من العالمية إلى العولمة - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 9:28 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

من العالمية إلى العولمة

نشر فى : الإثنين 11 أغسطس 2014 - 8:25 ص | آخر تحديث : الإثنين 11 أغسطس 2014 - 8:25 ص

شهد الربع الأخير من القرن العشرين نقاشا مستفيضا حول ظاهرة العولمة، التى أدت فيها ثورة المعلومات والاتصالات إلى ربط مختلف أرجاء العالم لتجعل منه «قرية كبيرة». وحدث التحول فى ختام سلسلة من الأحداث مر بها العالم منذ بداية القرن العشرين، لا يجوز تناسيها ونحن نتطلع إلى رسم خريطة المستقبل وتبيّن موقع كل من الدولة القومية والفرد فيها، نستعين بها فى وضع أسس دولة قادرة على المشاركة فى توجيه حركة العالم إلى ما فيه صالح البشرية.

•••

وفى لمحات سريعة نوجز أهم الأحداث التى أعادت تشكيل كل من العالم والدول والأقاليم حتى أوصلتنا إلى الحاضر. ففى بداية القرن العشرين كان المتحكم فى خريطة العالم إمبراطوريات بنتها دول قومية، بعضها نحا بها منحى إمبريالىا، يقوم على الاستيلاء قسرا على أراضى أقوام آخرين، للاستيلاء على حصيلة أنشطتها الاقتصادية. وكانت مصر ضمن الدول التى أخضعتها الإمبراطورية العثمانية منذ 1617 متذرعة برفع راية الخلافة، فلم تعن بتحسين أحوالها، واكتفت بفرض الخراج والجزية عليها، وهو ما دفع المصريين إلى ثورات عديدة عندما اشتط الولاة فى فرضها. أما البعض الآخر فقد نحا منحى كولونيالىا استعمارىا، ليعزز حركة التصنيع التى توالت حلقاتها بخامات يجبر المستعمرات على توفيرها له مقابل تصدير جانب من منتجاته الصناعية. وكان فى المقدمة الإمبراطورية البريطانية التى وصفت بأن الشمس لا تغيب عنها. وفرضت تلك الدول الرأسمالية نظاما للتجارة الدولية يقوم على ما يسمى المزايا النسبية، اختصت لنفسها منه ما يقوم على المعرفة الفنية وحصرتها للدول التابعة فى الهبات الطبيعية، وتصارعت فيما بينها لانتزاع أكبر قدر من المستعمرات. وانتقلت الإمبراطوريات الأوروبية من سلسلة حروبها الإقليمية تتنازع فيها على ممتلكاتها، إلى حربين عالميتين فصل بينهما عقدان، شهد ثانيهما حروبا تجارية تسبب فيها الكساد الكبير الذى فجره انهيار بورصة وول ستريت فى 29/10/1929 فى أعقاب موجة رواج وتضخم فى الولايات المتحدة.

وهكذا اتخذت الحروب السياسية والتجارية أبعادا عالمية، أشركت فيها دول لا ناقة لها فيها ولا جمل سوى أنها وقعت أسيرة الاستعمار المباشر. ودفع ذلك النوع من الصراع إلى مناداة البعض بإقامة وحدة عالمية universal. ولكنها فشلت لعدم توفر الأسس الموضوعية التى تكفل نجاحها. فاتجه التفكير إلى تغيير النظام الكلاسيكى السائد فى الدول الرأسمالية التى تدعى الحرية لأبنائها، باقتران ديمقراطية سياسية بحرية للأسواق. فقامت ثورة أكتوبر 1917 الاشتراكية فى روسيا، بينما عمدت دول هزمت فى الحرب العالمية الأولى إلى إعادة بناء نظمها السياسية مقتدية بالنموذج اليابانى الذى شكل مركزا استعماريا فى شرق آسيا، تلعب فيه الدولة دورا بارزا فى الشؤون الاقتصادية، فظهرت الفاشية الإيطالية فى العشرينات والنازية الألمانية فى الثلاثينات، واتجهت الدول الثلاث إلى استعمار ما عداها من دول استعمارية فنشبت الحرب العالمية الثانية، التى اختتمت بإسقاط قنبلتى هيروشيما ونجازاكى، لينتقل العالم من حروب عالمية إلى أسلحة عالمية، تنذر بدخول العالم كله شتاء نوويا.

