رق الحبيب – «مدام تحب»: أحمد رامي والقصبجي في حضرة الست - ياسر علوي - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 10:55 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

رق الحبيب – «مدام تحب»: أحمد رامي والقصبجي في حضرة الست

نشر فى : الخميس 10 أبريل 2014 - 4:35 م | آخر تحديث : الخميس 10 أبريل 2014 - 6:43 م

-1-

أم كلثوم هي العلامة الأبرز في تاريخ الغناء العربي، هذه بديهية، لكن ما ليس معروفًا بالقدر ذاته، هو أننا ندين لثنائي العباقرة، الشاعر أحمد رامي، والمجدد الأعظم محمد القصبجي، بالفضل في ظهور أم كلثوم بصورتها التي نعرفها، كسيدة الغناء العربي في القرن العشرين. كيف؟

عن هذا الموضوع تحديدًا سيكون حديثنا اليوم، بالاستعانة برائعتين من إبداع هذا الثلاثي الذهبي، وضعتا في مطلع الأربعينيات، في أنضج مراحل تجربتهما مع أم كلثوم، وقبل أن ينتهي تعاونهما معها في عام 1948، هما طقطوقة «مدام تحب بتنكر ليه» (1940) ومونولوج «رق الحبيب» (1941)، والأغنيتان من مقام النهاوند.

لنستمع أولًا إلى الطقوقة العظيمة والمبهجة، «مدام تحب بتنكر ليه».

القصبجي أحد مؤسسي موسيقى القرن العشرين

-2-

بدأ القرن العشرون موسيقيًّا في منتصف سنوات الحرب العالمية الأولى، وإن شئنا الدقة، يمكن القول بأن هناك نقطتي بداية للقرن العشرين موسيقيًّا؛ الأولى عام 1917، مع رحيل أحد أعلام الغناء المصري في القرن التاسع عشر، الشيخ سلامة حجازي، وظهور أول رواد موسيقى القرن العشرين، الشيخ سيد درويش.

أما نقطة البداية الثانية، فكانت عام 1927، مع وفاة آخر أساطين موسيقى القرن التاسع عشر، والأب الروحي لأم كلثوم، الشيخ أبو العلا محمد، وانتقال مسؤولية رعاية هذه الموهبة الفذة إلى الثنائي محمد القصبجي وأحمد رامي.

-3-

محمد القصبجي هو سيد المجددين في موسيقى القرن العشرين، جرأة رهيبة في الانطلاق لمناطق جديدة من التلحين (كان مثلًا أول من أدخل الهارموني للموسيقى العربية)، واستكشاف مقامات موسيقية مهجورة (مثال: مقام الماهور الذي لحن منه لأم كلثوم المونولوج الخالد «إن كنت أسامح» عام 1928، والذي يعد في نظري بدايتها الحقيقية كمطربة القرن العشرين الأولى، كما سأوضح لاحقًا).

للقصبجي أيضًا يعود فضل تثبيت قالب المونولوج الدرامي كقالب موسيقي راسخ صيغ منه عدد من روائع القرن العشرين، وأثر في كل من عملوا في هذا القالب بمن فيهم محمد عبد الوهاب نفسه (ففي مونولوج عبد الوهاب العظيم «أهون عليك» تجد قدرًا من التأثر بالقصبجي، وفي طقاطيق رياض السنباطي الأولى لأم كلثوم مثل «افرح يا قلبي»، أو مونولوجه «غلبت أصالح في روحي» تجد بصمات القصبجي، وقل الشيء نفسه عن دراويش مدرسة القصبجي، من محمد فوزي في مصر إلى زكي ناصيف في لبنان). وهو أيضًا عازف العود العبقري، وصاحب المدرسة الشهيرة التي ينتمي إليها عازفون أفذاذ مثل فريد غصن وفريد الأطرش.

