إهانة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 1:38 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

إهانة

نشر فى : الجمعة 12 مايو 2017 - 9:00 م | آخر تحديث : الجمعة 12 مايو 2017 - 9:00 م

ثمّة أناسٌ يشعرون بالإهانة إذا أُبعِدوا مِن بلاط السُلطة وحُرِموا رحيقها، يحسّون الذُلّ إذا لم يحظوا بوضع خاص لديها، وعلى العكس هناك آخرون يشعرون بالإهانة إذا قرَّبتهم السُلطة منها أو سعت إلى ذلك بصورة من الصور.
علماء عرفوا بقدر مِن المهارة لم يهتموا لشيء فى الدنيا قدر اهتمامهم بعرض أنفسهم على السلاطين والحُكّام، ظلَّ مَسعاهم الأساسيّ أن تضُمَهم الحاشية فينعموا بميزات وعطايا ونفوذ ليس لأقران وزملاء؛ ربما كانوا أفضل علمًا وأعمقَ معرفةً. مثقفون رفضوا الاقتراب؛ رفضوا مِنحًا مِن النظام ومن السلطان وجاهروا بالرفض، وكان لهم أن يقبلوا بلا لوم ولا عتاب، لكن إيمانهم بأن القبول مرادفٌ للهوان ظلّ أقوى مِن أى إغراء.
بعضنا يؤلمه ترك مَنصبٍ وجاه، حتى لو قضى سنواتٍ طوال مُتمتعًا بهما، وقد لا يقتصر إحساسه على الألم والضيق عند الزوال، بل تُضاف إليهما مشاعر الإذلال، وأحيانًا يُكلِّلها الحقدَ على مَن لا يزالون فى أماكنهم، آمنين شرَّ انحسار النفوذ والأضواء.
***
الاعتراف بالوقوع فى خطأ يستدعى عند بعض الناس شعورًا بالمَهانة، فالخطأ قد يعنى قلّة دراية أو قلّة عناية، جهلا أو إهمالا، وأغلبنا لا يحب أن يوصف بأيهما ولو كان الوصف حقيقيًا، ولو كان الأمر عابرًا لا أصيلا مُستحكِمًا. التعرُّض إلى النقد يورث فى العادة الشعور ذاته، فالنقد يستحضر السلبياتِ والسلبياتُ نقصٌ والنقصُ دومًا مُهين، إلا عند الأقوياء مِمَن يعتقدون فى طبيعة البشر التى لا تصل أبدًا حدّ الكمال.
***
إنكار الفضلَ مِما يُهين صاحبَه. التجاهُل والنَبذ يفعلان المثل وإن وقعا عفوًا لا عمدًا، وكثيرًا ما دبَّ خِصام وشِجار لأن شخصًا عبر بآخر فلم يُلق إليه بالتحية والسلام، عندها تتحقق أركان الإهانة ويلزم استرجاع الكرامة المُهدَرة. بعضُ أساتذة الجامعات والمحاضرين يهتم كثيرًا بجمهوره، بعدد الجالسين فى المدرج أو الندوة. إذا قلَّ العددُ كان دليلا على عدم الاحترام، وبالتالى وقعت الإهانة واستدعت الردَّ المناسب. كتابة أسماء الموجودين ومُعاقبة الغائبين على سبيل المثال. أعرف ندرة مِن عُلماءٍ أجلاء لا يعبأون وإن تحدثوا أمام فردٍ واحدٍ، ففى حضوره الكفاية وفى تفاعلهِ أملٌ وإشباع.
فى أحوال شاذة تقعُ الطامة الكبرى؛ إذ يغفو شخصٌ أمام مُحدِّثه، وتصبح الإهانة أضعافًا مُضاعفة، والمعنى أن الغافى لم يحتمل المللَ أو الركاكةَ أو سوءَ الإلقاء وانعدامَ الجاذبية، لدرجة دفعته إلى الهروب التام، وقد أعدم رئيسُ كوريا الشمالية وزيرَ دفاعه بعد ضبطه نائمًا خلال عرض عسكرى، جزاءً على ما عدَّه علامةً مِن علامات الازدراء.
