الكُفّار - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 6:21 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الكُفّار

نشر فى : السبت 11 أبريل 2015 - 8:50 ص | آخر تحديث : السبت 11 أبريل 2015 - 8:50 ص

المرة الأولى التى صادفت فيها عنوانا يحوى مفردة «الكُفّار» تصورت إنها ظهرت سهوا، إنّ صاحبها لم يقصدها ولم يكتبها متعمدا، تصورت إنه شرد بين الأفكار والألفاظ، وانفلت منه بعضها وسقط على الصفحات دون أن ينتبه، تصورت إنها مصادفة لن تتكرر لكن المفردة عادت إلى الظهور مرة واثنتين، وتحوّلَت إلى مُصطلح شبه ثابت داخل العناوين.

***

الصحيفة اليومية الشهيرة التى حازت سَبْق استخدام مُفردة «الكُفّار» دأبت على متابعة مُستجدّات الوضع الأمنيّ مثلها مثل وسائل الإعلام كافة، استخدمت فى البداية أوصافا عادية أشارت بها إلى القتلى فى أرجاءِ سيناء، أوصافٌ لا تستوقف النظرَ، ولا تلفت الانتباه، ثم راحت فيما بعد تبتكر الجديد، إلى أن استقرت على تلك المفردة ومُشتقاتها وكَثّفَت مِن استخدامها، وقد سارت على دربها صحفٌ أخرى، راحت جميعها تصكُّ عناوين مِن قبيل «تصفية عشرة مِن كفار بيت المقدس» أو «مقتل عشرين تكفيريا». لا أعرف إن كانت تلك الصُحف تُسمّى مَن تستهدفهم فى العناوين تبعا لتحليلاتها وتوقعاتها، أم اعتمادا على اجتهاداتٍ شخصيّةٍ مِن بعضِ مُراسليها وكُتّابها، لا أعرف ولا يسعنى إلا أن أتعجب مِن ذاك الاختيار، والتوقع، والاجتهاد الذى يبدو مَحلّ اتفاق كثيرين، وفى الوقت ذاته يصعُب أخذه على مَحمَل ِالجَدّ، إذ هو تعبيرٌ أدبيّ أكثرَ منه توصيفٌ موضوعيّ. هؤلاء الذين يقعون مَوقِعَ المدحورين، والذين يُثير مَقتلَهم سعادة هامشٍ يُعتدُّ به مٍن القُرّاء، لا ينبغى لنا الاستسلام إلى محاولات رَسم صورة مَحدّدة لهم دون أدنى مُقاومة، فما مِن دليلٍ يُقدّمُ إلينا على كونهم كُفّارا أو تكفيريّين، ما مِن حُجج أو شواهد تدعّم هذين التصنيفين، خاصة مع إبقاءهم مجهولين، وما مِن معلومات متوفرة يُمكن بناء استنتاجات وأحكام مِن خلالها، ولا شَكّ أن إطلاق وصفَ «كُفّار» على جماعةٍ مِن الناس لأمر يَستَوجِب اتخاذ خطواتٍ وإجراءاتٍ تبدأُ بالسؤالِ والحوار، وتتضَمّن المقارعة والجِدال، وهى أمورٌ تستحيل مُباشرتُها حالَ يصبح المرءُ مُجرّد جثةٍ.

***

عَبَرَت العناوين أغلب الظنّ أمام مُشرِف الصفحة ورئيس التحرير وربما أمام غيرهما مِن المسئولين، عَبَرت بسلام ثم تجلّت عريضة ثقيلة وباعثة على الضحك، فهكذا استدعت الصحيفة مُفردة لم يسمعها أغلبُ القراء -وأنا منهم- سوى عَبرَ مُشاهدة الأفلامِ الدينية والتاريخية، أغلبنا أيضا يحفظ التعبير الشهير «كُفّار قريش» ولا يعرف كُفّارا آخرين. اختار الصحفى تلك المُفردة البعيدة عن لغة الحياة اليومية، فبدت مُنتزعة مِن سِياقها المنطقيّ ومُقحَمَة على واقع تجاوزها بقرون. هى لا تُحقّق غرضا موضوعيا تعجز المفردات الأخرى عن تحقيقه، بل جلّ ميزاتها إنها تتلاعب بوعى المُتلقى وتحيله إلى أجواءٍ عتيقة أسطورية. الكُفر لا يعنى ببساطة سوى الإنكار، نعرف إنّ مَن كفر بالشىء هو مَن أنكره، لكن للتنويعات والصياغات التى يبتكرها الصحافيون وقعٌ أضخم وأشدّ تأثيرا مِن المعنى المباشر والبسيط. يقع الكُفّار بطبيعة الحال فى الجانب المظلم مِن وعى القارئ المؤمن؛ تقدمهم الثقافة الدينية باعتبارهم فريق الأشرار الذى ألحق الأذى والظلم بالأخيار، هم مصدرُ الشقاءِ والمفسدةِ والكرب، وهم أيضا مُستجلبوا غضب الربّ. لا يخلو الأمر مِن التباس، فمن يوصفون بكونهم كُفّارا يُتهمون فى الوقت ذاته ومِن الأشخاص أنفسهم بكونهم تكفيريّين، أى يصبحون على الجانب الآخر؛ جانب الموغل فى الإيمان بما يُتيح له إعلان كُفر الآخرين. هكذا تصبح العناوين متناقضة بصورة أو أخرى، فثمة جماعة أو فئة واحدة مِن الناس توصف بكونها كافرة ومُكَفِّرَة فى آن.

***

حين يستقبل المتلقى نبأ مَقتلَ عددٍ مِن الكُفّار أو التكفيريّين – أيهما وقع عليه الاختيار ــ لا يسعه إلا أن يشعرَ تلقائيا بالراحة، وكلما تضاعف عددُ القتلى ازدادت راحته وتعاظم رضاءه، وتَرَسّخ إيمانه بإنه على الجانب الصواب فثمة آخرين يلعبون دور الشيطان، وقد وَجَبَ القضاءُ عليهم وحَقّت إبادتُهم، دارت عجلةُ القتلِ واتخذت مَسارا لا رجعة فيه. عشرات «الكُفّار» الذين يسقطون كل يوم يُقَدَّمون إلينا نحن الجالسين لنقرأ الصُحفَ، تُحَوّطهم علامات ازدراءٍ تكفى كى نشعرَ بالامتنانِ لقاتليهم، هؤلاء لا نعرف أسماءَهم ولا أعمارَهم ولا وظائفَهم ولا عددَ أبنائهم، ولا نرى عويلَ أمهاتهم وانكسارَ آباءِهم، هذا إن كان مِنهم مَن بقى على قيدِ الحياة. لا نعرفُ عنهم سوى الصفة الدرامية الأكثر بروزا التى تُلصَق بهم: إنهم الكُفّار.

***

جُثثُ التكفيريّين، وجُثثُ الكُفّار فى الهمّ واحدة، كلها تَلقى مَشاعرَ الشماتة والكُره والامتعاض. فى حادثٍ قريب وبلدٍ بعيد، قرأنا عن رجلٍ له اسم، قتلته الشُرطة وهو يقاومها على خلفية أعمال عنف دموية، وقد كتبت الصُحُفُ فى اليومِ التالى عن مَقتلِ «المشتبه فيه» لا عن الإرهابى أو التكفيرى أو حتى المُجرم. الجُثثُ التى ما عاد حصرُها مُمكنا لا تملك عن نفسها دفاعا سوى فشل الآخرين.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات