رواية «بليغ».. تنويعات على مقام العشق! - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الثلاثاء 16 أبريل 2024 12:52 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

رواية «بليغ».. تنويعات على مقام العشق!

نشر فى : الخميس 13 أبريل 2017 - 9:35 م | آخر تحديث : الخميس 13 أبريل 2017 - 9:35 م
أتابع فى إعجاب الروائى طلال فيصل، فى مشروعه الطموح لتناول سردى مختلف لشخصيات مهمة ومؤثرة، لا يسرد حياتهم معتمدا على الوقائع المنشورة، ولكنه يعيد تناولهم من جديد، ويقدمهم كما يراهم هو.

فى البدء كانت روايته «سرور» عن الشاعر الراحل نجيب سرور، محاولة لاختبار آخر حدود الفن، وأول حدود الجنون، أو الاضطراب النفسى، وهذه روايته الجديدة «بليغ» الصادرة عن دار الشروق، تحاول أن تختبر العشق كهوس مزمن لا شفاء منه، ولا مهرب من سطوته، ولعل الموسيقى والكتابة فى هذه الرواية، ليست إلا من تجليات حالة العشق تلك.
هذا هو المدخل إلى بليغ حمدى الفنان الفذ: موسيقار عاشق، وهذا هو المدخل لشخصية طلال فيصل كبطل لروايته: كاتب عاشق، ولولا مشكلة فنية واضحة فى السرد، لكنا بالفعل أمام رواية باذخة الإتقان، ولكنها تظل، مع ذلك، من أهم روايات 2017.
ليست مشكلة الرواية فى ظهور مؤلفها كبطل باسمه، ولا فى تقاطع واقع بطلها مع حياة مؤلفها، فما يعنينا دوما ليس مصدر مادة الفن، ولكن الطريقة التى تحولت بها هذه المادة إلى فن، وكيف صنعت قانونها وعالمها وجمالياتها المستقلة حتى عن أصلها الواقعى.
أما نسبة الواقع والخيال فهى مقادير تخص الروائى، ولا أظن أى روائى أو فنان يعرف بالضبط النسبة المئوية لما يأخذ أو لما يترك من الواقع أو الخيال، وإلا صرنا أمام معادلة رياضية أو كيميائية، ولا أعتقد أبدا أن الكاتب أو الفنان يعرف بالضبط كم لترا سكبها من حياته وتجاربه، وهو يرتدى أقنعة شخصياته ويتمثلها، وفى كل الأحوال، فإن الأهم هو صورة العمل الفنى النهائى، بل إن تقاطع السرد مع واقع الكاتب، يجعله أمام مسئولية أكبر، بأن ينفصل قليلا عن ذاته ليشكل ويلون ويبنى، وهى مهمة شاقة وصعبة.
طلال فيصل الشخصية الروائية، والتى تنافس بليغ حمدى بطولة الرواية، أصبحت منذ اللحظة التى أدخلها المؤلف عالم الرواية «شخصية فنية»، نجاحها أو فشلها مرتبط بقانون الرواية وعالمها وسؤالها، والحكاية بأكملها فى شخوصها الثلاثة طلال وبليغ، ثم سليمان العطار، عاشق بليغ وموسيقاه ودارس الأدب المغربى المقيم فى باريس، ليست إلا عن داء العشق المزمن، وتجلياته فى الموسيقى والأدب (شعرا ونثرا).
متتالية تبدأ بعشق بليغ لوردة فى نهاية الخمسينيات، ثم زواجهما وطلاقهما فى الثمانينيات، ويكملها سليمان العطار بقصة عشق لفتاة فرنسية فى منتصف الثمانينيات، ثم نصل إلى حكاية حب طلال دارس الحقوق، والصحفى، والناشر، مع مارييل الفرنسية العاملة فى المركز الفرنسى بالقاهرة، وهى حكاية تدور فى معظمها على خلفية أحداث ثورة يناير وسقوط مبارك، وصولا إلى تنحية محمد مرسى عن الحكم.
هذا هو الترتيب الزمنى للحكايات، التى يجمع بينها الفشل العاطفى، والتى تركت فى قلب بليغ وسليمان وطلال جراحا لا تلتئم، ويجمع بينها أيضا أن التجربة تحاول أن تخرج دوما فى شكل موسيقى وغناء (مع بليغ)، وكتابة (مع سليمان وطلال).
ورغم أن طلال وسليمان يعشقان بليغ، ويؤمنان بعبقريته، ويحللان هذه العبقرية، فإن ما يجمعهما به أعمق من هذا الإعجاب، إنه مأزق العشق، الذى لا خلاص منه، وأغنيات بليغ صوتهما فى التعبير عنه، طلال بالذات يظن أن حصوله على منحة لكتابة رواية بليغ، سيجعله ينسى حكايته مع مارييل، ولكنه سيكتشف العاشق وراء الموسيقار العبقرى، وسيسمع من سليمان أبياتا للشعراء الكبار الذين مسهم جنون العشق، فكأنه هرب إلى بليغ، فوجده يتألم ويبعث رسائل عشقه إلى حبيبته من خلال أغنياته، وهرب إلى سليمان، فاكتشف أن طابور مهاويس العشق أطول مما يتخيل أحد.
هنا فكرة لامعة حقا تقدم تنويعات على مقام العشق، وتجمع بين هوس العشق، وعبقرية الفنان فى حزمة واحدة، حيث لا يمكن فهم الحب، ولا فهم العبقرية، يستخدم المؤلف تعبير«الصدفة» فى وصف عبقرية بليغ، حيث يحلم الطفل منذ صباه بأن يكون «مزيكاتيا»، ثم تتفجر موهبته منذ خطواته الأولى، الصدفة أيضا ستكون سببا فى لقاء طلال بمارييل فى ظروف اضطراب وتحول سياسى فى مصر، أبعد ما تكون عن فكرة الحب، وستقرب بينهما أحداث الثورة، وستكون الصدفة سببا فى لقاء سليمان بفتاته الفرنسية إيما دوران، فى الرواية تبدو العبقرية، ويبدو الحب، من ألغاز الحياة التى لا يمكن تفسيرها، يمكننا فقط أن نصف تجلياتها.
هذه نقطة قوة الرواية الكبرى، ولكن بناءها اضطرب فمال أكثر لصالح حكاية طلال، على حساب بليغ، الذى تحمل الرواية اسمه، وعلى حساب سليمان، الذى يصفه صوت طلال السارد بأنه «لا قيمة فعلية له فى الرواية».
أصبحنا بصفة أساسية أمام حكاية طلال لا بليغ، وبدلا من أن تتداخل الحكايات ترجمة لتداخل فعلى، على الأقل بين بليغ وطلال، فإن كل حكاية انفردت بصوتها، والمحاولة الخاصة بصوت طلال، وهو يحكى لطبيبه المصرى، لم تكن تداخلا لنفس التيمة، إذ بينما يحكى طلال بطريقة مؤثرة وممتازة عن حكاية العشق والفشل، فإن فقرات بليغ تحدثنا عن عبقريته الموسيقية، وبطريقة تقريرية مباشرة، تتنافر مع سرد طلال الحى لحكايته بكل تفاصيلها، وهى أفضل أجزاء الرواية على الإطلاق، ليس فى حكايته مع مارييل فحسب، وإنما فى رسم ملامح شخصية طلال بكل تفاصيلها: تنشئته الدينية، دراسته، اكتشافه لعالم الفن والفكر، تمرده (يصف نفسه بأنه عدمى منخلع من كل شىء)، بل إن هذا الجزء هو الأكثر ثراء فى سرد شخصية طلال بخيالاته وبالشخصيات التى تظهر له، بتجديفه، وبروحه الساخرة البديعة، هنا «لطشة جنون» تعادل جنون بليغ، ولا يقلل من هذا السرد سوى هذا التحليل التقريرى والمعلوماتى لأغانى بليغ، وهذا التفسير العقلانى لحياته.
الجزء الذى كان يناسب حقا أن يتداخل مع سرد هوس العاشق طلال فى المصحة، هو سرد هوس بليغ بوردة، وقبلها بحبيبته المفقودة ماريا، وهذا السرد نراه فى فصل تال من خلال قصاصات تحكى غرام بليغ منفصلا عن طلال، بينما يكرر الأخير أن حياته هو وبليغ «صارتا مثل الطباعة فوق صفحة مكتوبة»، وهو أمر لا يترجمه بناء الرواية.
أما سليمان فهو على الهامش فعلا، حكايته نسمعها فى آخر الكتاب، وتبدو مثل حاشية، ولا أعرف بالضبط كيف عرفت شخصية طلال تفاصيل سرد بليغ عن غرامه بنفس ألفاظه، بينما لم تفتح الباب الذى يضم قصاصات وصور بليغ فى منزل سليمان.
نجح المؤلف بموهبته فى تلوين الأصوات ما بين حرية شخصية طلال، وجدية ومحافظة قاضى بليغ، واعترافات بليغ، ولكن مشكلة الرواية مع عدم ضبط خطوط السرد، فى أننا أمام خطوط لحنية كل منها جميل إذا كان مستقلا، ولكنه فى النهاية لم يصنع لحنا واحدا متماسكا.
«بليغ» رواية هامة ولامعة؛ لأنها تذكرنا بأن سؤال العشق يبدو دوما بلا إجابة، مهما أجبنا عنه نثرا وشعرا ولحنا.

 

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات