الغش فى الامتحانات وأزمة القانون فى مصر - مصطفى كامل السيد - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 11:21 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الغش فى الامتحانات وأزمة القانون فى مصر

نشر فى : الأحد 12 يونيو 2016 - 9:10 م | آخر تحديث : الأحد 12 يونيو 2016 - 9:10 م
مثلما يحدث كل عام، تحفل تقارير متابعة امتحان الثانوية العامة بأنباء الغش، والتى بلغت هذا العام آفاقا عالية ليس لها سابق، وهو استخدام شبكة المعلومات الدولية – إنترنت ــ فى تسريب امتحانين مقدما مع نماذج الإجابة، وتكرار ذلك بعد وقت قصير من بداية الامتحان، وتعددت التفسيرات لهذه الظاهرة من انهيار الأخلاق فى المجتمع، وتدهور المنظومة التعليمية، وضرورة تغيير نظام امتحان الثانوية العامة، وطبعا كان من الضرورى استحضار شبح الإخوان المسلمين، أو بعبارة أشمل «أهل الشر» باعتبارهم المسئولين عن هذه الظاهرة. معظم هذه التفسيرات ــ باستثناء حكاية الإخوان المسلمين وأهل الشر ــ لها وجاهتها، ولكن الخطير فى هذا الموضوع أنه يشير إلى آفة كبرى فى حياتنا فى جميع جوانبها، وننخرط فيها جميعا حكاما ومحكومين، ألا وهى الاستهتار بالقانون. القائمون بالغش والمتسترون عليه والمشجعون عليه كلهم يعرفون أنهم ينتهكون القانون الذى لا يسمح بالغش ويعاقب عليه، ومع ذلك لا يأبه هؤلاء بهذه الملاحظة، وطبعا سيتهمون من يثيرها بأنه ساذج، لا يفهم شيئا، أو ينصحونه بأن يلتزم هو أو هى بحكم القانون ويتركهم فى شأنهم.

***

المصريون جميعا حكاما ومحكومين يستهينون بالقانون. والأمثلة لا تعد ولا تحصى. ولنبدأ بسلوكنا كمواطنين. تأمل كيف نتجاهل قواعد المرور أو نتفاوض بشأنها مع جنود المرور. وعندما يتحول ضباط المرور أنفسهم إلى قيادة السيارات فهم يفعلون ما يعاقبون الجمهور عليه. أذكر أنى استوقفت سيارة كانت تنطلق فى الاتجاه المخالف، وانبريت كمواطن صالح أنبه قائدها أنه يخالف قواعد المرور، فصاح بى ومن أنت حتى تقول لى ذلك؟ فقلت له إنى أستاذ جامعة، وفوجئت برده على: «وأنا ضابط شرطة». تأمل أيضا التشوه البصرى الذى أصبح سمة ملازمة لمبانينا فى العاصمة وغيرها من عدم التزام بالارتفاعات المقررة، ولا بتوحيد ألوان الواجهات حتى فى نفس المنزل، وطبعا نحن نعتبر أن ارتفاع المنزل أو لون واجهة كل شقة أمور خاصة لا تعنى سوى من يقطنها، وذلك رغم أن هناك قوانين خاصة بارتفاعات المبانى. وأخيرا هناك قوانين الضرائب، والتى لا يخضع لها فى مصر سوى العاملين بالحكومة والهيئات العامة المغلوبين على أمرهم، إذ تقتطع منهم الضرائب عند المنبع قبل أن يتلقوا مرتباتهم أو أجورهم. أما سلوك حكامنا، والذى يفترض أن يكون القدوة فحدث عنه ولا حرج. ولنبدأ بالدستور أعلى القوانين، ولعل القراء يذكرون أن الرئيس وصفه بأنه قد صيغ بنوايا طيبة، وأن الدول لا تدار بنوايا طيبة. وتحمس أنصار الرئيس فى مجلس النواب حتى من قبل أن يبدأ المجلس جلساته، وتكررت أحاديثهم عن عزمهم على تعديل الدستور الذى يضيق فى رأيهم من سلطات رئيس الجمهورية. توقف هذا الحديث عن تعديل الدستور، فمن الواضح أن رئيس الجمهورية يمارس كل ما يريد من السلطات سواء توافق ذلك مع الدستور أو لم يتفق. الرئيس مثلا لم يصرح بمقدار ثروته رغم مرور عامين على توليه منصبه، وكان يفترض أن يصرح بذلك عند بداية رئاسته وفى ختام كل عام من هذه الرئاسة (المادة 145)، ورغم أن الدستور ذكر فى مادتين على الأقل أن القاهرة هى عاصمة الدولة وهى مقر حكومتها ومجلس نوابها (المادتان 222، 114) ومع ذلك يخرج علينا وزير الإسكان كل يوم تقريبا بأنباء الاستعدادات لنقل الوزارات ومجلس النواب لما يسمى بالعاصمة الإدارية خلال عامين دون أن يحظى قرار إنشاء هذه العاصمة بأى مناقشة حتى من جانب مجلس النواب الذى أكد الدستور أنه يعقد جلساته فى القاهرة. قد نلتمس العذر للحكومة فى عدم وفائها بالنسبة التى حددها الدستور لموازنات التعليم والصحة والبحث العلمى بدعوى صعوبة الوصول إلى هذه النسب عبر فترة قصيرة من بدء تطبيق الدستور وبالعجز الكبير فى موازنة الدولة.

***

ليس هناك شك إذن فى أن احترام الدستور والقانون ليس من السمات الظاهرة لشخصيتنا القومية، ولا يستطيع أحد أن يدعى ذلك ومشاهد الحياة اليومية خير دليل على بطلان مثل هذا الادعاء. ولكن ما هو السبب فى ذلك؟ وهل يمكن علاج هذا الأمر خصوصا وبعض الأصوات تتشدق بأننا نحيا فى ظل دولة القانون؟ فلنقل إن ذلك هو أمل مشروع، ولكن كيف نصل إليه؟ السبب فى أننا لا نحترم القانون هو أننا مازلنا لم نغادر المجتمع التقليدى الذى يسكن نفوسنا رغم كل مظاهر الحداثة السطحية حولنا فى شكل بعض أحياء المدن الكبرى، وطابع المبانى وملابسنا الرسمية وأدوات انتقالنا إلخ، ولكننا نتحرك وسط مظاهر الحداثة هذه بقيمنا التقليدية، وليس بقواعد القانون الحديث. من هذه القيم «أنا وأخويا على ابن عمى، وأنا وابن عمى على الغريب»، و«اللى مالوش خير فى قرايبه مالوش خير فى حد»، وهذا إنكار لمبدأ المواطنة والمساواة فى الحقوق وتجاهل لمبدأ الكفاءة الذى لا تقوم بدونه دولة حديثة. ولهذا تشيع الواسطة بيننا فى كل ما نسعى إليه. طبعا سوف يقفز على الفور من ينكر أن الواسطة هى الطريق للتعيين فى الوظائف المرموقة التى تعد بدخل مرتفع نسبيا أو هى طريق لمناصب السلطة. أقول وأمرى إلى الله أن الاعتقاد الشائع هو أن هناك وظائف محجوزة «لأبناء الناس» وقد صرح بذلك علنا وزيران سابقان ــ تخيلوا معى ــ فى وزارة تسمى «وزارة العدل»، وعندما يكون تولى وظيفة ما رهنا بالنجاح فى المقابلة الشخصية، فالاعتقاد العام أن الواسطة المناسبة هى شرط النجاح فى هذه المقابلة. ولعل قصة انتحار عبدالحميد شتا وكان واحدا من طلبتى الموهوبين الذى قيل له إنه لن يعين فى السلك التجارى بسبب أصوله الفقيرة لخير دليل على ذلك. أصبحت الواسطة طريقا شعبيا لتولى الوظائف الحكومية من خلال توريثها للأبناء، وليس فى سلك القضاء وحده. طبعا كل هذه الممارسات هى منافية للقانون ولكننا نقبلها لأن روح القانون الحديث الذى يتألف من قواعد يفترض أنها موضوعية ومجردة وتهدف لتحقيق الصالح العام لم تتمكن منا بعد، ومن ثم لم يعد غالبية المواطنين المصريين يبالون بأن القانون يحظر الغش، أو يعتبر الكفاءة وحدها هى معيار تولى الوظائف العامة، أو أنه يلزمنا باتباع مسلك معين فى قيادة السيارة أو يلزمنا بارتفاعات معينة فى المبانى.

***

ولكن لماذا أخفقنا فى أن نستوعب قيم الحداثة ومنها احترام القانون وقد قطعنا قرنين من الزمان منذ بدأت الدولة الحديثة فى مصر على يد محمد على؟ لقد شغل هذا السؤال علماء الاجتماع والسياسة ردحا من الزمن ومنهم أليكس إنكلز الذى طرح عددا من سمات الشخصية الحديثة مثل الاعتقاد فى قيمة العلم وإدراك أهمية الوقت والتخطيط المسبق والسعى لمعرفة ما يدور فى العالم والبعد عن القيم التقليدية، ولكن المهم فى تحليله هو تحديد المؤسسات التى تسهم فى اكتساب هذه القيم. وإجابته عن هذا السؤال تبين عمق أزمة الحداثة بما فى ذلك احترام القانون فى مجتمعنا لأن هذه المؤسسات هى فى رأيه المدرسة والمصنع والمؤسسات الكبيرة بما فى ذلك المؤسسات الحكومية.

للأسف لا تؤدى أى من هذه المؤسسات دورها المأمول فى مجتمعنا. رغم تغير اسم وزارة المعارف العمومية إلى وزارة التربية والتعليم فى أعقاب ثورة 1952. لم تعد مدارسنا توفر لا تعليما ولا تربية، فنظامنا التعليمى هو الأسوأ فى العالم لا تقل عنه سوء سوى دولة غينيا. مع اكتظاظ الفصول فى المدارس الحكومية بأعداد هائلة من الطلبة تتجاوز أحيانا السبعين فى بعض المحافظات ومع المستوى المتدنى لمرتبات المدرسين وسوء إعداد المبانى وتفضيل الأهالى للدروس الخصوصية ومراكز التعليم الخاصة لا يمكن للمدرسة أن تؤدى هذا الدور فى نشر قيم الحداثة، ولا تقوم به المصانع التى يهرب منها الشباب مفضلين العمل على مركبات التوك التوك، وذلك بالإضافة إلى تراجع معدلات نمو الصناعة وفقا لتقارير وزارة التخطيط الأخيرة. أما مؤسساتنا الحكومية فهى فى حد ذاتها بأمس الحاجة للإصلاح الذى تعالت الصيحات بضرورته منذ ثلاثينيات القرن الماضى، ولكن أخفقت كل هذه الجهود لسببين مترابطين: فقدان الإرادة السياسية ومقاومة الإصلاح من داخل هذه الأجهزة ذاتها.

كنت على وشك القول إن نقطة البداية فى التمسك بقيم الحداثة واحترام القانون عموما والذى يحظر الغش هو بأن تضرب النخبة الحاكمة المثل، ولكن قرأت خبر اعتذار رئيس لجنة الثانوية العامة فى البدارى عن الإشراف على اللجنة التى شهدت تحويل 120 طالبا من أبناء ضباط الشرطة والقضاء والجيش إليها قبل الامتحان بفترة قصيرة، وكان سبب اعتذاره رفضه لما توقع أن تكون اللجنة مسرحا لغش جماعى لا يقدر على وقفه.
سأكتب للبرفيسور إنكلز أقول له أن الطريق للحداثة واحترام القانون يمر بالنخبة الحاكمة، فهى العقدة وهى الحل.
مصطفى كامل السيد أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة
التعليقات