شراء الوقت وأزمة الاقتصاد العالمى - عمرو عادلى - بوابة الشروق
الثلاثاء 23 أبريل 2024 10:30 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

شراء الوقت وأزمة الاقتصاد العالمى

نشر فى : الأحد 11 ديسمبر 2016 - 9:45 م | آخر تحديث : الأحد 11 ديسمبر 2016 - 9:45 م
قبل شهرين تقريبا طلب منى القيام بمراجعة لنسخة مترجمة لكتاب أستاذ الاقتصاد السياسى الألمانى الجنسية وولفجانج شتريك «شراء الوقت»، والذى نشره بالألمانية فى ٢٠١٣، ثم قامت دار صفصافة بترجمته إلى العربية عن الألمانية. ويعد شتريك أحد أهم باحثى الاقتصاد السياسى فى أوروبا، وله مساهمات تمتد على طول نصف القرن الماضى. وقد جمع كتابه الذى عنونه بشراء الوقت من ثلاث محاضرات ألقاها بجامعة فرانكفورت فى ٢٠١٢ تعليقا على أزمة منطقة اليورو الاقتصادية ومن ثم السياسية، وخاصة فى أعقاب اشتعال أزمة الديون السيادية وإفلاس اليونان، وما سببه هذا من تهديد ــ لا يزال قائما ــ لاستمرارية الاتحاد الأوروبى ككيان اقتصادى.
وقد قدم شتريك قراءة للجذور السياسية والهيكلية لأزمة الاتحاد الأوروبى باعتبارها تجليا لأزمة الاقتصاد العالمى القائم على المنهج النيوليبرالى، والذى وصل لطريق مسدود منذ الانهيار المالى فى ديسمبر ٢٠٠٨، وأضحى يشترى الوقت حرفيا بالقفز من أزمة لأخرى عن طريق حلول مؤقتة ومكلفة لا تلبث أن يتم استهلاكها بوتيرة متسارعة لتخلق هى نفسها أزمات جديدة. ومن المثير للانتباه أن شتريك قد ألقى هذه المحاضرات وتنبأ بصعوبات جديدة تواجه الاقتصادين الأوروبى والعالمى قبل أن يشهد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى، وصعود اليمين المتطرف المناهض للمشروع الأوروبى فى جملته، علاوة على انتخاب دونالد ترامب، وكلها تجليات سياسية للأزمات الاقتصادية التى تعصف بالعالم.

يقف كتاب «شراء الوقت» كقراءة معمقة للاقتصاد السياسى لأزمة الاتحاد الأوروبى، وهو أمر بالغ الأهمية بالنسبة لمصر وشمال إفريقيا عامة بحكم ارتباطهما الوثيق بمنطقة اليورو حيث يعتبر الاتحاد الأوروبى أكبر شريك تجارى لها. كما أن دول الاتحاد هى أهم مصدر للاستثمارات الأجنبية المباشرة والسياحة، ولا شك أن قراءة متأنية لأسباب وتداعيات الاتحاد الأوروبى لها أثر مباشر على هذه الاقتصادات التابعة. كما أن لها أهمية غير مباشرة فى فهم الجذور والنتائج السياسية لأزمة الاقتصاد العالمى فى الاتحاد الأوروبى ــ ثانى أكبر كتلة اقتصادية عالميا ــ من أجل فهم مآلات التحول فى بنية النظام العالمى سياسيا واقتصاديا، وما سيكون لهذا من آثار على منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط فى ضوء القرب الجغرافى والتداخل الديمغرافى مع أوروبا مع تدفق اللاجئين والمهاجرين وانتقال مخاطر الإرهاب عبر المتوسط، وكذلك فى ضوء الوجود التاريخى للولايات المتحدة (وروسيا أيضا) عسكريا واقتصاديا وسياسيا فى المنطقة، وهو ما يجعل تغيرات بنية النظام العالمى تؤثر بشكل يكاد يكون فوريا ومباشرا على منطقتنا المضطربة.
***

