الدولار سوف يهبط أمام الجنية بعد شهرين من تعويمه، وأن الأسعار سوف تهبط بعد ستة أشهر أو علينا الانتظار لمدة عامين لكى يبدأ الرخاء بدرجة ما. فهل نقول أنها تقع مناسبة ومعبرة عن عصر «ما بعد الحقيقة» فهى بالتأكيد ليست كاذبة لكنها أيضا لا تصيب كبد الحقيقة.
والسؤال لنا ولشعوب العالم إلى أى عصر نحن سائرون؟!
إكرام لمعي  أستاذ مقارنة الأديان
التعليقات