العبرة والتدبير فى وعى النخبة ووعى الجماهير - وائل جمال - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 12:26 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

العبرة والتدبير فى وعى النخبة ووعى الجماهير

نشر فى : الأحد 10 أبريل 2011 - 9:14 ص | آخر تحديث : الأحد 10 أبريل 2011 - 9:15 ص

 لا يمر اجتماع حزبى أو ندوة أو لقاء لمناقشة مستقبل مصر دون أن تطرح هذه الأسئلة: كيف نصل بهذه الفكرة للناس؟ كيف يفهمنا الفلاحون فى القرى والمحافظات؟ كيف نوعِّى الجماهير؟ تنطوى هذه الأسئلة على افتراضين أساسيين: أولهما أن السياسيين أو الخبراء أو حتى الجمهور، غالبا هو قاهرى من الطبقة الوسطى المتعلمة، يمتلك وعيا أو علما أو أفكارا لا يمتلكها عموم الناس، وثانيهما أن هذا «الوعى» وكأنه مجرد من المصالح. كأنه نظرية علمية فى الفيزياء أو ما شابه، وبالتالى فهو غير مردود عليه بأفكار أخرى قد تكون «أصح» من وجهة نظر مصالح أخرى. إنما المشكلة هى أن تستوعبه الجموع «غير المؤهلة لذلك»، أو المعرضة لتأثيرات «جاهلة وظلامية وغيبية ومتخلفة».

والحقيقة أن الافتراضين خاطئان، خاصة فى أعقاب ثورة قامت بها هذه الجماهير، دون قيادة من أى من أولئك الذين يمتلكون «الوعى».

ولقد كان «قصور الوعى عند الناس»، و«تدهور التعليم»، و«سيادة الغيبيات»، إلى آخره مبررات أساسية وحججا مركزية فى نظريات أولئك الذين أكدوا لنا بيقين راسخ أن ثورة تونس «لا يمكن أن تتكرر فى مصر». وهاهى الجماهير تثبت بانتفاضتها البطولية بدءا من 25 يناير وحتى الآن تهافت هذه الأفكار.

إن تشكل «الوعى الاجتماعى والسياسى»، أو مجموعة الأفكار التى تنظم علاقة الناس بالدولة والمجتمع يختلف فى حالة الفرد «المثقف السياسى» عنه فى حالة الجموع. يحاول من يفترضون سمو أفكارهم على أفكار الناس أن يفرضوا الطريقة الأنسب من وجهة نظرهم فى تنظيم الناس: على الإنسان أن يقارن النظريات السياسية والبرامج المختلفة وأن يقتنع بأحدها. وقد تصلح هذه الطريقة بين المثقفين، لكنها ليست المحرك الأساسى لتجربة المعرفة عند الجموع. بل إنها ليست الآلية الأساسية لدى المثقفين والمتعلمين الأفراد، حتى وإن ادعَوا ذلك.

يقدم ميكافيللى فى كتابه الأمير الحديث نصيحة للحاكم، سارية من القرن السادس عشر، هى أن عليه أن يصبح نصف إنسان ونصف حيوان، نصف ثعلب ونصف أسد. نصف حيوان لأن عليه أن يستخدم القوة لقمع المحكومين لكى يستقر حكمه، ونصف إنسان لأن عليه أن يخدع الناس بالأفكار. ولا تشذ الرأسمالية الحديثة ولا نظم الحكم المعاصرة عن هذه القاعدة، بل زادت أهمية ومحورية السياسة «الثعلبية» فى عالم الديمقراطية الرأسمالية المعاصر.

فى المجتمعات المستقرة تسيطر أفكار من يحكمون على الأغلبية الكاسحة: ليس فى مصلحتك تغيير النظام. هناك مشاكل لكن النظام يعمل على معالجتها. هناك بطالة وأزمة اقتصادية لكن السبب فيها ليس النظام الاقتصادى الذى يخلقها، وإنما العمال القادمون من الخارج. الأقباط أغنياء ويكادون يسيطرون على البلد بينما المسلمون فقراء. على المرأة أن تبقى فى المنزل لكى تفسح المجال لعمل الرجل، «لأن مكان المرأة البيت أصلا». تحرير السوق ومناصرة رجال الأعمال تخلق ثروات طائلة وفقر مدقع لكن القطاع الخاص وحده القادر على إحداث التنمية.. إلخ.

وفى ذلك لا يمكن استثناء النخب المتعلمة. فهى لا تشكل وعيها ومعرفتها بمعزل عن أفكار نخبة الحكم المسيطرة عبر الإعلام والتعليم والأحزاب والجامع وغيرها. بل إنها هى التى تسهر فى أغلب الأحوال على الدفاع عن هذه الأفكار والتصورات المنحازة ضد الناس فى الصحافة والمدارس وغيرها، وتتقاضى أجرا على ذلك. وإذا أضفنا عنصر المصلحة الاجتماعية فى استقرار النظام للحفاظ على هذه الأدوار واستتباعاتها بالنسبة لمن يملكون «الوعى والتعليم»، نفهم لماذا كان من أيدوا ثورة يناير على طول الخط منهم أقلية ضئيلة، وتسقط نظرية المثقف المجرد من المصالح، الذى يقارن بين النظريات والبرامج بمعزل عن تاريخ أسرته وخلفيات زملائه فى العمل، ومصالحه الاجتماعية. وتسقط مع هذه النظرية العملية التى يقوم بعض هؤلاء الآن بمقتضاها، بحسن نية أو بغيرها، بإعادة تقديم أنفسهم كمعلمين للجموع عوضا عن تلامذة لهم، كمن يمتلكون الوعى والمعرفة والخبرة فى مقابل الجماهير الجاهلة «التى تسيطر عليها الغيبية والطائفية والمصالح المباشرة والجهل».