يرى شتريك فى «شراء الوقت» أن النظام الاقتصادى العالمى قد تمت صياغته منذ مطلع الثمانينيات ومع انتهاء الحرب الباردة على خطوط نيوليبرالية مفادها تحرير حركة التجارة فى السلع والخدمات وحركة رأس المال من بلد لآخر، وهو ما أضعف كثيرا سيادة الدول القومية على اقتصاداتها وقلص من قدرتها على تنظيم النشاط الاقتصادى داخل حدودها، وأسهم فى تآكل قدرتها على تحصيل الضرائب من الشركات الكبرى متعدية الجنسية. وترجم هذا فى العالم بأسره بشماله وجنوبه إلى أزمات مالية هيكلية الطابع تواجه الحكومات نظرا لعدم قدرتها على تحصيل الضرائب من رأس المال. وكان المخرج المباشر هو التوسع الشديد فى الاقتراض، وهو الأمر الذى جعله تحرير رءوس الأموال وبالتالى توفر سيولة كبيرة فى الأسواق ممكنا وبتكلفة منخفضة نسبيا.
وبالتوازى مع التوسع فى الاقتراض الحكومى فى أوروبا والولايات المتحدة والعديد من بلدان الجنوب كان هناك توسع فى الاقتراض الخاص لتمويل الاستهلاك، حيث أفضت العولمة النيوليبرالية إلى إضعاف العمال، وبالتالى تخفيض أنصبتهم النسبية فى الناتج بشكل مستمر لصالح رأس المال. ولم يكن هناك بديل ــ خاصة فى الولايات المتحدة أكبر مستهلك ومستورد ومقترض فى العالم ــ عن تعويض جمود الأجور الحقيقية بالاقتراض. ويقدم شتريك أدلة واضحة على إن التحرير الاقتصادى لرءوس الأموال والتجارة قد أدى لإعادة توزيع الدخل لأعلى لصالح الشركات والبنوك الكبرى والمساهمين فيها، على حساب القاعدة العريضة من العمال. وأن وقود هذا الوضع المختل طيلة عقدين كاملين من الزمن كان التوسع الرهيب فى الاقتراض سواء من الحكومات أو من المستهلكين فى الدول الغنية، وهو الأمر الذى ثبت أنه غير قابل للاستمرار مع الانهيار الكبير فى ديسمبر ٢٠٠٨، وكرة الثلج التى أطلقها لتأخذ فى طريقها العديد من الاقتصادات الهشة التى أقامت نموها على الاقتراض الرخيص مثل أيرلندا وأيسلندا واليونان والبرتغال وإسبانيا وربما حتى إيطاليا مطلقا أزمة الديون السيادية فى أوروبا، وهنا ينتقل شتريك إلى البعد الأوروبى.

يرى شتريك أن التحول النيوليبرالى فى أوروبا قد أخذ شكل الاندماج النقدى والتنظيمى فى مؤسسات الاتحاد فوق القومية بما أدى لانتقال صلاحيات تنظيم الاقتصاد وخاصة فى مجال النقد والتجارة إلى مؤسسات غير منتخبة على المستوى الأوروبى مثل المركزى الأوروبى ومفوضية الاتحاد. وفاقم هذا من غياب الديمقراطية إذ أصبحت الحكومات المنتخبة بلا صلاحيات حقيقية لتنظيم الاقتصاد، على النحو الذى ظهر بشكل فج فى أزمة اليونان، والتى انتقلت صلاحيات إدارة أزمة إفلاسها إلى المفوضية الأوروبية والبنكين المركزيين الأوروبى والألمانى وصندوق النقد، وسحقت إرادة ناخبيها أمام حكم التكنوقراط.

***

إن خلاصة تصور شتريك هو أنه فى أوروبا أو خارجها فإن الإشكال الجوهرى يكمن فى استعادة السيادة السياسية على الاقتصاد أى إخضاع إدارة وتنظيم الاقتصاد للإرادة الشعبية الديمقراطية داخل الدول، ولا يتم هذا إلا بإرجاع القيود على حركة رأس المال بما يتيح الفرصة أمام بحث أسئلة العدالة الاجتماعية وإعادة توزيع الدخل عبر الضرائب وترتيبات الرفاه إلى الحكومات الوطنية. ولعله سيكون من المثير معرفة رأى شتريك اليوم وقد انتقل هذا النقد اليسارى للعولمة إلى برامج الأحزاب اليمينية الشعبوية المعادية للعولمة، ولكن المناهضة معها للتعدد الثقافى واللاجئين والأقليات؟ ولهذا نقاش آخر.
التعليقات