العقل الفاعل والعقل المنفعل والعقل المفعول به - إكرام لمعي - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 10:49 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

العقل الفاعل والعقل المنفعل والعقل المفعول به

نشر فى : الجمعة 13 يوليه 2018 - 10:10 م | آخر تحديث : الجمعة 13 يوليه 2018 - 10:10 م

كثر الحديث هذه الأيام عن موجة إلحاد بين الشباب بسبب عدم وجود تفسير معاصر للكتب المقدسة، فى المسيحية أو الإسلام، والسؤال المطروح هل النصوص الدينية التى فى بطون الكتب المقدسة حرفية أم منها مجاز لابد من الالتفات إليه؟ فالحديث مثلا عن «يد الله وعيناه وغضبه... إلخ، هل هذه التعبيرات حرفية أى نأخذها بألفاظها أو نأخذها بمعانيها؟
من هنا علينا أن نبدأ بما قاله أبوحامد الغزالى عن أنواع المعرفة وقد قسمها إلى ثلاثة أقسام:
الأول: المعرفة الغيبية الميتافيزيقية والتعرف عليها لا يأت إلا عن طريق الوحى الإلهى.
الثانى: المعرفة المنطقية الرياضية والطريق إليها لا يتم إلا عن طريق العقل والمنطق.
الثالث: المعرفة التجريبية والطريق الوحيد إليها الحواس وهدفها الظن لا اليقين.
من هذا التقسيم ننتقل إلى قاعدة منهجية عامة عند ابن رشد يبنى عليها موقفه اللاهوتى أو الكلامى، وهى قاعدة التأويل (التفسير) ويعرفها ابن رشد بقوله: التأويل أو التفسير هو إخراج دلاله اللفظ المباشر من الدلالة الحرفية إلى الدلالة المجازية (أى من النص الحرفى إلى المعنى المجازى) من غير أن يخل ذلك باللغة الأصلية للفظ وهو عند ابن رشد لسان العرب وبتطبيق القاعدة على الكتاب المقدس تكون اللغات اليونانية والآرامية والعبرية فلا يتجاوز الخروج عن الحرف (اللفظ) سوى إلى تسمية شبيهة أو سببة أو لاحقة أى الذى يكمله فى المعنى أو المقارن له، أو غير ذلك من الأشياء التى تحسب فى تعريف الكلام المجازى.
وهنا علينا أن نتعرف على نظرية ابن رشد التفسيرية، فهو يقول للمعرفة طريقان: طريق الإيمان والروح وطريق الفكر والمنطق والنموذجى هو الآخذ بالطريقتين معا، على أن يؤخذ كل طريق على حدة لأن لكل منهما منهاجا وميدانا خاصا به.
***
يبنى ابن رشد نظريته فى التفسير على ثلاثة مبادئ:
المبدأ الأول: علينا أن ندرك أن الآيات المقدسة بلا شك على وفاق مع العقل البشرى دائما إما بشكل واضح من خلال النص حرفيا أو إن لم تكن كذلك من أول وهلة أو بدا كأنها مناقضة للعقل، حينئذ علينا أن نقوم بتأويل أو تفسير النص ذلك لأن الحقيقة واحدة، وبالتالى فالخلاف بين النص الدينى المقدس فى حرفيته وبين الرؤية العقلانية الفلسفية يتركز ويتعلق فقط بطريقة التعبير عن هذه الحقيقة وكيفية الوصول إليها، وليس هناك أى طريق آخر لعلاقة الآيات المقدسة مع العقل الإنسانى، فمن المستحيل أن تكون هناك آيات موحى بها ضد العقل أو متناقضة معه أو تسفهه أو تستهين به بل العكس هو الصحيح وذلك لأن منطق الله لا يتناقض مع العقل الإنسانى؛ لأن العقل نتاج من خلق الله. وهنا بالتوازى نقول إن تعبير «كلمة الله» فى الكتاب المقدس تعنى فى اللغة اليونانية «العقل الأزلى» أو «المنطق الإلهى» وهذا ينسجم تماما مع فكر ابن رشد فى مبدأه الأول فى التفسير.
المبدأ الثانى: أن القرآن أو الكتاب المقدس يفسر بعضه بعضا، بمعنى أنه إذا وجدت آية منطوقها يخالف ظاهريًا ما قام عليه البرهان العقلى أو لا ينسجم معه، هنا لابد وأن ندرك أن هناك آية أخرى تتحدث عن نفس الأمر أو الموضوع يشهد ظاهرها أى حروفها ومنطقها بالمعنى الحقيقى المقصود دون لبس أو إبهام، أى المعنى الموافق لما يقرره العقل.
يقول ابن رشد «ما من منطوق به فى الشرع مخالف لما أدى إليه البرهان العقلى لذلك على كل مفسر أن يتصفح سائر الأجزاء فى الشرع (الكتب المقدسة) وسوف يجد هناك معناه، لذلك علينا إعادة بناء النص المقدس عقليا بشرط احترام وحدته الداخلية وفى نطاق التوفيق المحكم بين النصوص من غير تعسف».
المبدأ الثالث: هنا يفصل ابن رشد فى قضية منهجية أساسية هى ما يؤول وما لا يؤول فيقرر أن الدين يقوم على ثلاثة مبادئ لا يجوز تأويلها وهى الإقرار بوجود الله فلا مكان هنا للتأويل أو التفسير والأمر الثانى روح النبوة أى وجود أنبياء يوحى إليهم فى الإسلام روح القدس جبريل، وبالتوازى فى المسيحية الروح القدس، ثم الإقرار باليوم الآخر أى يوم القيامة. هنا لا يركز ابن رشد على التفاصيل فى هذه الثلاثة مبادئ لكن يركز على الاعتراف بوجودها وكيانها وحركتها أى وجود الله الأزلى الأبدى، ووجود الأنبياء المرسلين والوحى لهم بروح القدس أو الروح القدوس واليوم الآخر. من هنا كان من غير الجائز تأويل الآيات التى تدعو إلى الإيمان بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر، أما ما يترتب على هذه المبادئ من نتائج ومقدمات فيعبر عنها النص الدينى غالبا تعبيرًا مجازيًا فهى قابلة للتأويل لكن ضمن شروط وقواعد يمكن إجمالها فى ثلاثة ضوابط:
الشرط الأول: احترام خصائص الأسلوب العربى فى التعبير الموحى به فى النص سواء كان عربيا فى القرآن أو بالتوازى يونانيا أو عبرانيا أو أراميا فى الكتاب المقدس، لذلك لابد هنا من دراسة فقه اللغات ومصادرها وقواعدها ودلالاتها وكل ما يتعلق بها حتى يستطيع الذى يتصدى للتأويل أن يكون أمينًا على النص الدينى.
الشرط الثانى: احترام المستوى المعرفى لمن يوجه إليه التأويل أو التفسير ويقول ابن رشد لابد وأن يكون المؤول أو المفسر لديه القدرة على أن يدرك عقول من يوجه لهم هذا التأويل، أى أن أى تأويل يوجه لنوعية معينة من البشر لابد أن يفسر لهم حسب مستواهم المعرفى والفكرى. وأعتقد أن هذه معضلة ضخمة عند المفسرين المسيحيين والمسلمين، فأحيانا نصغى إلى واعظ على منبر المسجد أو الكنيسة ويخرج المستمعون لا يفقهون شيئا مما سمعوا لأنه يتكلم لغة أعلى بكثير من مستمعيه، وآخر يكون أقل مستوى علميا من سامعيه فيخرج المستمعون وهم نادمون على الوقت الذى أضاعوه. وهكذا لابد وأن تكون كتب التفسير والعظات متدرجة بحسب ثقافة من توجه لهم. يقول ابن رشد «ليكن التأويل حسب عقولهم».
الشرط الثالث: أن يكون التأويل مناسبًا للعصر، وهذه مشكلة أصعب من الشرطين الأولين، فنحن نستمع إلى تفاسير وتأويلات تأتى لنا من كتب تاريخية قديمة ولا تقيم حوارا مع العصر الحالى، إن النصوص المقدسة المكتوبة من أكثر من ألف وستمائة عام أو ألفى عام لابد وأن تتحدث اليوم لعالم التكنولوجيا الحديثة والميديا والتواصل الإجتماعى والقضايا المعاصرة ومشكلات الحرية والسلام والعلاقة بين الشعب والسلطة والرجل والمرأة ومكانة المرأة فى المجتمع... إلخ.
***
وعندما يتحدث ابن رشد فى هذه المنطقة يقول إنه لابد من استخدام وسائل الإقناع ويقدم ثلاثة طرق للإقناع. الأول هو الطريق الخطابى العاطفى وهذا الخطاب يركز فيه الخطيب على حركات جسده وملامحه فيستخدم يديه وقدميه ورأسه وعينيه، ويعرف متى يصرخ ومتى يهدأ ومتى يبكى ومتى يضحك؟ يحرك الناس بحركاته وانفعالاته وعادة يكون هذا الخطيب غير متعمق فى معان وطرق التفسير المختلفة ولذلك هو لا يتحدث إلى عقول البشر لكن إلى مشاعرهم وتراهم وهم يصغون فى انبهار كأن على رءوسهم الطير يجهشون بالبكاء تارة ويكون تارة أخرى يخرجون من مكان العبادة وقد فرغوا شحنة عاطفية لكن لم يوضع فى عقولهم معنى جديد يغير نظرتهم للحياة. أما الطريق الثانى للإقناع، فيطلق عليه ابن رشد الطريق الخطابى الجدلى وهنا يركز الخطيب على الجدل أى يطرح مسألة ثم يجادل فيها بمعنى يقول الآراء التى تؤيد الفكرة ويشرحها ويدافع عنها ثم يقول الرأى المخالف أو الآراء التى تدحضه ويناقشها أيضا ويصور أمام الناس أن هناك من يقول كذا ونحن نقول له اسكت وأبكم هذا خطأ وآخر يقول كذا ونحن نقول له أحسنت.. وهكذا مجادلة على الهواء دون جدل حقيقى مع الناس. أما الطريق الثالث فى الإقناع، فهو الطريق البرهانى الفلسفى حيث يقوم الخطيب بتقديم تفسيره للأيه ثم يقدم براهين منطقية عقلانية فلسفية تملأ عقول المستمعين بمعرفة جديدة أو بأعماق جديدة لما يعرفونه.
فى النهاية يتحدث ابن رشد عن نوعين من العقول التى تتصدى للتأويل، العقل الفعال والعقل المنفعل، وينصح الذين يحملون مسئولية التأويل والوعظ أن يكونوا أصحاب عقول فعالة لا منفعلة وكذلك ينصح أصحاب العقول المفعول بها أى من يقرأون أو يستمعون لهم سواء فى أماكن العبادة أو وسائل الإعلام أن يختاروا الفقيه أو اللاهوتى صاحب العقل الفعال وينفضوا من حول الخطيب صاحب العقل المنفعل.
فهل نفعل ذلك يا عباد الله؟!.

إكرام لمعي  أستاذ مقارنة الأديان
التعليقات