الحقيقة أن من يتصور أنه سيبنى حزبا واسعا أو يقنع جمهورا حاشدا ببرنامج سياسى على هذا الأساس واهم وسيصطدم بالحائط فورا. إن أهم سمة لا شك فيها للثورة هى التدخل المباشر للجماهير فى الأحداث التاريخية. فى الأوقات العادية، تضع الدولة، سواء ملكية أم ديمقراطية، نفسها فوق الأمة، ويصنع التاريخ بواسطة الإخصائيين فى هذا الفرع من النشاط أو ذاك ــ الملوك، الوزراء، الموظفون البيروقراط، البرلمانيون والصحفيون. لكن فى هذه اللحظات الحاسمة عندما يصير النظام القديم غير محتمل بالنسبة للجماهير، فإنهم يحطمون الحواجز التى تستبعدهم من الساحة السياسية ويجرفون جانبا ممثليهم السياسيين التقليديين ويخلقون بتدخلهم هم الأرضية الأولية لنظام جديد. وهكذا تتحول التعديلات الدستورية بما فيها من تعبيرات قانونية جافة إلى محل للنقاش فى المدرسة والمصنع وعلى القهوة، فى المكتب وفى الأفراح، وفى كل تجمع للناس.

لا يتشكل وعى الناس فى الثورة بطريقة نظرية ولا يكذب، كوعى النخب، فيما يتعلق بالمصالح التى يدافع عنها ويمثلها. ففى السنوات الأخيرة، حين كان المجتمع الرسمى - هذه البنية الفوقية المؤلفة من عدة طوابق، والتى تتألف منها النخب الحاكمة، بشرائحها المميزة، ومجموعاتها، وأحزابها، وشراذمها - يعيش يوما بيوم، وهو يتغذى بأفكار متهرئة، ويصم أذنيه عن مطالب الثورة الحتمية، تفتنه الأشباح، ولا يتوقع شيئا. كان ملايين الموظفين والعمال يضربون ويعتصمون دفاعا عن لقمة عيشهم ويتعلمون السياسة الحقة بتجربتهم الذاتية. فى معركة المواجهة مع اتحاد العمال الأصفر، والإعلام القومى المأجور، ومباحث أمن الدولة والأمن المركزى، وأعضاء مجلس الشعب الفاسدين، تعلمت الجماهير عن ضرورة الثورة. المعرفة بالمصلحة المباشرة والتجربة الذاتية فى الدفاع عنها هى خير معلم للنظريات السياسية فى إدارة المجتمع. هكذا تغير الجموع الثائرة أفكارها وليس فى حلقات النقاش أو من خلال وصاية خبراء النخب. وهكذا كان ممكنا بعد شهر واحد من تفجر طائفى بحجم ما سببه تفجير كنيسة القديسين أن نرى التعاضد بين جمهور الثائرين مسيحيين ومسلمين. وهكذا أيضا كان ممكنا أن يختفى التحرش الجنسى والنظرة الفوقية للمرأة، التى صارت شريكا مباشرا على قدم المساواة فى المعركة ضد الاستبداد، بلا معلم ولا وصاية ولا نخب. هذا وعى اكتسب بالدم، وعى صلد وشخصى وثورى لأنه يمثل مصلحة الأغلبية المقهورة.

الديمقراطية النابعة من قلب ثورة تتميز عن كل ديمقراطية فى أنها مباشرة وخاصة بكل واحد منا، ونجومها ليسوا قادة الأحزاب ولا المفكرين. فالناس المتعطشون لتغيير حياتهم يبحثون بكل كيانهم عن الطريق إلى المستقبل بعد أن ثبت لهم بالدليل القاطع أنهم يستطيعون جماعيا وديمقراطيا أن يأخذوا مسئولية المجتمع بأيديهم.

وليس هناك شىء أخطر على الثورة فى مصر، من تصدير وترسيخ أفكار النخب التى تحاول انتزاع هذا الدرس وتدميره بالإصرار على أن الجماهير غير قادرة على تدير أمرها بنفسها ولو حتى فى صندوق الانتخاب. وأولى بهؤلاء، لو كانوا يريدون الخير حقا، أن ينزلوا إلى الجماهير ويتفاعلوا معهم ويتعلموا منهم. فهذه هى الساحة الحقيقية لاختبار الوعى السياسى بناء على المحك الحقيقى: من تخدم أفكارك المنمقة يا سيدى؟

وائل جمال كاتب صحفي
التعليقات