إذا مال المال .. ساء الحال - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 1:37 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

إذا مال المال .. ساء الحال

نشر فى : الثلاثاء 12 مايو 2009 - 7:21 م | آخر تحديث : الثلاثاء 12 مايو 2009 - 7:21 م

 لجأت المجتمعات البدائية إلى أسلوب المقايضة بتبادل شيئين لهما قيمة عند طرفى التبادل، ما ساعد على اجتهاد كل منهما لإنتاج شىء لا يحتاجه للحصول من الآخر على ما يرغبه، الأمر الذى سهل على كل منهما التخصص فى حرفة يتقنها فينتج بها قدرا أكبر مما لو حرص على إنتاج كل ما يرغبه بنفسه.

ولما اتسع نطاق التبادل وجاب العرب أنحاء المعمورة بحثا عن تسعة أعشار الرزق فى التجارة، كان عليهم أن يتزودوا بالذهب والفضة، لأنهما مخزن للثروة، فيستطيع مالكهما الحصول مقابلهما على طيبات الحياة، وينتفع الجميع بإنفاقهما.

ومن هنا حرم القرآن الكريم اكتنازهما، وحض على الإنفاق فى سبيل الله، لأن هذا كان كفيلا بسعى الجميع للإسهام فى الإنتاج، مطمئنين إلى إمكانية بيعه بما يوازيه من مال، وتدور دورة الاقتصاد ومعها دورة الحياة.

وقديما ظن الإسبان والبرتغاليون أن الحصول على الذهب والفضة غاية بذاته، إلى أن ظهر أن الثروة الحقيقية هى فى الإنتاج الوفير، الذى بات ممكنا مع ظهور الثورة الصناعية.

وقد اقترنت تلك الثورة بتطوير الاستعمار وبفرض عملة الدولة المستعمرة (بريطانيا ثم فرنسا) التى كانت تربط بالذهب على مستعمراتها.

ومع انتشار التصنيع واتساع نطاق الإنتاج أصبح من المتعذر تقييد العملات بمعدن تبخل به الطبيعة (وهو ما أكسبه قيمة عالية) فبدأ البحث عن أساس للعملات قادر على التوسع. وظهرت النقود الورقية التى تعتمد على الثقة باستعداد البنك المصدر لها بدفع قيمتها ذهبا عند الطلب، فكانت تلك النقود هى أول «مشتقة».

وصاحبتها مشتقة ثانية هى الائتمان الذى تقدمه البنوك التجارية لرجال الأعمال استنادا إلى ما لديها من ودائع، وهنا تجاوزت المشتقة قيمة الأصل اعتمادا على أن المودعين لا يسحبون جميعا ودائعهم فى وقت واحد، فلا بأس من إقراض أضعافها لأجَل بفائدة تحفز المقترض على السداد فى الموعد المتفق عليه، ويُدفع جانب منها للمودعين إغراء لهم باستبقاء ودائعهم لحين الحاجة لسحبها.

فإذا اختلت أوضاع المقترضين وتوقفوا عن الدفع، ولم تجد البنوك ما يكفى لتلبية استردادات بعض المودعين، استشعر هؤلاء الخطر فهرعوا إلى سحب أموالهم ليكتشفوا أنها تجمدت فى أيدى المعسرين. وما لم يهبّ البنك المركزى إلى نجدة البنوك، أو إذا قصرت موارده عن ذلك، شاع الهلع ووقفت الطوابير تنتظر دورا لا يجىء لسحب أموالها. وكان هذا هو ما حدث فى أزمة الثلاثينيات التى تعددت الإشارة إليها مؤخرا.

وحين اجتمعت الدول فى بريتون وودز عقب الحرب العالمية الثانية، وفى الأذهان تلك الأزمة، وما أعقبها من أساليب حمائية وحروب تجارية خسر فيها الجميع، تقدم لورد كينز البريطانى بمشروع يحدث توازنا تلقائيا فى موازين مدفوعات الدول، من خلال غرفة مقاصة أو ما يسمى اتحاد مدفوعات، تسجل فيها إيرادات كل دولة من صادراتها مقابل المستحقات عليها لوارداتها من جميع الدول الأخرى.

وفى نهاية فترة معينة يحسب الرصيد وهو بطبيعة الحال أقل من مجموع المعاملات بكثير، فتسدده نقدا إذا كان مدينا، وتمنح قرضا إذا لم يكن لديها ما يكفى لأجل محدود تعيد فيه تنظيم إنتاجها وتجارتها الخارجية.

وتستخدم فى ذلك وحدة حسابية تسمى «بانكور» تنسب إليها أسعار الصرف وتحفظ الاحتياطات. غير أن الاتفاق تم على مشروع قدمه هوايت الأمريكى استهدف ربط عجلة الاقتصاد العالمى بالدولار، وإخضاعه لرقابة مؤسسة مقرها واشنطون، تسيطر على إدارتها الدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة، وهى صندوق النقد (الشهير بالنكد) الدولى.

