على مرمى حجر من نهر النيل العظيم، التقينا مجموعة أصدقاء من أجيال مختلفة. الدبلوماسى المصرى السابق الذى لم يغادر يوما متعة الكتابة الدقيقة المتماسكة؛ الصحفى اللبنانى جامع المتناقضات والأصدقاء، وثلة من رجال الأعمال من جنسيات عديدة، بينهم المثقف و«الثائر الجديد» و«الساداتى»، إضافة إلى ناصرى تقليدى جعل لنفسه مسافة من طاولة الحيرة والقلق. لم تستمر القطيعة الطوعية له حتى أقحمه أحدنا على انفراد فى الحوار. بادره سائلا ما إذا كان قد تغيّر جريان نهر النيل؟ فأجاب «النيل لم ولن يتغير.. العالم العربى يتغير».
اجتمعنا فى أحد فنادق القاهرة العريقة وكئوس «الشاهى» (الشاى بلغة كثيرين بينهم أهل الخليج) وفناجين القهوة لا تفارقنا، ورحنا نحاول الإجابة على أسئلة عديدة أولها: ماذا يستطيع الرئيس الأمريكى جو بايدن أن يُقدّم لقادة دول المنطقة فى زيارته الأولى إلى الشرق الأوسط، وسط هذا البحر الهائج من القضايا الدولية والإقليمية، المركبة والمتداخلة؟.. سؤال مُحيّر مجبول بقلق من إصرار صانعى القرار فى واشنطن على قراءة الشرق الأوسط اليوم بلغة الخريطة القديمة للمنطقة.
• • •
بدأ الحوار من عند صديقنا الصحفى اللبنانى بمطالعة تفصيلية لنتائج الانتخابات اللبنانية. كيف أن برلمان لبنان الجديد لا أحد يملك فيه الأكثرية. هو أول برلمان لبنانى منذ الاستقلال يحتمل هذا الكم من المفاجآت، بفعل القانون نفسه ولحظة 17 أكتوبر وقرار أحد قادة لبنان بتعليق عمله السياسى. كل شىء فى نتيجة الانتخابات يعكس المأزق الإقليمى. فريق يريد شطب الماضى بمقابل فريق يبحث عن موقع فى المستقبل. لا أحد قادر على الحسم أو يريد الحرب. الكل يخاف من الكل. مع ذلك الكل يتحدث مع الكل. والجماهير محتارة بين الواقعية السياسية وخطابات المواجهة المستمرة. فى بلد التسويات لبنان حيث تغلب الواقعية السياسية على الشعارات السياسية، من المتوقع أن يكون هذا البرلمان غير قادر على صناعة التسويات. برلمان تقع عليه مسئوليات وطنية على قياس برلمان العام ١٩٧٢م ولربما أكبر، فى إشارة ترمز إلى المجلس النيابى الذى شهدت ولايته التى تمددت حتى العام 1992، فصول الحرب الأهلية اللبنانية الدامية.
وللمرة الأولى منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريرى، فى فبراير 2005، ينتخب لبنان مجلسا نيابيا تذوب فيه المحاور الإقليمية. لا ١٤ آذار ولا ٨ آذار. هناك فلول من المحورين لكن اختلطت الأوراق والتحالفات. ولربما للمرة الأولى منذ اتفاق الطائف ينتخب لبنان برلمانا لا تتمثل فيه قيادات السنة الوازنة. «ففى لبنان، السياسة لا تتكلم بلغة الأرقام. العدد مهم لحجز موقع فى السلطة لا لصناعة القرارات أو ممارسة الحكم. يستطيع أى فريق ادعاء امتلاك الأكثرية النيابية. لكن طريقة حكم لبنان مسار لا يصلح من دون تفاهمات سياسية. هذه معادلة تتحكم بكل نواحى الحياة اللبنانية. وهذا الواقع لا يمكن تغييره من خلال قانون انتخابى أساسه المحاصصة الطائفية. وبالرغم من المفاجآت ودخول كتلة من المستقلين إلى المجلس النيابى إلا أن الواقع الأمنى والسياسى لا يتقاطع مع اختراق مرشحين لبعض المناطق التقليدية»، يقول الزميل الآتى من لبنان.
• • •
انطلق مشارك آخر من خريطة الطاقة ومن حقيقة أن أسعار النفط باتت خارجة عن سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية للقول إن إدارة بايدن تبحث عن اتفاق مع دول الخليج لمساعدة واشنطن فى حربها مع موسكو. علما أن دول الخليج تجد فى النفط سلعة أكثر منها سلاحا. وكأن الرئيس بايدن أصبح على مذهب التقدميين العرب فى خمسينيات القرن الماضى بأن نفط الخليج هو للعالم الغربى أيضا. وتلك مفارقة أن البيت الأبيض يصمم على بيع بضاعة لا سوق لها فى الشرق الأوسط. عندها تساءل أحدهم بخبث فاضح: هل هناك سوق فى الشرق الأوسط أساسا؟
انتقل الحوار بعد هذا السؤال إلى خريطة الاقتصاد العربية. كيف أظهرت المؤشرات أن التبادل التجارى العربى مع الصين فى نمو مطرد. وأن التوجه شرقا اقتصاديا أصبح حقيقة وليس خيارا لدى معظم الدول العربية. وذلك بالرغم من تداعيات جائحة الكورونا والحروب المتنقلة على طول خط سايكس بيكو. ليتحول النقاش بعد ذلك إن كانت واشنطن قد خسرت الحرب التجارية مع الصين؟ اتفق بعضنا فى ظل هذه المؤشرات على أن الرئيس الأمريكى لا يحمل فى جعبته ما قد يغرى الدول العربية اقتصاديا أو حتى إقناع دول الخليج بالمساعدة فى استقرار أسعار النفط. الثمن إذا استراتيجى.