•••

ورغم أن العالم حرص على تدعيم السلام والأمن العالميين، وإعادة تعمير ما خربته الحرب العالمية الثانية التى أودت بحياة أكثر من 50 مليون نسمة، وإحداث تنمية تحد من دوافع الصراع، بإنشاء تنظيم سياسى اقتصادى عالمى عماده هيئة الأمم المتحدة (التى روعى فيها تفادى القصور الذى شاب عصبة الأمم التى أقيمت عقب الحرب الأولى)، ومعها منظمات قطاعية قائمة ومستجدة ومؤسسات اقتصادية ضمت صندوق النقد الدولى ليسيطر على الأنظمة النقدية وعماده الدولار الأمريكى، والبنك الدولى للإنشاء والتعمير ثم اتفاقية الجات كبديل بمؤسسة تجارة دولية، فإن البعد الإقليمى اكتسب اهتماما كبيرا، مع انقسام العالم إلى ثلاثة: العالم الأول يضم الدول الرأسمالية، وفى قلبه أوروبا الغربية التى أقامت سوقها المشتركة كمقدمة لوحدة سياسية، والدول الاشتراكية التى اهتمت بالتعاون لإعادة بناء اقتصاداتها وفق أسس جديدة، ثم العالم الثالث الذى سعت أقاليمه إلى إقامة تكتلات اقتصادية لم تحظ بنجاح كبير، خاصة مع محاولة العالم الأول ربطها بأحلاف تستعين بها فى حرب باردة مع العالم الثانى، فتصدت لها فى مؤتمر باندونج وشكلت مجموعة عدم انحياز للتخلص من القيود السياسية والاقتصادية والتركيز على التنمية بدفع الأمم المتحدة إلى وضع أسس نظام اقتصادى دولى جديد فى 1974، بينما تصدت مصر الناصرية إلى حلف بغداد واستردت قناتها فكانت حرب 1956، ثم أقامت منظمة التضامن الآفروآسيوى لتعزيز استقلال دوله السياسى، ودفعه للاقتداء بمنهجها القائم على التصنيع وهو ما هدد بإجهاض الاستعمار الجديد، فكانت حرب 1973 بإشراف أمريكى، ثم دفعها إلى انفتاح اقتصادى رغم انتصار أكتوبر 1976، لتعود مرة أخرى للارتباط بالاقتصاد العالمى تحت الهيمنة الأمريكية، القائمة على آليات فرض التبعية من خلال الشركات عالمية النشاط.

•••

ورغم أن الاتحاد السوفيتى حقق سبقا فى أوائل الستينات فى غزو الفضاء، فإن الولايات المتحدة عمدت إلى توجيه هذا الغزو، بجانب الاستخدامات العسكرية، إلى إشراك قطاعات الأعمال، لتكتمل أركان الثورة التكنولوجية، ويدخل العالم عصر ما بعد الصناعة التى ما زالت دول نامية توسع فيها، إلى مجتمع المعلومات والاتصالات. من جهة أخرى أدى إفراط الولايات المتحدة فى تعزيز الاستهلاك بشقيه الجماعى الذى تخصص الجانب الأكبر منه لحروب وانتشار عسكرى فى أرجاء العالم (وما قاعدتها فى قطر وأساطيلها فى المياه العربية إلا قطرة فى بحر) والعائلى الذى تغذى فيه اقتناء السلع المعمرة التى تتفنن فى تنويعها، إلى إضعاف الدولار وانهيار النظام النقدى العالمى (بريتون وودز) فى أوائل السبعينات مع رفع أسعار القمح ثم ارتفاع أسعار البترول، ليعانى العالم ظاهرة هى الأولى من نوعها تجمع بين التضخم والركود، ثم المناداة باستخدام السياسة النقدية كأداة لتوجيه الاقتصاد، وما تلا ذلك من ارتفاعات فلكية فى أسعار الفائدة، ليقع العالم الثالث فريسة لضغوط جعلت الثمانينات عقدا ضائعا للتنمية، أى أن الولايات المتحدة تخلصت من ضائقتها بإلقاء تبعتها على الدول النامية.

فى 1985 أثناء مؤتمر يناقش مستقبل الناصرية، أشرت إلى أن «العالم الثالث انتقل من الاستغلال إلى الاستغناء». فلم تعد الدول المتقدمة محتاجة إلى البشر الذين اتخذت منهم عبيدا، ثم استعبدتهم داخل دولهم، ولم يعد لها مع الثورة التكنولوجية حاجة إليهم. ففى عالم تسوده المعرفة لا النشاط البدنى والعقلى لا يجد من لم توفر له ظروف الإسهام المعرفى أى ضرورة. وأضفت إلى ذلك أن المستقبل سيشهد تقاربا بين العالمين الأول والثانى لأنهم شركاء فى الجذور الحضارية وفى الثورة التكنولوجية، وهو ما تحقق، ولم يصبح أمام الدول الرأسمالية سوى توجيه الثورة التكنولوجية للتخلص من أزمات نشبت أولاها فى 2008. وهى تجتذب الأفراد الواعدين بتعزيز تلك الثورة إليها، ليتركوا أوطانا يتطاحن فيها بشر بعضهم يعيش فى الماضى السحيق والآخر غريق فيما حوله. ومن ثم كان لابد من إعادة صياغة مفهوم التنمية الاجتماعية المتصفة بالكفاءة والعدالة، وإلا تلاشت الأوطان وأصبح أهلها فى خبر كان.

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات