حارة اليهود - كمال رمزي - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 10:36 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حارة اليهود

نشر فى : السبت 11 يوليه 2015 - 10:55 ص | آخر تحديث : السبت 11 يوليه 2015 - 10:55 ص

لا أعرف، شخصيا، السيدة ماجدة هارون، رئيسة الجالية اليهودية فى مصر. لكنى أتابع باحترام تصريحاتها، وآخرها ما يتعلق بـ«حارة اليهود»، وبالتحديد قولها الذى أسعدنى، إنها سترفع قضية ضد المسلسل، إذا تضمنت حلقاته ازدراء بالديانة اليهودية. سعادتى ترجع لأمرين. أولهما: أنها تعتبر نفسها، وهى محقة تماما، مواطنة مصرية أصيلة، أبا عن جد، لها كل حقوق المواطنة، ومن بينها عدم الاستخفاف بمعتقدها الدينى. وثانيهما: إن المسلسل بضمير يقظ، ورحابة أفق، تعامل مع الأديان الثلاثة، بتوقير ومحبة.

جدير بالذكر، قبل التعرض للعمل، التوقف لحظة، أمام انقلاب الإعلام الإسرائيلى، تجاه «حارة اليهود»، فبعد الترحيب به فى حلقاته الأولى، على أساس تقديمه «صورة إيجابية لليهود»، تغيرت نغمة الاحتفاء، وسريعا تحولت إلى هجوم بادعاء أن العمل «يبث روح الكراهية ضد اليهود».

التحول من النقيض للنقيض، يعنى أن ثمة خلل فى التلقى، بالإضافة للتسرع فى إطلاق الأحكام، وهى من الآفات التى وقع فيها بعضنا، حين أخذ يشكك فى توجهات المسلسل، عندما رحبت به دوائر إسرائيلية. ثم جاء الرضاء عنه، عقب انزعاج الإعلام الإسرائيلى من مسار العمل. هكذا، كما لو أن تقييماتنا تأتى على نحو ميكانيكى، مناضة للمقولات الإسرائيلة.

بعيدا عن هذا الجدل، يمكن القول بناء على عرض أكثر من نصف حلقاته، أن مؤلفه المثقف، مدحت العدل، المتمتع بمعرفة واسعة وعميقة بالتاريخ، فضلا عن استيعاب تراثنا المكتوب والمرئى، صاغ عمله المهم، برؤية تدرك النسيج المتناغم للشعب المصرى، خلال تلك الحارة التى تضم فى أحشائها المسلمين والأقباط واليهود، ليسوا كملائكة، ولكن كأناس قد يختلفون، وربما يتشاجرون، من دون أن يكن لاختلاف الأديان سببا فى تلك المنازعات، وبمهارة، يرصد العدل رياح الكراهية التى تهب على الحارة، يتابعها يفسرها يحللها، وأبدا لا يدشنها أو يقف مع طرف ضد آخر.

«حارة اليهود»، المتسربل بعبائة التاريخ، جوهريا، يتحدث عن الحاضر، وذلك حين ينتبه وينبه إلى نزعة التعصب التى تتسلل شيئا فشيئا إلى نفوس قطاعات من الناس، تتمكن منهم، تمسى عيونهم وقلوبهم غارقة فى الظلام، تتقلص وجوههم بكراهية الآخر، المختلف دينيا.

جاء اختيار الحارة نموذجيا، كما الحال للحظة البداية: غارة على القاهرة إبان حرب ١٩٤٨، الأهالى يهرعون للمعبد اليهودى، مسلمين وأقباط ويهود. سريعا، نتعرف على أهم الوجوه، وعلاقاتهم مع بعضهم بعضا: «ابتهال»، ريهام عبدالغفور، ابنة الفتوة «العسال»، يأكلها الحقد على «ليلى»، اليهودية، بأداء منة شلبى. ليس لسبب دينى، لكن لأن قلبها يخفق بحب «على»، إياد نصار، الضابط المرتبط عاطفيا، بليلى، العاملة بمحل شيكوريل. والدها، يؤدى دوره أحمد كمال، صاحب محل «هارون للمانيفاتورة». ثمة «مزراحى»، تاجر الذهب، المناقض أخلاقيا لهارون، الوطنى، النزيه، المتسامح، بينما «مزراحى»، بطرس غالى، نهاذ للفرص، شره للملكية، رعديد.. هكذا، مدحت العدل، يرى ألوان الطيف، فى كل طائفة من طوائف المصريين. يتحرر تماما من الصور التقليدية، ليرسم صورا واقعية لسكان الحارة، الذين يرتبطون بحكم الجوار، ووحدة المصير، إلى أن تتسلل الشروخ.

المصادر الإبداعية لعالم «حارة اليهود»، استوحاه العدل من عدة مصادر، فمن قلب فتوات نجيب محفوظ، ينهض «فتحى العسال»، بأداء فريد للموهوب على كبر، سيد رجب، النحيل، الذى يذكرنا بشجرة «الجازورينا»، تضرب جذرها الوتدى فى عمق الأرض، راسخة، تصد الرياح. صحيح، العسال يفرض إتاوات على أهل الحارة، لكنه يحميها، وتتجلى شهامته فى عدة مواقف، فها هو يدير «قهوة الوفد» عقب القبض على صاحبها الطيب صبرى عبدالمنعم، ويرسل عائداتها إلى أسرته. تراجيديا «العسال» تطبق عليه حين تضمحل قواه أمام غدر تابعة «النطاط»، وليد فواز من ناحية، واشتغال ابنته بالرقص فى الملاهى الليلية.

من عالم العوالم، عند المخرج الكبير حسن الإمام، نشاهد رقصات ونسمع أغنيات الأربعينيات، فى بيت «زينات» المشبوه. وبرغم الحضور الخلاب لهالة صدقى، فى دور صاحبة البيت، فإن صدى صوت سهير المرشدى، وهى تمثل «سماسم» فى «ليالى الحلمية»، يظل باقيا فى الآذان.

أغلب الظن، أن العدل تأمل طويلا، حياة رجل مصرى يهودى، مشبع بحب وطنه مصر، اسمه شحاتة هارون، رفض الهجرة إلى إسرائيل، وبقى معاديا للصهيونية حتى وفاته عام ٢٠١١، عن عمر يناهز الثمانين عاما. هذه الشخصية النبيلة تجدها موزعة بين «هارون» فى المسلسل وابنته «ليلى». وإذا كانت منة شلبى موفقة فى تعبيرها عن قوة إرادة «ليلى»، فإن أحمد كمال، صاحب الأسلوب الهادئ، العميق، يجسد، بطريقته، صامتا، معنى الصلابة الداخلية، وحين يرفض طلبه للتطوع فى صفوف الفدائيين، يدرك، دون إعلان، أن سبب الرفض ديانته اليهودية، تكاد عينيه تغرق بدموع لا تخرج من مجريها.

فى المسلسل، يرتبط المصير العام بالمصير الخاص، وقائع التاريخ، تتوالى، لتؤثر فى الحياة اليومية للأهالى، خاصة فى الجانب المعنوى، أو الفكرى، فمع الصراع ضد الدولة الصهيونية، يدرك «الضباط الأحرار» أن النصر لن يأتى إلا بعد التخلص من النظام الملكى، ومقاومة الاحتلال البريطانى. وثمة، من يدفعه الجهل إلى الخلط بين اليهودية كديانة، وإسرائيل ككيان استعمارى، وبالتالى، تبدأ رحلة التعصب المقيتة.

بدا «حارة اليهود» أكبر من طاقة المخرج، صحيح، محمد جمال العدل، أدار ممثليه على نحو جيد، لكن فاتته عشرات التفاصيل الصغيرة، فطوال الحلقات، لم نشهد أحدا يشترى قطعة قماش أو سلطانية زبادى أو طبق ظرشى. إنها مجرد لافتات ديكورية من دون حياة. أصحاب المحلات إما يجلسون على كراسى لمناقشة الأمور، أو يقفون بجانب بعضهم بعضا، كأنهم على خشبة مرسح، لتنتقل الكاميرا الكسول، من وجه يتكلم، إلى آخر يرد عليه، أو يردد ذات كلامه. لكن يبقى المسلسل الطموح، شجاعة طرحه الشجاع، الناضج، لقضايا شائكة، جادة.

كمال رمزي كاتب صحفي
التعليقات