***
بعض الشعوب تشعر بالإهانة إذا ترك ضيفُها بقايا طعامٍ فى صحنه؛ إذ تصل رسالةٌ فورية بأن الأكلَ سيئ المذاق لا يُعجِب ولا يُطاق. شعوبٌ أخرى تجدُ الإهانةَ فى أن يأتى الضيفُ على صحنَه فيخلفه نظيفًا فارغًا؛ وتكون الرسالة هنا أن الأكلَ قليلٌ وأن المُضيفَ بخيلٌ، فما قدَّمه لا يُسمِن ولا يسدُّ الرمقَ.
هناك مواطنون أمريكيون شعروا بالإهانة من انتخاب دونالد ترامب رئيسًا، إذ حمل معه إلى البيت الأبيض قيمًا وثقافة يرونها سوداء، لا تتلاءم وروح المجتمع الأمريكيّ القائمة على التعدد والاختلاف، والاحترام فى الوقت ذاته. آخرون فى دول مُتعدِّدة طالتهم الإهانة العميقة مع انتخاب رئيس فرنسى طفل، لم يكمل الأربعين من سنوات العمر؛ هؤلاء عبروا عن مشاعرهم بسخرية مريرة، وبعضهم بحث عن نماذج مشابهة فى التاريخ، ليؤكد أن الأمرَ عاديٌ وأنه لا يشعر بضآلة ولا مَهانة ولا إحباط كون حُكّامه فى مقامِ الجُدود أو أكبر إذا قورنوا بالرئيس «ماكرون». لا شكّ عندى أن نسبةً ليست ضئيلة فى المنطقة العربية سوف تقتلها أحاسيس المهانة والعار إذا ما حكمت بلدانها امرأة، حتى ليصبح الأمر بعيد المنال، بل بعيدًا عن التفكير.
***
الإهانةُ فى المعاجم العربية هى مُرادف المَهانة والذلّ والهوان، واستخدام «ال» التعريف يعنى أنها مُحَدَّدة ومُتَّفق على مَضمونها ومُحتواها، مع ذلك لا بأس مِن الحديث عن النسبية، فالمشاعر مُعظمها نسبيّ وأغلبها تتحكم فيه ثقافةٌ وبيئةٌ وأعرافٌ، وتشكلّه لغةٌ ومعرفةٌ وفى نهاية الأمر يترجمه الاعتياد؛ فطفلٌ يتعرض للسُباب منذ نعومة أظفاره لن يشعر بإهانة حين يسبّه رئيسٌ فى كِبَره.
***
منذ أيام قرأت خبرًا عن مشروع قانون يستهدف مُعاقبة مَن يوَجِّه إهانةً إلى الرئيس أو إلى مجلس الشعب أو رموز الدولة. تَقَدَّم بالمشروع رئيس لجنة الدفاع والأمن القومى، وفى مواد المشروع حبسٌ لسنواتٍ ثلاث وغرامةٌ بآلاف الجنيهات. لم أملك نفسى مِن استرجاع السابقة الشهيرة التى تَنَدَّر عليها الناسُ طويلا: قانون «العيب». لم أملك نفسى أيضًا مِن طرح عديد التساؤلات حول السبب والنتيجة. ترى ماذا يقضُّ مضجَعَ الرئيس فيجعله فى احتياج إلى قانون يمنع عنه الإهانة؟ وماذا يخيف المجلس الذى هو من انتخاب الشعبِ وصنيعه حتى يسنّ ويُشَرِّع قوانين، يظنّ أنها تحميه من الناس؟ وإذا كان هناك قانون يحمى الرئيس والمجلس من الشعب سليط اللسان، فماذا يحمى الناس حين يتعامل معهم المجلس بصلف وحين يهينهم الرئيسُ خطابًا بعد خطاب؟
أظن أن صكَّ تعريف واضح لمصطلح مطاط أمر لا يستقيم، كما أن ابتداع مواد قانونية تحرم البشر حقهم الأصيل فى السخرية والنقد والتنفيث لأمر مستحيل.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات