متزعلش - رزان محمود - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 7:49 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

متزعلش

نشر فى : الأحد 13 أبريل 2014 - 1:35 م | آخر تحديث : الأحد 13 أبريل 2014 - 1:35 م

"لقد نزل علينا الخبر كالصاعقة" عبارة مكررة لدرجة الابتذال، كليشيه مُعاد حتى أصبح مسخًا، لكن الحقيقة، أن "الصاعقة" التي تحلّ بنا عقب سماع نبأ وقعه هائل، كمقتل صاحب أو حبس قريب، واقعية جدًّا ومحسوسة لدرجة اللمس بالأصابع، فالألم في منتصف الصدر ليس من اختراعنا، وفقدان النطق أو الضحك الهيستيري للحظات، لم يعد بإمكاننا منعهما، حتى اللامبالاة، والنظرة الميتة، كلها من تبعات "الصاعقة".

الحقيقة أننا في بلد تتدهور أحواله بسرعة كبيرة كتدحرج كرة من الثلج على تلٍّ منحدر بلا عوائق، في كل مرة، مع كل حبس، مع كل قتيل انحبست ذكراه في أذهاننا تطالب بحقه، وتعاتبنا إن نسيناه وانشغلنا بأحوالنا اليومية، أقول في كل مرة نحسب سُذجًا أن الكرة وصلت لمداها وأنها ستنفجر الآن، لكن الواقع يقول لا، وأنها ما زالت مستمرة، والأسوأ لم يأتِ بعد.

نسمع الخبر، صديق لنا انتزعت روحه عنوة عن جسده فصعدت إلى أهل السماء مؤتنسة وهاربة من أهل الأرض، فنسقط جالسين، أو على رُكبنا، ألم ممضّ لوهلة، ثم إفاقة لتحضير ترتيبات الجنازة، من لا يزالون واقفين على أرجلهم سيذهبون للمشرحة، وهي غالبًا مكان كئيب جدرانه رمادية أو صفراء قاتمة، "ميتة".. سيحملونه على الأكتاف، وربما يطوفون في الشوارع متحدين قانون حظر التظاهر، راغبين من دواخلهم في كمية رأفة ولو ضئيلة، في قلوب دببة الأمن المركزي تسمح لهم بالعبور حتى المدافن، سنهتف بعلو الصوت، بحرقة كبيرة، بغضب أكبر، راغبين في تحطيم أي شيء تسبب في القتل، آملين في اشتباك، لكن مع ضمان النصر لنا، بعضنا، يشبهني مثلًا، نجلس ذاهلين على أسرّتنا نتأمل تغيّر النور والظلّ في الغرف مفتوحة النوافذ، ثم حلول الظلام، وانعكاس أنوار الشارع على السقف والجدران، سنغبط من ذهبوا للمسيرة الجنائزية؛ لأنهم عبّروا بأصوات عالية عن التياعهم وألمهم، بينما نحن أكلت الأسماك الذهبية الخارجة من عوالم استديو جِبلي ألسنتنا، راغبة في الحديث والدفاع عنّا، بدلًا منا.

مع طلوع صباح جديد علينا جميعًا، سنتوجه لممارسة حياتنا اليومية العادية، هناك نصيحة كنت أقولها بغباء لأصدقائي بعدما قُتل أحدنا: انغمس في العادية، فأجابني أن "العادية قلة أدب". لم أدرك صحة ما قاله حتى حاولته أنا نفسي، يجب أن نترك للحزن وقته، أن نبكي، لا وقت للغد، لا تأجيل لما بعد، لا كبت للبكاء، لا تظاهر بأن كل شيء كما نريده أن يكون، في الواقع، لا شيء كما نريد: لا عمل، لا وطن، لا أهل، لا طرق، لا تنفيس، لا تظاهر، لا سفر، لا عطاء كما يجب أن يكون، أين الحقيقة في عالم من الزيف؟ أين الحياة الطبيعية؟ متى ذهبت عنا؟ متى أصبح غير العادي مبتذلًا من انتشاره في نشرات الأخبار وعلى شاشات بخلفية بيضاء، وفي مائة وأربعين حرفًا؟

الشاهد: اترك نفسك للحزن، ستعرف هي متى ينبغي أن "تجمع شتات ذاتك" وتتجاوزه، لكن في تلك الفترة، والتي حتمًا ستكون عصيبة، إلا لو وصلت لنوع من الحزن الهادئ المستمر، الذي قد يتنحّى جانبًا لابتسامة مبتسرة أو ضحكة فجائية على موقف أو طُرفة رواها صديق تحمل له في قلبك الكثير.. أقول في تلك الفترة، حاول ألا تنسى نفسك، كُل جيدًا ونم جيدًا، اعتن بجسدك الخارجي في محاولة للتصالح معك داخليًّا. عبّر عن ألمك، وهذا أمر مهم جدًّا: لا تكبت مشاعرك أبدًا. تكلّم لصديق تعرف أنه لن يضجر من تكرارك جملًا مثل: "أنا نفسي أشوفه مرة أخيرة، مودعتوش كويس" أو "لو كان سِمع كلامي بس.."، أو اكتب رسالة طويلة للشهيد، قل له كل ما أردت، حتى لو رغبت في شتمه، لن يضرّه ذلك. انضم لمجموعة دعم، لو لم تجد اخلق واحدة، فحولك كثيرون ملتاعون لسعهم الألم، اجمعهم، اقرأ عن شروط تكوين واستمرارية مجموعات الدعم، وابدأ التجمّعات، ابكِ كثيرًا، فالبكاء رحمة، شرط أن تتحدث بعدها لشخص يستطيع أن يبعد عنك أحاسيس الوحدة الضارية أو الوجع العنيف، ولو بالكلام عبر الهاتف، وأخيرًا، لن يضرّك أبدًا أن تسعى للحصول على مساعدة من محترفين، كطبيب نفسيّ أو معالج، يمكنه أن يساعدك على التعرّف على المشاعر الجديدة التي تتكون بداخلك، والأفكار التي تفاجئك أحيانًا، وأن يوجّهك في رحلة التعامل معها والتواكب مع ذاتك الجديدة التي شكّلتها الصدمة والحزن، صدقني، سيكون ذلك أفضل بكثير.

في نهاية الأمر، نصل لمرحلة من التسليم، ما حدث قد حدث، وسيتكرر طالما أننا في بلد موصومة باللاعقلانية واللامنطقية، سنحمد الله – لو ما زلنا نؤمن بوجوده، متساميًا عن كل هذا العفن الطاغي – على كوننا أحياء محتفظين بما تبقى من عقولنا وأجسادنا، نتساند على أذرع أصدقاء لنا مكروبين أيضًا، ونحاول ألا نخرج من هذه الحياة قبل أن تنصلح قلوبنا، ونفهم إجابة سؤال: "طب ليه؟".. وسط كل ذلك، حاول إنك متزعلش.. متزعلش.

التعليقات