وحدد سعر صرف لكل عملة بالدولار (فكان الجنيه المصرى = 2.87 دولار)، على أن يعتبر الدولار قابلا للصرف بالذهب على أساس 35 دولارا للأوقية. وكشف اقتصادى بلجيكى يدعى روبرت تريفين (الذى صمم اتحاد المدفوعات الأوروبى الذى مهد لقيام السوق الأوروبية المشتركة) عن معضلة تتمثل فى أن ربط عملات العالم بالدولار يقتضى وجود عجز كبير فى ميزان المدفوعات الأمريكى لتوفير دولارات تغطى الطلب المتزايد على الدولار.

وبدلا من أن تستمد النقود قوتها من قوة أساسها عندما كان هو الذهب، فإن الأساس الدولارى يضعف باستمرار، والمستفيد الوحيد هم الأمريكان الذين يتجاوز استهلاكهم إنتاجهم. وفعلا اضطرت الولايات المتحدة فى أوائل السبعينيات لتخفيض عملتها والخروج عن الذهب، فعمت الفوضى النقدية واشتعل لهيب التضخم مع الركود، وهى ظاهرة غير مسبوقة، لأن التضخم كان يرتبط دائما بالرواج. ومع ذلك استمرت الولايات المتحدة تقاوم محاولات إيجاد بديل للدولار كعملة تحفظ فيها احتياطات الدول من النقد الأجنبى.

ومع تصاعد الدعوة بأن التجارة محرك النمو، تجاوز نموها نمو الناتج المحلى. وفى ظل تفاوت معدلات النمو نتيجة عدم التكافؤ الذى يتسم به الاقتصاد الرأسمالى، تزايد اختلال موازين المدفوعات. فمن ناحية تحتاج الدول التى تحقق فائضا إلى مجالات استثمار خارجية.

فإذا كانت مستضعفة كالدول العربية البترولية التى تجبر على تحقيق فائض نتيجة ضخ بترولها الآيل للنضوب تلبية لحاجة الدول الصناعية، فإنها تحرم من شراء أصول إنتاجية حتى لا يكون لها صوت ولو ضئيل فى الاقتصادات الكبرى، وتفتح أمامها استثمارات مالية توفر للبنوك الدولية النشاط موارد تقرضها لدول نامية بفوائد تبالغ فيها بحجة امتصاص التضخم.

وتفتعل حروبا إقليمية تمتص الفوائض فى تشغيل مصانع السلاح لديها، وفى هذا السياق جرى إغراء العراق بالدخول فى حربين خليجيتين، وشنت إسرائيل عددا من الحروب، يدفع العرب نيابة عنها فاتورة إصلاح ما دمرته. أما الدول ذات العجز فترتفع أعباء وارداتها وتضطر إلى الاحتفاظ بقدر كاف من الاحتياطات فى شكل سائل لتغطية قيمة وارداتها، وتمول الاحتياطات التى تفوق قدرتها التصديرية من مصدرين.

الأول من قروض بشروط مجحفة، والثانى باستثمارات أجنبية مباشرة يشترط لورودها إعادة تنظيم الاقتصاد الوطنى على نحو يضمن ربحية تلك الاستثمارات، بغض النظر عما تفرضه أولوياتها التنموية. وفى واقع الأمر، فإن تلك الاستثمارات تمثل فوائض تضيق أمامها الفرص فى مواطنها فيجرى تصديرها حتى لا تتزاحم محليا فتهبط بعائد الاستثمار المحلى. أما الدول التى تحقق فائضا نتيجة توسع سريع فى الإنتاج، كما فى شرق آسيا، خاصة اليابان والصين، فإنها تتجه إلى استثمارات مالية، أساسا فى سندات الحكومة الأمريكية فى لعبة قوامها تسهيل استبقاء الولايات المتحدة العجز الراجع إلى توسعها فى الاستيراد من تلك الدول.

وظهرت نتيجة ذلك صناديق استثمارية، انغمست مؤخرا فى عمليات مضاربة سعيا وراء مضاعفة الأرباح. ونشطت أسواق المال، لتتحرك الأموال بأحجام هائلة بعيدا عن متطلبات الاقتصاد العينى. وأغريت الدول النامية على فتح ما يسمى «أسواق ناشئة»، فإذا بها تصبح مصدرا لاستنزاف ثرواتها. وتعددت حالات النزوح السريع لرأس المال الذى يوصف «بالساخن»، وعندما انفجرت أزمة دول جنوب شرق آسيا فى 1997 اتهمت تلك الدول بسوء التدبير، فإذا به يصبح النموذج المبكر لما حل بالاقتصادات الكبرى وانتقل منها إلى باقى العالم.

إن الإصلاح لا يكفى فيه إشراك الدول المهمشة فى نظام نقدى مهترئ لتكون شريكة فى جريمة استبقائه على حاله. المطلوب هو نظام نقدى جديد على أساس نظام اقتصادى سليم. ولابد من ثلاثة أمور أساسية: إيجاد أساس سليم للعملات غير الدولار؛ إعادة النظر فى العلاقات التجارية لتفادى خلق فوائض تهيم على وجهها؛ وإخضاع حركة رأس المال القصير الأجل الائتمان لضوابط تحد من توالد الفقاعات وانفجارها.

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات