إبداع فى تفجير الثورات واستمرارها - علي محمد فخرو - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 1:52 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

إبداع فى تفجير الثورات واستمرارها

نشر فى : الخميس 13 فبراير 2014 - 10:25 ص | آخر تحديث : الخميس 13 فبراير 2014 - 10:25 ص

ما لم يعِ مواطنو المجتمعات العربية، الرّاغبون والمناضلون من أجل الانتقال من أنظمة الاستبداد إلى أنظمة ديمقراطية، ما لم يعوا أهمية وحساسية وتعقيدات مرحلة الانتقال تلك فإنّ العديد من ثورات وحراكات الربيع العربى إمّا ستدخل نفسها فى فوضى مأساوية دامية تدمر المجتمع أو ستنتهى إلى التَّيهان والضياع وبالتالى الفشل. ولا يحتاج الإنسان إلى كثير من الجهد ليرى كلا المشهدين ماثلين حاليا بقوة فى أرجاء أرض العرب.

أمثلة الانتقال السّلمى العقلانى المتسامح المؤمن بالأخذ والعطاء لتجنُّب الخراب والدّماء ماثلة للاستفادة من أساليبها وتطبيقاتها. ففى إيرلندا الشمالية قبلت التضحية بمبدأ الأغلبية الديمقراطية من أجل استتباب السلام بين الطائفتين المتناحرتين. وفى أفريقيا الجنوبية قبل المواطنون السُّود تأجيل مبدأ صوت واحد لكل مواطن من أجل الخروج من صراع عرقى مقيت وعدم هروب أموال البيض الاستثمارية إلى الخارج وأخذ بمبدأ اعتراف الظالمين السّابقين بديلا عن محاكمتهم المليئة بالأخطار. وفى إسبانيا وتشيلى قدّمت سلامة كيان الجمهوريتين على مبدأ الثأر من الظالمين السّابقين.

تفاصيل مناقشات وتبريرات ونتائج تلك المساومات من أجل فترة انتقالية سلمية هادئة منشورة لمن يريد قراءتها. لكن من المهم معرفة أن تلك التنازلات والحلول الوسط لم تعن التنازل فى المستقبل المنظور عن الرجوع إلى الأسس الديمقراطية المعروفة وتطبيقها فى حينها. لقد كانت تضحيات وتنازلات مؤقّتة من أجل فترة انتقالية متسامحة متوازنة غير دموية وغير عبثية.

•••

على ضوء تلك التجارب وإعجابا بمنطلقاتها العقلانية المتوازنة المدركة لأهمية الأولويات لا يستطيع الإنسان إلا أن يحيى ويرحب بالتجربة التونسية العربية وهى تبدع مختلف الأساليب لنقل القطر التونسى من جحيم الاستبداد السابق إلى رحب الديمقراطية فى المستقبل المنظور. لقد فضّل شعب تونس وساسته ومؤسساته المدنية، إبّان الفترة الانتقالية سيادة مبادئ السَّلم الأهلى وتوازن المصالح والتعامل العقلانى مع إشكالات الواقع والتأجيل المؤقت لبعض المبادئ الديمقراطية، وذلك من أجل الانتقال السَّلمى لثورتهم المبهرة المباركة إلى برَّ الأمان.

كما لا يستطيع الإنسان إلا أن يأسف، بألم وحيرة وإشفاق، لوقوع البعض الآخر فى شباك مشاعر الثأر والانتقام الفجَّة وأساليب تهميش واستئصال هذه الجماعة أو تلك. والنتيجة هى تلك المشاهد العبثية الطفولية الدَّامية المدّمرة للحاضر والمهدّدة للمستقبل، التى نشاهدها يوميا فى هذا القطر العربى أو ذاك.

لماذا يختلف المشهد التونسى، على الأقل فى الحاضر، عن بقية المشاهد؟ هذا سؤال يحتاج إلى إجابة غير متعجلّة ومدروسة بتأنٍّ وموضوعية. وكما أصبحت إيرلندا الشمالية وافريقيا الجنوبية وإسبانيا وتشيلى مصادر دروس وعبر فإن تونس مرشّحة لأن تكون مثالا عربيا لأمة العرب وللعالم.

فى اعتقادى أننا سنكتشف جوانب إيجابية ودروسا مفيدة فى تحليل المزاج السياسى التونسى، فى نضج مؤسسات المجتمع المدنى التى قامت فى المجتمع التونسى بالرغم من الاحتلال الاستعمارى والاستبداد المحلّى، فى تأثيرات الجاليات التونسية القاطنة بلدان أوروبا ذات الأمزجة الديمقراطية على المواطن التونسى وفضائه العام، فى مكانة المرأة التونسية فى الفضاء العام، وقد يكون فى الأنظمة التعليمية والنقابية والإعلامية والفقهية والفكرية، وغيرها، المهم أننا أمام حالة عربية تستحق أن تدرس، والمهم ألا يمنعنا صغر حجم تونس الجغرافى والسكانى أو محدودية تأثيرها فى المجال القومى أو هدوء جبهتها الإعلامية من الإقدام على تلك الدراسة وتقديمها كأحد الصور الاجتماعية العربية المبهرة. وهذا لن يبخس الآخرين ولن يقلّل من مكانتهم فى حقول حياتية كثيرة ولن ينسينا الإنجازات الرائعة فى قيادة هذه الأمة التى حقّقتها بعض الأقطار العربية الأخرى عبر التاريخ.

•••

من الضرورى التأكيد على أن التعامل مع الفترة الانتقالية بتلك الأشكال المتنوعة، من أجل الحفاظ على السلم الأهلى أو على كيان الدولة أو على تجنُب الدخول فى جحيم الثارات والانتقامات المتبادلة أو على تجنُب حدوث أضرار اقتصادية جسيمة، أن ذلك التعامل لا يعنى على الإطلاق التنازل عن أهداف الثورات والحراكات الحقوقية والديمقراطية والمعيشية، فتلك أهداف مقدّسة يجب أن تتحُّقق كاملة حين وصول الثورات والحراكات إلى برّ الأمان. وهذا فى اعتقادى ما تحاول أن تفعله ثورة تونس المباركة.

لقد ضربت تونس المثل المبهر فى تفجير ثورات الربيع العربى وفى ابتداع أسلوب معقول لانتقال الثورات إلى برّ الأمان. تحيَّة إلى شعب تونس الذى خدم ويخدم ربيع أمته العربية بأساليب حضارية إنسانية.

علي محمد فخرو  شغل العديد من المناصب ومنها منصبي وزير الصحة بمملكة البحرين في الفترة من 1971 _ 1982، ووزير التربية والتعليم في الفترة من 1982 _ 1995. وأيضا سفير لمملكة البحرين في فرنسا، بلجيكا، اسبانيا، وسويسرا، ولدي اليونسكو. ورئيس جمعية الهلال الأحمر البحريني سابقا، وعضو سابق المكتب التنفيذي لمجلس وزراء الصحة العرب، وعضو سابق للمكتب التنفيذي لمنظمة الصحة العالمية، وعضو مجلس أمناء مؤسسة دراسات الوحدة العربية، وعضو مجلس أمناء مؤسسة دراسات فلسطينية. وعضو مجلس إدارة جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبييشغل حاليا عضو اللجنة الاستشارية للشرق الأوسط بالبنك الدولي، وعضو في لجنة الخبراء لليونسكو حول التربية للجميع، عضو في مجلس أمناء الجامعة العربية المفتوحة، ورئيس مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث.
التعليقات