غباء - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 8:18 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

غباء

نشر فى : الجمعة 11 يناير 2019 - 11:35 م | آخر تحديث : الجمعة 11 يناير 2019 - 11:35 م

"ودنك منين يا جُحا؟" دار جُحا بيده ولفَّ؛ كي يصل إلى أذنِه عن طريقٍ لا يصدقه عقلٌ، وصار السؤالُ أمثولةً، تُعلِن عن خيبة كُلِّ جُحا، ولا تنتظر إجابة. في ذمّ التغفيل والغباء قِيل ما قِيل، وفي رسمِ أبطاله وأشهر مَن اتصفوا به نوادر وحكايات تتجدَّد؛ لجُحا طرائفه التي لا تزال حاضرةً في مَجالس الفكاهة وإن قَلَّ الآن تداولها، وله أيضًا قصصه الذائعة التي تُذكَر عند الحاجة إليها، وفي بلدان العالم كافة مَن يماثلون جُحا في مَسلكه؛ لا ينتهي الاحتفاءُ بأثرهم، بل يتخلَّق على شاكلتهم نجومٌ جُدد.
***
الغَباءُ في المَعاجم العربية هو الغُبار أو الغبرة في السماء، وغَبِيَ الأمر عليه أي؛ خَفِيَ عنه، وغَبِيتُ أنا عن الأمر؛ بمعنى لم أفطن له، وكأن هناك غشاوة تمنع رؤيته، والمصدر هو "غباوة"؛ تلك الكلمة التي نستخدمها في أحاديثنا اليومية بوفرة، ونوزعها بلا حساب، ويُقال فلان ذو غباوة أي تنغلق عليه الأمور فلا يفهمها، ولا يدرك ما وراءها.
***
نُسِبَ لوالدة الرئيس الأمريكيّ السابق جورج بوش الابن قولٌ مثير؛ تناقله الناسُ وبات مَضربًا للمثل في صراحته الصاعقة، وخروجه عن المُتوقَّع وخرقه المألوف. قالت باربارا ما معناه أن أغبى أبنائها وأشدَّهم حمقًا، قد صار رئيسًا لأعظم دولة. لا أعرف، وربما لا يعرف كثيرون أيضًا؛ إن كانت تسخر من تدابير القدر، أو تفخر بما حقَّق الأقلُ شأنًا في سلسالها، أو تستجير مِن المُصيبة التي حلَّت بالعالم على يديّ ابنها، أو ربما تعتذر عن الصنيع الذي شاركت فيه؛ وإن عن غير قصد. الأكيد أنها أدركت الموقف، ووصفته باختصار مؤلم؛ دون أن تستخدم رتوشًا، أو تلجأ إلى مُلطفات كلامية، سعيًا لتجميل صورة ولدها مثل أي أم.
***
ثمَّة قياساتٌ واختبارات، ودرجات وأرقام ومعادلات؛ تُصنِّف الأغبياءَ والأذكياءَ وتفصلهم. يُولَد الناسُ على المُنحنيات البيانية في تفاوتٍ أكيد، مع ذلك ليس كُلُّ ناجحٍ في الحياة بمُتَّقد الذكاء على المِقياس الصارم، وليس كُلُّ مَن أخفق بغبيٍّ أو أحمق. الغباءُ أنواع، مِنه ما يتركَّز في العاطفة وما مَوطنه العقل. لا يستحيل التعاملُ مع عقلٍ مَحدود القدرات؛ إذ هناك برامج مُتخصصة يمكن مِن خلالها تنمية المهارات وصقل القدرات، أما عاطفة مُتيبسة وأحاسيسٌ بليدة؛ فربما لا تكون باليد حيلةٌ تجاهها؛ كونها قاصرةً عن التواصل السليم، تصدُّ محاولات الاقتراب والمساعدة، وتريقها على صخور صلبة، مُدبَّبة الحواف. ربما كان غباءُ العاطفة مريحًا لصاحبه، لكنه في الظروف الطبيعية، يرهق الآخرين ويستنزف طاقاتهم؛ وإذ يُقال إن مِن الحب ما قتل، فمِن غباءِ المشاعر أيضًا ما قتل؛ قتلةً أشرَّ وأنكى.
***
هل نكره إذًا أغبياء العاطفة؟ بات الكلام عما يُعرف بالغباء العاطفي قديمًا مُكررًا، لكن أهميتَه تتجدَّد في ضوء ما يمُر بالعالم مِن أحداث وتقلبات، وما يُحيق بحكامِه مِن اضطراب؛ بادي المَعالم، مُكتمِل الأركان. رجلُ دولة بارز يلقي في حواراته بحجارة عشوائية تهين وتُدمي، وآخر يستخدم لغةً فجة لا مُراعاة فيها لأبسط القواعد المُتعارف عليها والأصول، وثالث يصوغ أفعالَ سفكِ الدماء وكأنها خطابٌ شعريٌّ مُحايد. تقصفُ الجملُ والعباراتُ أبنيةً كثيرة، وتدكُّها دكًا مُفزِعًا، فيما يجد مُطلقُها مَن يستقبل غَثَّ كلامه؛ ليتعاطف معه، ويكرره ويتبناه.
***
ربما يصلح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نموذجًا لهؤلاء الذين ينقصهم قدر مَقبول مِن الذكاء العاطفي؛ فلا يرون وقع مفرداتهم، ولا يتحرجون مِن سوء فعليهم، ولا يهتمون إلا لأنفسهم؛ لكنهم يحصدون صورًا مِن النجاح. لا يملك ترامب الحساسيةَ المُتوقعة في سياسيّ ذي مَنصب مَرموق، ولا الحصافةَ المَرجوة في رجل أعمال ذائع الصيت، ولا ينفكّ يطلق تصريحاته الصادمة وتغريداته الفجَّة، ويخطب ببلادة دون أن يتحسَّس موطئ تلفظاته عند مُتابعيه؛ مع ذلك يجد له أنصارًا مُتيَّمين، يعدونه بطلًا يستحق الإعجاب.
***
تناولت الدراما نمطًا تقليديًا مِن الغباء، وجعلت مِنه مادة أساسية للضحك والسخرية. أفلام الراحل إسماعيل ياسين تزخر بكوميديا مَبنية على قلة حيلة البطل، وقصور عقلِه عن استيعاب ما يهُون استيعابه على الشخصيات المُحيطة به، وغالبًا ما يوقعه غباؤه هذا في مواقف هزلية، لكنها مُفعمة بالعاطفة، غنية بالمشاعر، لا تعدم القُدرةَ على التواصل مع الجماهير. لم يكُن إسماعيل ياسين مُتواضع الذكاء في الواقع، لكنه قَولَب نفسَه، وسجن روحَه في هذا الإطار الذي لم يتمكَّن لاحقًا مِن هجره؛ مآل مُفرط المرارة لو قيمناه بجدية، وجردناه من جانبه المُضيء.
***
تُرى مَن الذي يتمتَّع في عصرنا هذا بالذكاء ومَن الذي يمكن نعته بالغباء؟ يبدو التقييم صعبًا؛ فالورقة والقلم والحسابات، لا تغطي العوامل المُعقدة التي صارت تؤثر فينا وتتداخل مع استنتاجاتنا. الظواهر البراقة لا تفتأ تتكشَّف عن صدأ، والأفعال الحمقاء تلوح مُخادعةً إلى حدٍّ بعيد، فيما يرسب في الاختبارات من غلب الظن بحصافتهم، ويصعد على خشبة المسرح آخرون.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات