الحوائط لا تنفع - وائل جمال - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 2:44 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الحوائط لا تنفع

نشر فى : الثلاثاء 12 فبراير 2019 - 10:20 م | آخر تحديث : الأربعاء 13 فبراير 2019 - 2:38 م

 في عام 2016، وصل عدد المكتبات العامة في مصر بدلتاها وصعيدها، ومدنها وريفها، إلى 344 مكتبة، مقارنة بـ 350 مكتبة عامة في 2015. في الوقت نفسه بلغ إجمالي عدد المكتبات، بما يتضمن مكتبات الجامعات والمدارس والمكتبات المتخصصة، 1222 مكتبة، شهدت خلال عام 2016 حوالي 5.7 مليون زيارة بين مطالعة واستعارة.

 

تتضاءل هذه الأرقام بشدة بالمقارنة بدول كالولايات المتحدة وبريطانيا. في الأولى يبلغ الإجمالي ما يقرب من 117 ألف مكتبة منها 9 آلاف مكتبة عامة تنتشر في 16 ألف مبنى، وما يزيد عن 98 ألف مكتبة في المدارس 81 ألف منها في المدارس العامة. بينما وصل عدد الزيارات إلى مليار ونصف المليار شخص في عام 2012. أما في بريطانيا فعدد المكتبات العامة قد وصل إلى 4145 مكتبة في 2014 من 4620 في 2002، بينما بلغ عدد المكتبات الأكاديمية ما يصل لألف مكتبة. في مصر هناك مكتبة عامة لكل 300 ألف مصري، وفي الولايات المتحدة هناك مكتبة عامة لكل 20 ألف شخص.

 

أهمية المكتبات العامة وفي المدارس هنا ومعنى عددها المتدني بالنسبة لعدد السكان لا يقتصران على تحسين عادات القراءة أو التعلم ولا الحياة الثقافية بالمعنى العام وصناعة الكتب. فها هو عالم الاجتماع الأمريكي إريك كلايننبرج يخبرنا في كتاب، يقول عنه خبراء إنه سيغير كثيراً النظرة للامساواة وللمدينة، أن انحسار المكتبة العامة كاشفة للتمييز والتفاوتات وعنصر محوري، ضمن عناصر أخرى، في صناعة الاستقطاب في المجتمع.

 

كلايننبرج، وهو صاحب عدد من الكتب التي حصدت جوائز وأثارت ضجة، أحدها عن الحب المعاصر والآخر عن العيش المنفرد، يعتبر المكتبة العامة كمساحة مشتركة بين الناس مثلاً رئيسياً على ما يسميه "البنية الأساسية الاجتماعية".  ويعرفها كلايننبرج في كتابه "قصور للناس" بأنها "الشروط المادية التي تحدد مستوى وتطور العلاقات بين الناس والشبكات التي تربطهم ببعضهم، أو ما يسمى رأس المال الاجتماعي". وعندما تكون البنية الأساسية الاجتماعية "متينة"، فإنها تدفع الاتصال والمساندة بين الناس والتعاون بين الأصدقاء والجيران، وعندما تنحط وتتراجع، فإنها تحجم النشاط الاجتماعي تاركة العائلات والأفراد دون أحد غير أنفسهم ليستندوا عليه. يمتد مصطلح البنية الأساسية الاجتماعية من المكتبة العامة لملاعب الأطفال في الأحياء، للحدائق العامة، للشواطئ العامة للمدارس إلى تجربة التعلم. 

 

وتؤثر البنية الأساسية الاجتماعية بشدة على حياة الناس، بحسب الكتاب الذي يعود لموجة حارة استوائية ضربت مدينة شيكاغو، المدينة التي ينحدر منها الكاتب، في عام 1995، كي يثبت أن تراجع البنية الأساسية الاجتماعية بسبب الخصخصة وتراجع الاستثمارات العامة وانحدار الخدمات العامة عموماً، يجعل أثر التغير المناخي أعلى بكثير على الفقراء. كلما كانت البنية الأساسية الاجتماعية أفضل كلما كان أثر الكوارث المناخية أقل وتراجع التفاوت بين الناس في تحمل نتائجه.

 

 ويشتمل الكتاب على عشرات الأمثلة تتنوع من تجارب التعلم بالمدارس للفضاءات العامة المادية بأنواعها للفضاء الالكتروني وأثره مدعومة بالصور، ليثبت بها كيف أن تراجع البنية الأساسية الاجتماعية، وهو نتيجة للامساواة الاجتماعية والتمييز الطبقي، وكيف أنه هو نفسه يعيد إنتاج الانقسام الاجتماعي ويعزز التمييز الطبقي. " لقد قام عدد صغير من الأثرياء ببناء أنظمة خاصة موازية للأمن الشخصي والسفر الجوي وحتى الكهرباء، وصار لهم مساراتهم الأسرع "فاست تراك" في المطارات وفي الطرق وغيرها. بل إن كلايننبرج يتحدث هنا عن المدارس، ليس فقط فيما يخص صعود التعليم الخاص الحصري والاقصائي لشرائح الأغنياء، ثم يلقي الضوء على الكيفية التي يؤثر بها التصميم المعماري للمؤسسات الدراسية على عملية التعلم والتواصل بين الطلبة وبعضهم وبين أولياء الأمور وبعضهم وبين المجتمع والمدرسة. " تصميم المساحات في الحرم الجامعي: قاعات المحاضرات والمراكز البحثية والمدن الجامعية هي أكثر العناصر المرئية من البنية الأساسية الاجتماعية للتعليم لكن الحواف والحدود مهمة أيضاً لأنها تشكل إذا ما كان الطلبة سوف يشتبكون ويتعلمون الثقافة العامة ويتفاعلون مع الناس الذين لا يشبهونهم".

