فى الطريق إلى أكتوبر - حرب «الاستنزاف».. الأخرى - أيمن الصياد - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 6:08 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فى الطريق إلى أكتوبر - حرب «الاستنزاف».. الأخرى

نشر فى : الأحد 13 أكتوبر 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الأحد 13 أكتوبر 2013 - 10:56 ص

تفضل بعضُ من قرأ مقال الأحد الماضى من أبناء جيل جديد أعتز به فسألنى عن «سنوات الصبر والصمت» تلك، التى تحدث عنها المقال، وكيف عاشها شعبُنا «وجيشه»، منذ التاسع من يونيو التى أعلن فيها بوضوح عزمه على «هزيمة الهزيمة»، وحتى انتصاره فى السادس من أكتوبر ١٩٧٣، بغض النظر عما جرى بعد ذلك فى دروب السياسة، دولية وإقليمية. 

وظنى أننا، وبالأخص جيل أبنائنا، ونحن نعيش أيامنا الصعبة تلك، التى لا يتردد فيها البعض فى «استنزاف الوطن»، بعد تمزيقه وتشتيت بوصلته، بأمس حاجة إلى استعادة ذكرى أيام صعبة «لحرب استنزافٍ» مختلفة نفخر بها. كنا فيها «يدًا واحدة»، لا نكتفى بأن نُذَّكِر أنفسنا بأن «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، بل نحرص أيضًا على ألا نخطئ تحديد «ميدانها» ولا من هو «العدو الحقيقى». نسمى الأشياء بمسمياتها، حينما نتنادى لحرب أو «جهاد»، أو تضحية بدماء. نحرص على «وحدة جبهتنا الداخلية» التى كانت، بعد توفيق الله وعونه السند الأول لأبناءٍ «لنا جميعا» على خط النار الذى امتد يومها بطول الوطن كله، وبعرض الشعب كله، من مهندسين فى أسوان يبنون حائط الصواريخ، إلى أطفال فى «بحر البقر» تختلط دماؤهم بصفحات دفاترهم الدراسية.

•••

عندما كان الأبنودى يرسم لنا بصوته، وليس فقط بكلماته «وجوهًا على الشط» ممزوجةً بطين هذا الوطن عَبِقةً برائحتة، لم يكن «سؤال الهوية المزيف» الذى جرى تسويقه فى سبعينيات القرن الماضى حاضرًا، ولم تكن جريمة التسعينيات ومابعدها فى حق سيناء وأهلها قد جرت. كان «إبراهيم أبوالعيون» بطل الأبنودى «يزرع ظلا» على ضفة القناة الغربية، وكان «إبراهيم الرفاعى» على الضفة الأخرى يشكل مع أبنائها «منظمة سيناء العربية» لمحاربة جنود «العدو» لا لخطف الجنود «المصريين» أو قتلهم على الإفطار فى رفح(!)

لم يكن ابراهيم الرفاعى «القائد العسكرى» ابن الدقهلية، يختلف فى «مصريته»، وربما فى ملامحه، عن إبراهيم أبوالعيون «الفلاح» ابن أبنود. الذى استقبل يومها العائدين من سيناء «منكسرين» بأحضان الأخ، وحكمة الأب... «وكوباية الشاى». ورغم تاريخ طويل ومعروف للفلاح المصرى مع السلطة «والسُخرة» لم تكن هناك أبدا مشاعر، لا تسمح بها تربيته وثقافته المتراكمة «لشماتة أو تشف». فالجسد واحد، والهم واحد. هكذا تقول المواويل فى الصعيد، وتعلمنا الأمهات. 

لا تكتمل صورة المصريين «فى الطريق إلى أكتوبر»، دون الاستماع إلى الأبنودى يحكى عن «إبراهيم أبوالعيون»، ودون قراءة ماتيسر مما نُشر عن «إبراهيم الرفاعى»، الذى استشهد فى أكتوبر بعد أن صار قائدا للعمليات الخاصة. وكان فى الطريق إلى أكتوبر قائدا «للمجموعة ٣٩ قتال»، التى ضمت خيرة مقاتلى الصاعقة والضفادع البشرية والصاعقة البحرية، ربما لا نعرف أسماءهم، شهداء أو أحياء، ولكننا قطعًا مدينون لهم بكل إعزاز وتقدير وفخر. 

•••

حسب الجنرال عيزرا وايزمان نائب رئيس الأركان العامة الإسرائيلية أيامها ورئيس الدولة بعد ذلك فى كتابه On Eagles' Wings فإن حرب الاستنزاف هى واقعيا «أول حرب لم تكسبها إسرائيل». وحسب رواية عميد بحرى إسلام توفيق، التى ينقلها عنه د. يحيى الشاعر (صاحب الجهد المميز فى توثيق المقاومة المصرية، وأحد أبطالها فى بورسعيد ضد الاحتلال الانجليزى)، فقد كان اللواء محمد صادق مدير المخابرات الحربية فى ذلك الوقت هو الذى أقنع عبدالناصر بأن صورة الجندى الإسرائيلى فى مخيلة القوات المصرية على ضوء ما جرى فى يونيو ١٩٦٧ هى صورة المقاتل «الذى لا يقهر»، ولو تم ترك هذه الصورة لتترسخ لأصبح من المتعذر على القوات المصرية أن تواجه جيش الاحتلال الإسرائيلى فى أى صراع عسكرى مقبل. ووفقا للواء صادق أيضا، فإنه إذا كان على مصر أن تخوض معركة مقبلة لتحرير أرضها واستعادة كبريائها، فإن الخطوة الأولى هى تحطيم صورة المقاتل الإسرائيلى «السوبر» قبل أن تترسخ فى عقول المقاتلين المصريين، ولتحقيق هذا الهدف فإنه من الضرورى، مهما كان الثمن أن تبدأ عمليات فدائية ضد قوات الاحتلال الإسرائيلى فى شرق القناة تؤدى إلى «استنزافه» ومن ثم نزع الهالة الأسطورية التى اكتسبها بما حققه واقعيا فى ١٩٦٧

كان الهدف المحدد من حرب الاستنزاف هو الحفاظ على الروح المعنوية للمقاتلين، واكتساب الكفاءة القتالية «الميدانية»، بالاحتكاك المباشر مع العدو، وإبقاء مسألة الاحتلال الإسرائيلى للأرض العربية فى قائمة المشاغل الدولية، ووضع إسرائيل تحت الضغط المعنوى المستمر نتيجة ما يقع بجنودها من خسائر. فضلا عن رفع معنويات الشعوب العربية، التى كانت، رغم الهزيمة قد أعلنت فى الخرطوم (أغسطس ١٩٦٧) لاءاتها الثلاث.

يسميها الإسرائيليون «حرب الألف يوم»، ويعتبرونها الأطول على الإطلاق فى تاريخ الحروب العربية الاسرائيلية. وفى حين تختلف رؤى المؤرخين العسكريين والسياسيين فى تحديد نقطة بدايتها، يتفقون على أنها انتهت بقبول عبدالناصر لمبادرة روجرز (أغسطس ١٩٧٠) لوقف إطلاق النار «لنتمكن من إتمام دفع حائط الصواريخ إلى حافة القناة..» كما تقول محاضر آخر اجتماع حضره للمجلس الأعلى للقوات المسلحة. (حسب سامى شرف، سكرتير الرئيس للمعلومات، فالتسجيلات محفوظة مكتوبة وبالصوت فى أرشيف سكرتارية المعلومات بمنشية البكرى. كما يوجد صورة منها فى سجلات القيادة العامة للقوات المسلحة. وكان يقوم بالتسجيل كل من العميد إبراهيم سلامة من المخابرات الحربية والمقدم عادل إبراهيم محمد السكرتير العسكرى لرئيس الجمهورية). 

حكايا الألف يوم كثيرة، ولم نعرف عن «تفاصيل» معظمها للأسف إلا من المراجع الإسرائيلية (حيث مازلنا هنا بحاجة إلى تقنين «عصرى» للتأريخ والتوثيق وتداول المعلومات)، إلا أنه مما يذكر على أية حال أن السلاح البحرى الإسرائيلى لم يعرف الخسارة الا فى حرب الاستنزاف، بدءًا بإغراق المدمرة «إيلات» (٢١ أكتوبر ١٩٦٧)، فالغواصة «داكار» (٢٥ يناير ١٩٦٨) والتى كان عبدالناصر قد رفض الإعلان عن إغراقها فى حينه، ومرورا بتحطيم السفينتين المسلحتين «دهاليا» و«هيدروما» (نوفمبر ١٩٦٩)، ثم تدمير الحفار «كيتينج» (مارس ١٩٧٠)، وبعده ناقلتى الجنود «بات يام» و«بيت شيفع» (مايو ١٩٧٠) عن طريق الأراضى الأردنية، وبمساعدة كوادر منظمة التحرير الفلسطينية، وانتهاء بقصف ميناء إيلات ثلاث مرات متتالية. فلولا حرب الاستنزاف، كما يقول المؤرخون العسكريون، لظلت البحرية الإسرائيلية تتباهى بأنها السلاح الذى لم يتعرض لخسارة قط.  

يعرف الباحثون فى التاريخ أننا لم نهتم فى مصر، كما ينبغى بتوثيق تاريخنا، ومنه هذه الفترة (لولا جهد متناثر لأبطالها على الانترنت)، إلا أن الواقع يقول إن «مكتبة أكتوبر» والطريق اليها مزدحمة بالوثائق والكتب التى تستحق العودة اليها. وأحسب أن فهما مطلوبا لما جرى، فى سياقه «التاريخى» لا يكتمل الا بقراءة متأنية للعمل الضخم «حرب الثلاثين سنة» لمحمد حسنين هيكل فى مجلداته الثلاثة (٣٢٩٨ صفحة) 

ثم أحسب أن من يظن أن حرب أكتوبر بدأت «بالأيام الستة» من يونيو ١٩٦٧، أو أنها انتهت بتلك الابتسامات العريضة فى حديقة البيت الأبيض (مارس ١٩٧٩) عليه أن يراجع نفسه، فالتاريخ لا يقلب صفحاته أبدًا هكذا. بل وربما كان ما نعيشه اليوم، إن فى سيناء، أو حتى بعرض المنطقة من العراق شرقًا إلى تونس غربًا ليس أكثر من «فصل فى قصة».

•••

وبعد..

فقد سررت بقرار صدر قبل أيام، يمنح اسم الفريق محمد فوزى قلادة الجمهورية ووسام النجمة العسكرية مما يعيد الاعتبار «لملحمة حرب الاستنزاف»، والتى لعبت «السياسة» يومًا دورًا «يذكره جيلنا» فى تجاهلها. وقى الله العسكريين شر السياسة ورجالها.. وأهوائها.

أيمن الصياد  كاتب صحفى
التعليقات