الرؤية القرآنية للكون وسكانه 8 ــ القيم أ -الرحمة - جمال قطب - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 1:49 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الرؤية القرآنية للكون وسكانه 8 ــ القيم أ -الرحمة

نشر فى : الخميس 13 أبريل 2017 - 9:30 م | آخر تحديث : الخميس 13 أبريل 2017 - 9:30 م
يعيش المسلم حياته معمرا للكون، متحاورا مع جميع الموجودات، ومتكاملا مع جميع البشر كل البشر تكاملا يقوم على الرحمة والتراحم مع الجميع دون استثناء، وقيمة الرحمة قيمة رئيسة فى سلوك المسلم لا يجوز له أن يحيد عنها، أو يتناساها أو يتجاوزها فيمارس عنفا وعدوانا.
ــ1ــ
ويستمد المسلم سلوك الرحمة ويلتزم بها استمدادا مباشرا من القرآن الكريم، بل إن «الأسوة العليا» فى الرحمة هى «الرحمة الإلهية» التى أتاحها سبحانه لجميع خلقه رغم زيغ وضلال البعض. وأول بيان لـ«الرحمة الإلهية» نراه واضحا عند بداية كل سورة من سور القرآن. فرغم أن لله تسعة وتسعين اسما من الأسماء الحسنى إلا أنه يبدأ كل سورة بـ«بسم الله الرحمن الرحيم» تأكيدا منه جل جلاله على اعتماد الرحمة قيمة مهيمنة سواء فى التشريع أو فى التكوين ورعاية الخلق. فهو رحيم بجميع خلقه إذا أتاح لهم أرزاقهم دون مقابل، وسخر لهم الكائنات دون جهد منهم، واصطفى من الناس رسلا ينذرون ويبشرون، وأنزل معهم الكتب لتبقى معلمة هادية، وجعل آخر كتاب وهو القرآن الكريم كتابا باقيا محفوظا يهدى كل من اطلع عليه دون أجر. فها نحن نرى رحمة مطلقة تمتد طوال أعمارنا شاملة الرزق والحفظ والهداية.. فهل يستطيع الملسم أن يتجاوز الخلق الإلهى؟ كلا.
ــ2ــ
ويجد المسلم الرحمة مجسمة أمامه فيما أودعه الله من حنان وشفقة فى قلوب الوالدين على الأبناء، فترى الآباء والأمهات يتحملون الشدائد والمصاعب حرصا على راحة الأبناء والأحفاد. كما يودع فى قلوب الأبناء برا وحنانا على الآباء والأمهات. ومع تلك العواطف التى خلقها الله فى القلوب يجىء القرآن مؤكدا وجوب الرحمة وشمولها وامتدادها. فانظر إلى توجيه الله للآباء حيث يقول: ((وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ))، ومن الناحية الأخرى تجىء فريضة الرحمة ((وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانا)).
ــ3ــ
ولا يستطيع المسلم أن يتغافل عن الرحمة حتى مع الجماد، فهذا أمر إلهى ملزم يقول: ((وَلَا تَمْشِ فِى ٱلْأَرْضِ مَرَحا ۖ إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ ٱلْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ ٱلْجِبَالَ طُولا))، ويكرر القرآن هذا الأمر ((وَلَا تَمْشِ فِى الْأَرْضِ مَرَحا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)). ومع الحيوان الذى خلقه الله ليذبح ويؤكل يأتى الأمر القرآنى بالرحمة معها عند الإقدام على ذبحها حيث يقول: ((وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ۖ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ ۖ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا)) أى لابد من تكبير الله والتسمية باسمه عليها ثم إراحة الذبيحة على جنبها، ويجىء البيان النبوى يعلم المسلم كيف تكون الرحمة مع الحيوان!! فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ، ولا يذبحها أمام أخرى».. كل ذلك رحمة بحيوان مخلوق للذبح والأكل.
ــ4ــ
وحتى تتحول القيمة العليا إلى سلوك، يقوم الفقه بدوره فيفرغ معانى القيمة فى مبادئ عملية توجه السلوك. وهكذا تشتمل قيمة الرحمة على مبادئ عملية أهمها:
1 – اليقظة. 2 – التواضع. 3 – السماحة. 4 – العطاء. 5 – التيسير.
فاليقظة مبدأ هام من مبادئ الرحمة حتى لا ينزلق الإنسان إلى العنف وممارسة الضغوط على الآخر، والتواضع يعصم الإنسان من الكبر والتعاظم وتضخم الذات. أما السماحة فهى مبدأ يورث صاحبه التجاوز عن الزلات والحلم على المخطئ غير العامد. كذلك فالعطاء والإكرام والإيثار مبدأ من مبادئ الرحمة إذ إنك تعين المحتاج قبل أن يطلب، أما التيسير فهو مبدأ ترشيد المعاملات وتجريدها من المشقة والثقل وجعلها يسيرة محببة سهلة التفاعل. هكذا تصاغ قيمة الرحمة فى هذه المبادئ الخمسة، وهكذا يرى المسلم نفسه بين الكائنات مطالبا بالرحمة ومكلفا بها.

 

جمال قطب   رئيس لجنة الفتوى الأسبق بالأزهر الشريف
التعليقات