 

يسير التيار عكس ذلك الاتجاه في العالم وفي مصر خصوصاً، حيث تحرس شركات خاصة بوابات الحرم الجامعي وتأخذ المؤسسات التعليمية فخارها من مبانيها المحصنة في التجمع الخامس.  والنتيجة ظاهرة في كل مكان: الأغلبية الكاسحة تتحمل أنظمة تتداعى من الاستخدام الزائد ومن نقص الاستثمارات". ويصرخ الكتاب: "لا شيء من ذلك قابل للاستمرار".

المصيبة أن الأمر لا يتوقف عند ذلك. بل إن خصخصة المساحات العامة وعمليات الإحلال العمراني الطبقي تواصل هجماتها على ما تبقى من بنية أساسية اجتماعية. ففي مصر مثلا، الحق في المساحات العامة غير منصوص عليه صراحةً الدستور، ويغيب عن السياسات العامة بوضوح. بل تنحو استثمارات الدولة ومشاريعها القومية في اتجاه المجتمعات المسوَرّة الحصرية وإغلاق الشواطئ العامة على من يستطيع دفع تكاليف الدخول، وذلك أساساً في سياق وضع حصة المصريين فيه من الفضاء العام محدودة بكل المعايير. على سبيل المثال، ووفقاً لمدونة تضامن المعنية بالحق في المدينة والحقوق العمرانية في مصر، فإن "المساحات الخضراء العامة حيث يتمكن الأشخاص من التمتع بالمدينة بحرية وبشكل مريح محدودة للغاية في مصر" وتبلغ حصة القاهريين من المساحات الخضراء 0.8 متر مربع للفرد (متر مربع / للفرد). أما سكان الإسكندرية فلديهم أقل من هذا – 0.4 متر مربع للفرد فقط مقارنة بـ 12 متراً مربعاً في دبي و14.5 متر مربع للفرد في تونس، و55.5 متراً مربعاً للفرد في الدار البيضاء. وهذا بالمقارنة مع المعدل العالمي البالغ 4 متر مربع للفرد.

"كما أن المساحات الخضراء المحدودة المتاحة في المدينة أبعد ما تكون عن المساواة في التوزيع. سكان المناطق ذات الدخل المرتفع في القاهرة لديهم 4 – 7 متر مربع/ الفرد من المساحات الخضراء للفرد الواحد، وهو ما يقرب من 70 ضعف المساحات الخضراء في أكثر المناطق فقراً"، بحسب المدونة.

 

وتحتكر الدولة القرار في الموضوع، مستبعدةً النقاش الديمقراطي مع الأطراف المعنية، كما يقول كلايننبرج. "عادة ما يزعم المسؤولون السياسيون أن مشاريع البنية الأساسية فنية بما يتجاوز قدرة المواطنين على الفهم، ناهيك عن مناقشة جدواها ديمقراطياً. ويطلبون منا أن نثق في المهندسين والخبراء كي يتولوا الأمر، وهو ما يعني في النهاية ترك السلطة تتدفق من أعلى لأسفل. لكن لا يجب أن يكون لأي رئيس ولا حكومة السلطة في اتخاذ قرارات منفردة حول إعادة بناء تلك الأنظمة الحساسة التي نعيش فيها، ويخبرنا التاريخ أنه عندما يكون ذلك هو الحال، فإن الناس نادراً ما يحصلون على ما يريدون"، كما يقول الكتاب.

 

يحذر عالم الاجتماع الأمريكي من أن الطبقة الأعلى في الولايات المتحدة قد تخلت فعلياً عن المشروع الجماعي، وبدأت في تشكيل مجتمع منفصل مبني على العزلة المكانية والاقتصادية والتعليمية والثقافية. "لقد تعهد الرئيس الأمريكي بإعادة بناء البنية الأساسية، ولم يترك مجالاً للسؤال حول خطوته الأولى: حائط. ولا يوجد أسهل من حائط في التصميم والتشييد. لكنه رمز وعنصر دافع في الوقت نفسه للانقسامية التي تضعفنا، بالإضافة إلى أنه، وكما يقول العديد من المسؤولين السياسيين المعنيين بالهجرة عبر الحدود، لن يكون حتى فاعلاً في تقليص الهجرة". فالحوائط لا تنفع.

 

 

 

إريك كلايننبرج، قصور للناس كيف يمكن للبنية الأساسية الاجتماعية أن تساعد في مواجهة اللامساواة والاستقطاب وانحدار الحياة المدينية، نيويورك، الناشر: كراون، سبتمبر 2018، 288 صفحة

 

Eric Klinenberg, Palaces for the People, How Social Infrastructure Can Help Fight Inequality, Polarization, and the Decline of Civic Life, New York, Crown, September 2018, 288 pages,

  

 

وائل جمال كاتب صحفي
التعليقات