الأنماط الحياتية القابعة وراء الأشخاص - علي محمد فخرو - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 12:46 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الأنماط الحياتية القابعة وراء الأشخاص

نشر فى : الأربعاء 12 ديسمبر 2018 - 11:35 م | آخر تحديث : الأربعاء 12 ديسمبر 2018 - 11:35 م

أبدا، يعيد التاريخ نفسه المرة تلو المرة فى بلاد العرب. مما يتكرر فى مسيرة تاريخنا الحديث هى الجهة التى يتجه إليها إصبع الاتهام واللوم فى حياتنا العامة كسبب شبه وحيد لكل مشاكلنا الحياتية المجتمعية.
إبان فترة الاستعمار كان لدينا نظام إقطاعى استغلالى أفقر الفلاحين من خلال نظامى السخرة وشبه العبودية. وكانت لدينا أنظمة حكم محلية، قبلية أو مدنية، خاضعة لسلطة الاستعمار وتأتمر بأمرها، تمارس شتى أنواع الاستغلال والتمييز والفساد.
لكن إبان تلك الفترة كان إصبع الاتهام يتجه إلى سلطات الاستعمار كسبب لظواهر الفقر والمرض والجهل وغياب الحريات والعدالة والكرامة الإنسانية. كانت تلك ممارسة انتقائية تلوم جهة واحدة خارجية وتنسى باقى الجهات الداخلية.
وعندما خرج الاستعمار وحكمت أرض العرب أنواع من القوى، عسكرية وقبلية وتاريخية دينية وحزبية وخليط من هذا وذاك، اتجه إصبع الإتهام إلى العسكر الذين انقلبوا على الشرعية ولا يفقهون شيئا فى السياسة، أو القبليين الذين يرجعون عجلة التاريخ إلى الوراء ويحاربون الحداثة، أو رجال الدين السلفيين المتزمتين، أو الليبراليين المتغربين. دائما كانت هناك جهة ما يقع اللوم الأكبر عليها.
لكن من أكثر اللوم المتخيل لوم القضية الفلسطينية. فالانشغال بها والإعداد لمقارعة مسببيها من الصهاينة والاستعماريين كان على حساب التنمية والتقدم، خصوصا عندما طرح البعض شعار: «لا يعلو صوت على صوت المعركة». وها إننا، فى أيامنا الحالية، نقرأ لبعض الكتبة المنقلبين على تاريخهم النضالى، أن حل إشكالياتنا التنموية والحضارية سيبدأ حالما نطبع كل العلاقات العربية مع الكيان الصهيونى فى فلسطين ونقبل به كجزء من «العالم العربي» أو «الشرق الأوسط الكبير»، إصبع الاتهام فى هذه المرة يتجه إلى روابط العروبة القومية التى تلزمنا بالوقوف إلى جانب الشعب العربى الفلسطينى الشقيق.
وأخيرا، بدأ كتُّاب تغطية الفساد وتبرير حياة اللا مساواة والظلم والقهر العربية بتوجيه إصبع الاتهام إلى وجود الجهاد التكفيرى العنفى الذى يعطل التنمية وحل مشاكل التقدم الحضارى.
***
هى مسيرة طويلة، تتغير عناوينها وأسماؤها، ولكنها دوما لا تشير إلى مصدر الخلل الأساسى الذى ينتج كل تلك القوى أو الظواهر أو المطبات فى حياة مجتمعات العرب ويجعلها قادرة على إعاقة التنمية للخروج من حالة التخلف العربى التاريخى الذى ما زلنا نعيشه أو ندور كالهائمين حول كعبته.
أساس المشكلة يكمن فى أنماط العيش التى تحياها مجتمعات العرب وتتحكم فى النتائج والمسيرة والمنهج.
فنمط الحياة السياسية، القائمة على الغلبة وغياب الشرعية الديمقراطية التى، هى بدورها، تحكمها الشفافية والحكم الرشيد وإشراك المجتمع والمساءلة، لا يمكن إلا أن تغطى على قلة الكفاءة والفساد والسرقة، وبالتالى الفقر وترهل الخدمات الاجتماعية واللا مساواة. أيا تكن مصادر السلطة وأنواعها فإنها فى أجواء ومحددات ذلك النمط من الحياة السياسية، لابد أن تقود إلى ذلك البؤس الإنسانى.
الشىء نفسه ينطبق على نمط المجتمعات الثقافية. فعندما يسمح بأن ينحبس فى إملاءات تراثه الماضى، ويتشكك فى كل ما هو حداثى عصرى، ويعتبر العقلانية عدوة للدين، ويقبل بالمقولة الفقهية التى لا تجيز الخروج على ولاة الأمر بسبب أخطاء دنيوية يرتكبونها اتقاء لفتنة متوهمة، ويخضع لعلاقات أبوية تسلطية فى تسيير أمور المجتمع التى تمس معيشته وحريته وحقوقه الإنسانية عندما توجد هكذا ثقافة ينقلب الإنسان إلى فرد اتكالى غير مبدع وغير منتج.
هنا أيضا اللوم الأساسى يجب أن يوجه إلى هكذا ثقافة. نقدها وتجديدها يؤديان إلى حل القائم. أما التركيز على حامل تلك الثقافة وعلى إزاحته فإنه يؤدى إلى حلول مؤقتة.
الأمر نفسه ينطبق على نمط الحياة الاجتماعية. فوجود نمط الحياة الاجتماعية القائم على إملاءات العلاقات القبلية وعلى بلادات الصراعات الطائفية هى الكامنة وراء القناع، وهى التى يجب أن تحارب وتنقد وتعدل كل جوانبها السلبية.
***
إزاحة الأفراد أو الأنظمة مطلوبة بالطبع، عندما يصر أصحابها على تسيير الأمور بتلك الأنواع من أنماط الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. لكن هذا لن يكفى قط، إذ ما إن يسقط أو يزاح طاغية حتى يحل محلة طاغية آخر ليسير الأمور بنفس الأنماط الحياتية.
لننظر إلى ما يجرى فى فرنسا حاليا من أحداث. هدف قادة الحراك ليس إسقاط الرئيس الفرنسى، فبقاؤه وخروجه مرهونان بالانتخابات. ما يريدون إزاحته هو ذلك الفكر الرأسمالى النيوليبرالى المجنون الذى قاد إلى شقائهم وبؤسهم. المشكلة فى ذلك الفكر الثقافى الاقتصادى وليست وجود هذا الشخص أو ذاك.
فى بلاد العرب، عبر سبع سنوات من الحراكات الجماهيرية، حضر الأشخاص والنظم كأهداف للغضب والتغيير، وغاب إلى أبعد الحدود أنماط الحياة العربية المتخلفة التى ترسَّخت عبر العصور وأصبحت ترفض الانزياح من درب الإنسان العربى.
المطلوب هو إعطاء اهتمام أكبر لنقد أنماط الحياة العربية وتجديدها، وذلك من أجل تجاوزها. هذه ملاحظة لشباب الأمة العربية، ليأخذوها بعين الاعتبار، وهم يخططون لربيع عربى قادم.

علي محمد فخرو  شغل العديد من المناصب ومنها منصبي وزير الصحة بمملكة البحرين في الفترة من 1971 _ 1982، ووزير التربية والتعليم في الفترة من 1982 _ 1995. وأيضا سفير لمملكة البحرين في فرنسا، بلجيكا، اسبانيا، وسويسرا، ولدي اليونسكو. ورئيس جمعية الهلال الأحمر البحريني سابقا، وعضو سابق المكتب التنفيذي لمجلس وزراء الصحة العرب، وعضو سابق للمكتب التنفيذي لمنظمة الصحة العالمية، وعضو مجلس أمناء مؤسسة دراسات الوحدة العربية، وعضو مجلس أمناء مؤسسة دراسات فلسطينية. وعضو مجلس إدارة جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبييشغل حاليا عضو اللجنة الاستشارية للشرق الأوسط بالبنك الدولي، وعضو في لجنة الخبراء لليونسكو حول التربية للجميع، عضو في مجلس أمناء الجامعة العربية المفتوحة، ورئيس مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث.
التعليقات