تعيش مصر هذه الأيام موسم الأسئلة الصعبة، وبغض النظر عما إذا كانت الأسئلة المطروحة هى الأسئلة المطلوب الإجابة عليها فى هذه اللحظة فإننا ننشغل بتقديم إجابات مستفيضة عنها دون أن نسأل أنفسنا ما هو السؤال الإجبارى وما هو السؤال الذى تصبح الإجابة عليه رفاهية لا نملكها؟.
ووسط هذه الحالة علينا أن نستبعد بعض الأسئلة التى لا تقدم رؤية مختلفة للواقع المعاش نستطيع من خلالها البناء لنصل إلى نتائج مختلفة حيث إن كل الإجابات التى نمعن فيها النظر هى أفرع من سؤال لا نستطيع أن نغير كثيرا من المعطيات المحيطة لنا فى الواقع بمجرد الإجابة عليه..
●●●
السؤال الصحيح فى هذه اللحظة ليس إذا ما كان علينا أن نعطى صوتنا فى انتخابات يسلم معظمنا بأنها ترتيبات الثورة المضادة التى أدارت المرحلة الانتقالية طوال عام ونصف العام لتضمن الحفاظ على أركان الدولة البوليسية السلطوية القائمة على القهر والاستغلال والكذب دون مساس، وبطبيعة الحال فليس مطروحا أيضا السؤال عما إذا كان من الجائز أو المقبول أن يعطى أحدا صوته لممثل هذا النظام فقط لأنه يصدق أساطير جدته التى تتردد كل ليلة على الفضائيات عن الإخوان المسلمين الذين لن يتركوا السلطة إذا ما جاءوا إليها والذين سيعودون بمصر إلى عصور الظلام ويضطهدون المرأة والقبطى ويقضون على السياحة ويستبيحون الحدود ويشهرون سيوفهم فى وجه من يعاديهم..
والسؤال الصحيح فى هذه اللحظة أيضا لا يجب أن يكون ما إذا كان على الثوار أو المنتمين للثورة فكريا وعاطفيا أن يدعموا مرشح القوة الانتهازية التى كانت فى يوم من الأيام فى خندق الثورة ثم ما لبثت أن أصبحت تتركه وتعود إليه حسب المصلحة، تبدل وجوهها وشرعيتها وفقا لمقتضيات اللحظة، فهى تارة الشرعية كل الشرعية بحكم صناديق الزجاج، وتارة أخرى جزء من شرعية ثورية تفرضها الميادين، والاهم من هذا وذاك، والأخطر من أساطير الجدة، أن قيادات هذه القوة لا تجد غضاضة فى المساومة بأى من الشرعيتين، أو بكليهما إذا لزم الأمر، مع النظام القائم الراغب فى الحفاظ على أركانه على أمل أن تتمكن هى من وراثة هذا النظام مع بعض الإصلاح..
وليس صحيحا أيضا أن نسأل الآن ما إذا كان علينا أن نقاطع الانتخابات أو نبطل أصواتنا فى موقف احتجاجى رافض لكل شروط اللعبة الانتخابية وكل نتائجها فلا العدو (مرشح الدولة البوليسية السلطوية) ولا الخصم (الذى يشفع له طهارة ونقاء الثوار من شبابه فيمنعون القلب من وضعه فى خانة العدو ليكتفى بكونه خصما سياسيا)، لا هذا ولا ذاك فى انتظار امتلاء الصناديق لتكتمل الشرعية ولا يبحث أى منهما بخطابه السطحى المستهلك عن مصداقية وسط الجماهير، انتخبته أم لن تنتخبه. وهذا ما جعل معركة المقاطعة أو إبطال الأصوات هنا معركة دعائية هدفها الأول هو إرضاء الضمير ولو بشكل جماعى والإعلان عن أن ما وصلنا إليه لم يكن باسم أى منا وأننا لم نشارك فيه ولن نسمح له أن يخدعنا.
●●●
إن الإطار الجامع لكل هذه الأسئلة هو البحث عن إجابة لسؤال (ما الذى علينا أن نفعله الآن) فى حين أن السؤال الذى يجب أن تطرحه القوى الثورية هو (ماذا بعد؟). ماذا بعد هذا المشهد الانتخابى الذى يسعى فى جولتيه الأولى والثانية لتعزيز وترسيخ قواعد النظام القديم؟ كيف يمكن للثورة أن تنظم صفوفها وتستمر كثورة دائمة إلى أن تتحقق مطالبها بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية؟
وهنا أيضا يصبح السؤال حول أطروحة المجلس الرئاسى أو الرئيس الانتقالى المنتخب التى طرحها الدكتور محمد البرادعى أسئلة هى الأخرى افتراضية ولا يمكن أو يجوز طرحها أصلا طالما أنها لا تخرج عن كونها محاولة للخروج من مأزق اللحظة الراهنة دون البحث عن كيفية استغلال هذه الأطروحات لتكون نواة لتنظيم الصفوف.. إن محاولة الوقوف أمام مسرحية الانتخابات ونتائجها فى هذا الوقت القصير هو أمر لا يخرج عن كونه شعارات للدعاية فقط.. فأى تغير جذرى يمكن أن يحدث فى هذا المشهد ويمكن أن يصب فى صالح الثورة يجب أن يكون نتاج تحرك اجتماعى جذرى غير قابل للتحقق بطبيعة الحال دون تنظيم للصفوف..
وعندما نتحدث هنا عن تنظيم الصفوف لا يجب أن نخلط بين هذا الهدف وبين ما ينادى به البعض من توحيد للصفوف، فالتنظيم يتضمن الاعتراف بالآخر وبهويته السياسية وبالاختلاف بين ما تطلبه كل قوة ثورية أو تسعى إليه على المدى المتوسط أو البعيد والاتفاق على مطالب محددة ترسم ملامح مرحلة انتقالية نضالية فى إطار المتفق عليه وهو ما يمكن تسميته ببرنامج الحد الأدنى.. أما توحيد الصفوف فهو يحمل فى طياته حالة من الحنين إلى الحركة الاحتجاجية التى مهدت لانطلاق الشرارة الأولى للثورة وأيام الاعتصام الأولى فى التحرير.. وعلى الرغم من أهمية هذه الوحدة فإنها لا تصلح لبناء حركة قوية منظمة تصلح للتغيير الحقيقى..
نوستالجيا التحرير تتضمن رغبة فى أن يخلع الجميع هويته السياسية والفكرية على أبواب الجبهة الموحدة ليذوب الجميع فى رحم وطن لكل منا تصور وحلم مختلف لما ينبغى أن يكون عليه.. ورغم أهمية الترفع فى هذه المرحلة عما قد يفرق الجبهة الثورية الموحدة وصفوفها المنظمة لكى تتمكن من التوحد تحت شعار ناظم وموقف وبرنامج مرحلى واضح فإن الحنين إلى أيام التحرير الأولى يحكم على أى عمل جبهوى بالفشل.
●●●
إن السؤال الصحيح فى هذه المرحلة هو: كيف يمكن للقوى الثورية أن تنظم صفوفها لاستكمال ثورتها؟ الإجابة عن هذا السؤال ليست صعبة إذا نظرنا فى الاتجاه الصحيح. فإذا كان الاتفاق على برنامج مرحلى هو المفتاح الأول لتنظيم الصفوف فإن الضمانة الأولى لنجاح أى جبهة ثورية موحدة هو محاولة الربط بين النضالات الصغيرة فى مواقع العمل والمؤسسات والمصانع، ضد الفساد وللمطالبة بالعدالة الاجتماعية والحق فى التنظيم، وبين المطالب السياسية الأوسع.. وكذلك الربط بين هذه النضالات بعضها البعض وخلق حالة من التضامن بينها وإظهار ما هو مشترك فيها وبالبناء عليه..
ففى الوقت الذى تحاول القوى الثورية أن تنظم صفوفها على مطالب ديمقراطية مرحلية تقوم الحركة الاجتماعية بعمل ذلك فعلا وتحقق نجاحات على الأرض سواء فى السويس أو فى نجع حمادى أو غيرها.. إن نقل الخبرات من وإلى مواقع النضال اليومى يصبح امرا ضروريا إذا ما كانت الحركة الثورية تبحث بالفعل عن قوى اجتماعية قادرة على أن تكون ورقة ضغط تفرض تغييرا جذريا فعليا. أما سؤال الانتخابات فلا يجب أن يتعدى كونه عنصرا للإجابة عن السؤال الأهم: ماذا بعد؟ وليس ماذا الآن؟