-4-

وأعتقد أنه وبسبب هذا المزاج التجديدي للقصبجي، تأخرت عبقريته اللحنية في الظهور، مقارنة بسيد درويش الذي ولد معه في نفس العام، ولكنه أنجز تجربته الموسيقية الكبرى ومات سنة 1923 قبل أن يبدأ القصبجي في وضع ألحانه الأساسية التي حفرت له موقعه الخالد في ذاكرتنا الموسيقية (فقبل هذا العام، اقتصرت ألحان القصبجي على تجارب تقليدية بلا قيمة فنية تذكر لألحان «الكباريهات» التي سادت في زمن الحرب العالمية الأولى وبعدها مباشرة، مثل أغنية «بعد العشا يحلا الهزار والفرفشة» لمنيرة المهدية).

فالتجديد والتجريب اللذان قامت عليهما تجربة القصبجي العظيمة كملحن من منتصف العشرينيات وحتى نهاية الأربعينيات (مع أم كلثوم أولًا، ثم مع أسمهان وليلى مراد وفتحية أحمد لاحقًا)، كانا في ظني بحاجة "لقصف تمهيدي" قام به سيد درويش، لتهيئة المستمع للخروج من التقليد الموسيقي للقرن التاسع عشر، خروجًا متدرجًا (عكسه التزام سيد درويش بمعادلة قوامها الالتزام بالأشكال الموسيقية التقليدية، والتجديد فقط في مضامين الألحان)، قبل أن يبدأ القصبجي ثورته التجديدية الكبرى، القائمة على التجريب في الشكل والمضمون معًا.

لكن كيف انعكس ذلك على تجربته مع أم كلثوم؟ ولماذا يعتبر صاحب فضل على الأذن العربية في تقديم أم كلثوم للمستمع العربي بشكلها الذي نعرفه اليوم؟

لقاء أم كلثوم مع الأفندية

-5-

بدأت أم كلثوم الغناء غير الديني حوالي العام 1923، بقصائد تنتمي لتقاليد الغناء في القرن التاسع عشر، لحنها أستاذها أبو العلا محمد، وألحان جميلة قدمها لها أحمد صبري النجريدي وداود حسني، وكانا يعملان ضمن الأطر التقليدية لموسيقى القرن التاسع عشر، ثم جاء القصبجي.

-6-

كان القصبجي يحتاج صوتًا جديدًا، ليس أسيرًا لتقنيات الغناء التقليدية، ليطرح أفكاره المتطورة. وكانت أم كلثوم بحاجة لأن تستكمل النقلة التي خطتها من الإنشاد الديني للغناء الحديث، بحيث تضع بصمتها كمطربة القرن العشرين، ولا تكون مجرد طبعة أحدث من أسطورة الغناء التقليدي «السلطانة منيرة المهدية».

وجاء اللقاء بينهما سنة 1927، أي بعد 4 سنوات فقط من احتراف أم كلثوم الغناء الحديث، فكانت خامة صوتية مبهرة، ولكنها لينة ولم تتشكل بعد وليس لديها ما تخشاه من التجريب والمغامرة.

-7-

مثل محمد القصبجي، خريج مدرسة المعلمين، التجسيد الموسيقي لطبقة "الأفندية" التي ازدهرت في مصر بعد ثورة 1919، وهم أبناء الطبقة الوسطى الذين جمعوا بين الرسوخ في الثقافة التقليدية، والتطلع للاستفادة من الثقافة الأوروبية، ومعادله الشعري كان أحمد رامي، العائد من بعثة إلى فرنسا درس خلالها اللغة الفارسية (وأثمرت هذه الدراسة ترجمته البديعة لرباعيات عمر الخيام).

هكذا، التقى مزاج «الأفندية» الطامحين للتجريب وطرق سبل جديدة للنهضة الفنية، مع الخامة الصوتية الفذة وغير المحبوسة في أسر غناء القرن التاسع عشر، وبدأ سيل الروائع، بدءًا من العلامة الخطيرة في تطور الأغنية العربية، مونولوج "إن كنت أسامح" الذي وضع الشكل النهائي لقالب المونولوج، ورسخه في الوجدان الموسيقي، بعد نجاحه المذهل (بيعت منه ربع مليون أسطوانة، ليرسخ أم كلثوم كمطربة القرن بلا منازع، فيمكن اعتبار هذا المونولوج المولد الحقيقي لأم كلثوم بصفتها سيدة للغناء العربي، وليست مجرد مغنية شابة ذات موهبة فذة). وهكذا كان من حسن حظ أم كلثوم والأفندية رفاق دربها، ومن حسن حظنا كسميعة على مر العصور، أن أثمر "التجريب" منذ لحظاته الأولى، فمضى الثالوث الذهبي في مغامرتهم الفنية الكبرى بدون تردد.

على أننا لن نتوقف اليوم أمام بداياتهم، وإنما أمام مرحلة نضج تجربتهم، في مطلع الأربعينيات. ونبدأ أولًا مع طقطوقة «مدام تحب بتنكر ليه».

«مدام تحب بتنكر ليه»: دلال الواثق

-8-

كلمات الأغنية تعكس حالة حب واثق من نفسه، يتلاءم بشدة مع الطابع التجديدي لتجربة رامي – القصبجي - الست، ويفارق بحسم تقاليد العاشق المتبتل، المحب بغير أمل.

نحن هنا أمام عاشقة تعاتب بدلال محبوبها، وتنبهه إلى عدم جدوى إنكار الحب الذي تفضحه عيونه (وهي فكرة تشغل بال أحمد رامي، منذ صاغها بالفصحى في قصيدة «الصب تفضحه عيونه» التي لحنها وغناها أبو العلا محمد ثم غنتها أم كلثوم).

الكلمات مصاغة في قالب الطقطوقة، الذي يتكون من مذهب و3 كوبليهات. رقم 3 هنا هو الرقم الذهبي لكل الأغنية، فكل كوبليه يتكون من مثلثين، في كل منهما 3 شطور موحدة القافية، ثم يختتم بالعودة للفكرة العتيدة للأغنية «واللي يحب يبان في عينيه». هكذا، نجد في الكوبليه الأول مثلًا المثلث الافتتاحي (تصد عني وتهجرني/وأكلمك تهرب مني/وإن غبت يوم تسأل عني)، ثم المثلث الثاني (وأعرف هواك/ساعة لقاك/من طول جفاك) قبل أن يختتم الكوبليه.

وتتكرر اللعبة في الكوبليهين الثاني والثالث، هذا التنوع في القوافي في صورة 6 مثلثات شعرية (2 لكل كوبليه)، ليس فقط شكلًا حداثيًّا يقدمه "الأفندي" أحمد رامي، وإنما يمثل فرصة ذهبية للأفندي محمد القصبجي ليطلق طاقاته اللحنية التجديدية، وهذا بالضبط ما فعله القصبجي، الذي رد على مثلثات رامي، بمهرجان نقلات مقامية من العيار الثقيل.

-9-

فبعد مذهب مبهج من مقام النهاوند، يرسخ مقام الطقطوقة الأساسي في آذاننا، يبدأ القصبجي بهلوانياته اللحنية في الكوبليهات.

ففي الكوبليه الأول يبدأ من البياتي (تصد عني وتهجرني)، ثم ينتقل للراست (وإن غبت يوم تسأل عني)، ثم نذهب لمقام الكرد، قبل أن نعود مجددًا إلى النهاوند مع القفلة (واللي يحب يبان في عينيه...إلخ).

ويلعب القصبجي نفس اللعبة بتعديل طفيف في الكوبليه الثاني، فنبدأ بالبياتي (لو كنت عايز تراضيني)، ثم ننتقل لمقام النهاوند (كنت أشتكيلك). وهنا يتحفنا القصبجي بلعبة جديدة، فيعيد تلحين جملة (كنت اشتكيلك..تواسيني) بلحن ثان من مقام البياتي، قبل أن يعود بنا للقفلة في مقام النهاوند مرورًا بمقام الكرد كما فعل في الكوبليه الأول.

