كوابيس الوالى فى «دار العشاق» - طلعت إسماعيل - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 7:30 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

كوابيس الوالى فى «دار العشاق»

نشر فى : الإثنين 11 فبراير 2019 - 10:50 م | آخر تحديث : الإثنين 11 فبراير 2019 - 10:50 م

يصرخ السقاء أمين الدواخلى مذعورا «ممزقا عذرية الخيوط الأولى» لنور اليوم الجديد، عقب عثوره على جثة الخواجة اليونانى أندرياس ملقاة أمام خمارته على بعد أمتار قليلة من بركة الأزبكية.
بهذا المشهد الافتتاحى، يدلف بنا ناصر عراق رويدا رويدا إلى «دار العشاق» أحدث رواياته الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية، مستدعيا حقبة تاريخية كان فيها محمد على باشا يعمل بكل جهد لتثبيت أركان عرشه فوق مصر المحروسة.
ومن جريمة تبدو فردية، ينتقل عراق إلى الجريمة الأكبر التى جعلت النوم يجافى عيون الضابط الألبانى الأصل عقب ارتكابه مذبحة القلعة الشهيرة للقضاء على منافسيه المماليك، فظلت أشباحهم تطارده، والكوابيس السوداء تسد عليه طريق الهناء بملك مصر الذى انتزعه بالتودد والشدة مع المصريين تارة، وبخديعة وقتل أعدائه تارة أخرى.
فشل الأطباء فى دفع الكوابيس بعيدا عن مخدع الباشا، فلجأ لكبير السحرة، شركان الناغى، عله يجد حلا لـ «السحر الأسود» الذى حاكه «رجل مجرم فاجر من المماليك، قُتل فى القلعة مع المجرمين الآخرين»، على حد وصف الناغى، فيرد عليه الوالى: «إذن هو المملوك أردوغان الذى صرخ وتوعدنى بالويل والهلاك، كما أخبرونى، قبل أن يلفظ أنفاسة الأخيرة بالرصاصة القاضية».
يتنقل عراق من داخل مقر حكم الباشا فى القلعة، لإعطائنا إطلالة على جانب من حياة المصريين والأجانب فى ربوع المحروسة فى مطلع القرن التاسع عشر، عبر حشد من الشخوص بينها الحداد الفقير سليمان الذى يفقد حياته ظلما كى تغلق الشرطة ملف مقتل الخواجة أندرياس، تهدئة لخواطر القنصل الفرنسى الذى كان يسبغ حمايته على الجالية اليونانية من رعايا الدولة العثمانية.
وعبر خلطة سحرية بدأت بمقتل أندرياس، وإعدام الحداد المصرى، تغوص الرواية فى كواليس «دار الملذات»، التى تمتلكها آماليا اليونانية، وتجمع فى سهراتها الماجنة علية القوم من الحكام والمحكومين، وسط عالم يتقلب بين الحب والحقد، الخير والشر، الطهر والرذيلة، من دون أن تغفل الوقوف على سلاح النفاق الرخيص الذى يستخدمه البعض تقربا إلى الوالى لضمان رضاه، والحصول على جزء من عطاياه، لا فرق هنا بين فرنسى وأرمنى، أو مشعوذ عربى.
وتأمل كيف يمدح رسام فرنسى محمد على فى بلاطه قائلا «عيناك مثل عينى ثعلب ذكى أتعب أسود الغابة»، قبل أن يمنحه الباشا شرف رسمه بالحجم الطبيعى. أما القنصل الفرنسى نفسه فكان يضع محمد على وبونابرت فى جملة واحدة عنوانها المجد والرفعة، وهو ينحنى لتقبيل طرف السجادة الفارسية التى تتدلى عليها أقدام والى مصر من فوق عرشه، بعد أن سمح له بافتتاح محل كبير لبيع الأثاث والتحف، وأعفاه من الضرائب، التى يلهب بها ظهور المصريين لتشييد قصوره، وتحقيق طموحاته.
طبعا العلاقة بين الفرنسيين والمصريين كانت ولا تزال محل جدل كبير وسط المثقفين، فهناك من يعتبر أن الحملة الفرنسية على مصر كانت بابا للتحضر والتمدن، وآخرون يرونها استعمارا صريحا جاء لنهب خيرات المحروسة، وإن غلفها الفرنسيون بطابع ثقافى وحضارى فى بعض أجزائها.
فى «دار العشاق»، حاول عراق الإفلات من هذا الجدل عبر شخصية الرسام الفرنسى شارل الذى جاء إلى مصر قبل بونابرت بسنوات، وزرع فى بعض المصريين بذور الثورة والتمرد على الحاكم الأجنبى، وإن كان مسلما، وحثهم على الدعوة إلى الحرية وأن يحكمهم مصرى، قبل أن تغتال رصاصات شرطة الوالى هذا الحلم فى مهده.
لناصر عراق العديد من الأعمال ضمن مشروع روائى ممتد، أتابعه منذ عمله الأول «أزمنة من غبار» الذى قرأته مخطوطة، ومرورا بـ«العاطل» الرواية التى تنبأت بدخولها القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية عام 2012، لعله يتذكر حوارنا فى هذا الشأن، لكن فى اعتقادى أن «دار العشاق» الأكثر نضجا واكتمالا فى مشواره حتى الآن.
وإذا كان عراق فى «دار العشاق» التى يرمز بها إلى مصر، يقدم محاكمة عقلانية رصينة لحقبة محمد على، فإن ما حوته الرواية من تفاصيل وشخوص، تجعلنى أطالبه بجزء ثانٍ يتتبع فيه حياة المصريين خلال الفترة التالية من حكم الأسرة العلوية، من داخل الحوارى والأزقة لكن بعيون شعبية غير بعيدة عن كوابيس الحاكم الخائف على عرشه.

التعليقات