«لكن ما هو هذا الثمن»؟ يسأل أحدهم. هنا يأخذ المبادرة السفير المصرى الأسبق متفكرا بصوت عالٍ مسترجعا آخر مبادلة استراتيجية من هذا النوع قبل أكثر من نصف قرن، مُضيفا أنه فى تلك الفترة من أربعينيات وخمسينيات القرن الماضى كانت هناك عملية إحلال سياسى. من جهة، كانت هناك القوى الاستعمارية، الإنجليزية والفرنسية، فى لحظة انسحاب من المنطقة مع الدخول الأمريكى الجديد. بالمقابل، الإحلال اليوم هو بين أمريكا وأمريكا!.
من عند هذه النقطة أصبح الحوار أكثر حماسة وأبرز رواسب ثقافية تتعلق بالقضايا التى ما تزال عالقة فى الوجدان والعقل العربيين. لم يسعفنا النادل فى إطفاء نار الأفكار المتطايرة. أصبح الحوار متمحورا حول نقطة أساسية مشتركة هى القلق. هذا القلق مرده القراءة الأمريكية لخريطة عربية لم تعد موجودة إلا فى أذهان اليمين العربى التقليدى وبقايا التقدميين العرب. فنحن أمام خريطة أقله لا تحمل اسمها الذى أطلقه عليها مكتب الهند البريطانى فى منتصف القرن التاسع عشر.
هذا المصطلح الجيوسياسى للشرق الأوسط الذى نشأ وسط النشاط المكثف لصراعات القوى الاستعمارية فى خضم توسع الفكر الكولنيالى. يومها تم تقسيم العالم وفق المصالح الغربية لضمان هيمنة الغرب التجارية والأمنية فى مستعمراته، ومنها على سبيل المثال مكتب الهند البريطانى الذى أنيط به الإشراف على إدارة مقاطعات الهند البريطانية الممتدة من شبه القارة الهندية ومدينة عدن اليمنية وصولا إلى بضعة جزر متناثرة فى المحيط الهندى. كل ما تلا تلك المرحلة من التاريخ الحديث خضع لقراءة خريطة لم تعد تتماهى مع واقعنا اليوم. ليس فى العالم العربى فقط بل حتى تخوم وسط آسيا فى جبال الهمالايا. هذا الخلل فى قراءة الخريطة يضع مستقبل المنطقة فى مسار تصادمى مع الولايات المتحدة الأمريكية.
أشار أحد الحضور إلى مقالة للكاتب الأمريكى مارك لينش فى مجلة الفورين أفايرز بعنوان لافت «نهاية الشرق الأوسط: كيف لخريطة قديمة أن تشوه الواقع الجديد». حيث يشرح لينش أن قراءة الدولة العميقة الأمريكية الخاطئة للخريطة ستفاقم من انقطاع الفهم لتصرفات الدول العربية السياسية فى الشرق الأوسط. وأن سوء الفهم هذا بدوره يؤدى إلى استدراج قوى دولية أخرى تحديدا الصين وروسيا إلى ملء فراغ أمريكى غير حقيقى. ليخلص الكاتب بأن على واشنطن تعلم قراءة الواقع الجديد لتفهم الخريطة.
• • •
صاح أحدنا قائلا إن السياسة أصبحت عبئا على الصحافة. كما أن الصحافة تحولت عبئا على الرأى العام مع تطور وسائل التواصل الاجتماعى. متسائلا من منا يتذكر مقالة أو محاضرة لمفكر عربي؟ أجاب أحدهم أن للأستاذ محمد حسنين هيكل محاضرة قيمة عن الواقع ألقاها فى جامعة قطر. ليكمل صديقه قائلا إن للأستاذ هيكل ثلاث محاضرات مهمة فى القرن الحالى: محاضرة الجامعة الأمريكية فى القاهرة ومحاضرة جامعة أوكسفورد فى بريطانيا ومحاضرة جامعة قطر فى الدوحة. ثم أردف واصفا تجربته فى عالم الصحافة، متذكرا حماسة الصحافيين للوقوف على أرض الحدث، مسترجعا لقاءً جمعه بوزير الخارجية السعودى الراحل سعود الفيصل الذى كان يملك كاريزما ساحرة كما أفصحت عنها الصحافة الأجنبية.
بعدها انقطع الحوار وساد الصمت على الحضور معلنا صفارة الانتهاء. لملمنا حيرتنا المتناثرة متأبطين قلقنا المتنامى على مستقبل المنطقة من دون أجوبة لزيارة أمريكية ننتظرها. قبل النهوض أضاف الدبلوماسى العريق قائلا إن اسم الشرق الأوسط ليس مرتبطا بالجغرافيا فقط. بل هو اسم يحلق فى السماء مشيرا إلى شركة طيران الشرق الأوسط، متسائلا إذا تغير اسم الخريطة هل يتغير اسم الطيران اللبنانى؟