أما في الكوبليه الثالث، فلا يتيح لنا القصبجي فرصة لالتقاط الأنفاس أو توقع ما سيفعل (كأن يبدأ بالبياتي كما فعل في الكوبليهات السابقة)، وإنما يذهب بنا إلى مقام النكريز (لكن فؤادك يهواني)، ومنه إلى النوا أثر (اعرف هواك من وجداني).

وهنا المشكلة، فهل يفقدنا هذا الخروج عن البياتي في الكوبليه الثالث وحدة الطقطوقة؟ هل يجعلنا نشعر أن الكوبليه الثالث منبت الصلة بباقي اللحن؟

أبدًا، فالقصبجي يحافظ على وحدة القصيدة من خلال تكرار اللعبة التي قدمها لنا في الكوبليه الثاني، وتتمثل في نقلة إلى النهاوند (جملة هو أنت تقدر تسلاني) ثم إعادة تلحين نفس الجملة من البياتي، قبل العودة إلى المذهب مرورًا بالكرد والنهاوند.

يعني ذلك باختصار، أن القصبجي الذي توهنا في بداية الكوبليه الثالث، يعود بنا بسلاسة مطلقة، وباستخدام حيلة لحنية استخدمها في الكوبليه الثاني، لكي لا نشعر بالغربة بعد مغامرته اللحنية في مضارب مقامات جديدة (النكريز والنوا أثر) في مطلع الكوبليه الثالث.

وكل من داخ من هذه اللفة اللحنية والمقامية الرهيبة، وتاه في مداخلها، له كل العذر، فهذا هو القصبجي.. وما أدراك ما القصبجي!

«رق الحبيب»: الذروة

-10-

إن كانت طقطوقة «مدام تحب» قد أعلنت أن أم كلثوم باتت سيدة غناء القرن العشرين بكل حداثته وتجريبه وبهلوانياته اللحنية المعقدة، فإن رق الحبيب، التي جاءت في العام التالي مباشرة، مثلت النقلة الحقيقية لأم كلثوم من الطقاطيق القصيرة (التي بلغت ذروتها في «مدام تحب») إلى الكلثوميات الطويلة، التي شكلت المعلم الرئيسي في مسيرتها منذ بداية الأربعينيات وحتى وفاتها.

-11-

وكما قلنا في حلقة سابقة من هذه السلسلة، فإن المونولوج الدرامي هو شكل غنائي مستوحى من قالب "الأريا Aria" في الغناء المسرحي والأوبرالي، وهو عبارة عن فاصل غنائي كان يغنى بين فصول المسرحيات، ليؤشر على لحظة تحول درامي كبير، فيشكو البطل شجونه، ويحكي عن مشاعره وهواجسه.

ويترجم ذلك لحنيًّا، من خلال ما يمكن تسميته «مسار خطي» يأخذه اللحن، فلا تتكرر الكوبليهات وإنما يتطور اللحن دراميًّا في خط مستقيم بدون أي تكرار. لماذا؟

لأن قالبًا بطابعه الدرامي، لا يحتمل العودة لكوبليهات أو لأزمات موسيقية لأغراض السلطنة، كما نفعل في الطقطوقة، وإنما يجب أن يتطور في خط مستقيم وفقًا لتطور مضمون الكلمات. وهذا بالضبط ما سنستمع إليه الآن.

-12-

يعكس مضمون الكلمات البديعة لرامي تجربة شديدة الطرافة. فالمحبوب قرر أن يتوقف عن دلاله، وواعد محبه الواله، ولكن دوننا والموعد ساعات الانتظار، وعن تجربة الانتظار هذه، وقلقها وهواجسها، تدور كلمات هذا المونولوج.

أما من حيث الشكل، فإن المونولوج الدرامي لا يتكون من مذهب وكوبليهات، وإنما من"مشاهد" متتالية (تفصل بينها فواصل موسيقية تحدد لنا أين ينتهي كل مشهد ويبدأ المشهد التالي).

فهناك مشهد أول (من رق الحبيب، وحتى «قاعد جنبي»)، يحكي لنا هذا المشهد الأول عن اللحظة التي يعرف فيها المحب أن معشوقه قد تخلى عن دلاله وحدد له موعدًا، فيقرر أن يمضي الليل ساهرًا منتظرًا، يخشى أن ينام فلا يرى منى قلبه في منامه.

المشهد التالي يبدأ معكم «من كتر شوقي» ويمثل استطرادًا في وصف حالة الانتظار وبهجة توقع لقاء المحبوب، التي تجعل المحب المشتاق يرى «الغد» قبل أن يبدأ، فلا معنى للزمن لمن يحيا بخياله مع المحبوب كما تقول الكلمات.

ويلي ذلك مشهد ثالث، بعد أن أشرقت شمس اليوم التالي، فننتقل من وصف مشهد الشروق وتغريد الطيور، إلى تزايد القلق مع اقتراب الموعد، أيأتنس المحب بأصدقائه؟ ولكنه يخشى فضح مكنون نفسه وحسد الأصدقاء، فيهجر الخلان مفضلًا الوحدة على أن تفضح عيونه مكنون فؤاده (مرة أخرى نجد أنفسنا أمام إيمان رامي الذي لا يتزعزع بأن الصب ستفضحه عيونه!!).

ونختتم بالمشهد الأخير، والمحب في طريقه للموعد، بين بهجة متصاعدة تجعله يشعر بأنه نال كل ما يريد من الدنيا ولم يبق إلا اللقاء، عندها يجد المحب نفسه في حالة القلق ذاتها مجددًا، فالقرب لا يسكن الأشواق (وكما قال ابن عربي «كل شوق يسكن باللقاء لا يعول عليه»).

فيقترب اللقاء، ولكن يبقى الشوق الذي لا يسكن مع اقتراب اللقاء، وإنما يحيل لقلق أعمق من أن يمر العمر كله بدون أن يتملى المحب من حسن محبوبه.

-13-

الكلام جميل، وشديد الغنائية، لي فقط ملاحظتان: الأولى تتعلق بالبناء الخطي لكلمات تصف لحظات الشوق المتتابعة، والقلق والتوتر المتنامي خلالها، والذي يناسب تمامًا الطابع الخطي لتلحين المونولوج.

والثانية تخص البناء المكون من مشاهد، يتباين حجمها وطولها (فنحن أمام مونولوج يتطور خطيًّا، وفقا للحالة الوجدانية، ولا يتضمن تكرارًا لكوبليهات بشكل يستوجب أن تتساوى أحجامها أو تتناسب).

هذه المشاهد مكونة من مربعات لحنية، وتتطابق قوافي الشطرين الثاني والرابع في كل مربع (من أول تطابق قوافي «سبقت عمري/ والوقت بدري».... وحتى
تطابق قوافي «سبب تعذيبي/حسن حبيبي»). يعني باختصار نحن أمام مهرجان قوافي وموسيقى شعرية، يناسب المهرجان اللحني والمقامي الذي سيقدمه القصبجي.

-14-

فقد استفز هذا البناء الشعري الرائع القصبجي، فأخرج كل ما عنده من إبداع ليتم تلحين هذا المونولوج الخالد دفعة واحدة وعلى مدار أربع ساعات فقط!! فماذا فعل القصبجي؟

يتناوب القصبجي في بداية اللحن بين الغناء المرسل (بدون إيقاع) حتى «صعب عليا أنام» وعندها يدخل بالغناء الموقع، هذه النقلة بين الغناء المرسل والغناء الموقع، تواكبها نقلة مقامية من مقام النهاوند (الغناء المرسل) إلى البياتي (الغناء الموقع) ثم نختتم المشهد من حيث بدأنا بالنهاوند (وأشوف خياله قاعد جنبي).

هذا المهرجان المقامي مجرد بداية وفتح شهية، بعده ننتقل لمشهد جديد، بإيقاع جديد (إيقاع المقسوم)، والبداية أيضًا من النهاوند «من كتر شوقي» ثم ننتقل لمقام البياتي «وإيه يفيد الزمن» (لاحظوا صراخ السميعة هنا بعد أن أدركوا فطريًّا النقلة المقامية)، ومنه إلى أحد فروع مقام الراست عند كلمة «الخيال» ومهرجان الآهات التي تبدع فيها أم كلثوم مستمتعة بما تتيحه لها حروف المد في كلمتي "الخيال/الوصال" من مجال لاستعراض قدراتها الصوتية الفذة، شيء معجز فعلًا، حنجرة أم كلثوم المبهرة تناطح عبقرية القصبجي اللحنية رأسًا برأس!!

-15-

لا ينسى القصبجي هنا أن يذكرنا أنه المعلم القدير لآلة العود، فيتحفنا في مطلع المشهد الثالث بتقسيمة عود بديعة، تنقلنا إلى مقام الراست الأصلي، الذي تبدأ منه أم كلثوم المشهد بجملة «طلع عليا النهار»، ثم تنتقل للنهاوند في جملة «وفضلت أفكر في معادي»، وتستمر المراوحة بين المقامين حتى نصل لختام المشهد، فينقلنا القصبجي إلى مقام الحجاز في "هجرت كل خليل".

وأخيرًا، يختم القصبجي المونولوج بمشهد أخير يبدأ فيه من مقام الكرد، ثم البياتي ثم الشورى، فالعجم، لنختم المونولوج من مقام البياتي بجملة "من غير ماشوف حسن حبيبي".

ولمن داخ من هذه اللفة المقامية، أقولها ثانية، معذور يا عزيزي، فما فعله القصبجي في هذا المونولوج يدوخ أتخن سميع!!

-16-

كان القصبجي ورامي إذن، هما من نقلا أم كلثوم بأعمالهما في نهاية العشرينيات من غناء القرن التاسع عشر، واستعراض موهبتها الفذة، إلى الغناء الحديث حيث يحل الطرب المعبر عن معاني الكلمات، محل الطرب الخالص، قاما بذلك من خلال سلسلة طقاطيق ومونولوجات قصيرة من عام 1928 وحتى الذروة في الغناء القصير بطقطوقة «مدام تحب بتنكر ليه» (1940)، وقد شاهدنا أعاجيب القصبجي في هذا اللحن الفذ.

ثم لم يكتفيا بذلك، فجاءا في العام التالي بمونولوج "رق الحبيب"، وبه ما به من إبداع مذهل، لتنتقل معه أم كلثوم إلى الكلثوميات الطويلة التي يعرفها كل عاشق لفنها.

يعني ببساطة، أن اللحنين اللذين سمعناهما اليوم، كانا محطتين. الأولى ثبتت انتقال أم كلثوم إلى الغناء الحداثي، ونهاية غناء القرن التاسع عشر. والثانية افتتحت شخصية أم كلثوم الغنائية في النصف الثاني من القرن العشرين، القائمة على الكلثوميات الطويلة بدلًا من الغناء القصير.

لرامي والقصبجي إذن، دين كبير في رقبة كل سميع، يستحق أن نستمع بإمعان شديد للدرر الرائعة التي أنتجاها في حضرة الست، سيدة الغناء في القرن العشرين.. وستكون لنا عودة متكررة مع أعمالهما الرائعة.. اسمعوا وتسلطنوا!

ياسر علوي  كاتب وأكاديمي مصري