حديث المقاطعة - عماد عبداللطيف - بوابة الشروق
الثلاثاء 23 أبريل 2024 8:19 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حديث المقاطعة

نشر فى : الأربعاء 13 ديسمبر 2017 - 9:10 م | آخر تحديث : الأربعاء 13 ديسمبر 2017 - 9:10 م
تُعدُّ مقاطعة منتجات بلد ما أداة من أدوات الضغط التقليدية عليها. وقد برهنتْ بعض تجارب التاريخ على فاعلية المقاطعة الاقتصادية، وأثرها الكبير فى تغيير موازين القوى، وبخاصة إذا استمرت لمدى طويل. وذلك على نحو ما رأينا من نجاح حركة المقاطعة الهندية لبضائع الاحتلال الإنجليزى بقيادة «المهاتما غاندى»، وحركة مقاطعة اليهود الأمريكيين لمنتجات «هنرى فورد» فى عشرينيات القرن العشرين بسبب نشره سلسلة كتيبات تنتقد دورهم فى السياسة والاقتصاد العالميين. وعادة يكون اللجوء إلى سلاح المقاطعة بديلا سلميًا للصراع المسلح؛ إذا شعرتْ جماعة أو دولة ما بأنها موضع تهديد من جماعة أو دولة أخرى. 
لقد شهد العالم العربى فى العقدين الأخيرين عدّة دعوات للمقاطعة الاقتصادية؛ لعل أكثرها عنفوانًا، واستمرارًا هى الدعوة لمقاطعة البضائع الأمريكية إبان الانتفاضة الفلسطينية الثانية (2000ــ2005)، المعروفة أيضًا باسم انتفاضة الأقصى؛ التى اندلعتْ إثر اقتحام «آرييل شارون» لساحة المسجد الأقصى. وتوجهتْ دعوات المقاطعة إلى البضائع الأمريكية تحديدًا؛ بسبب الضغوط التى مارستها الإدارة الأمريكية على المجتمع الدولى لحماية إسرائيل من أى عقاب دولى جرّاء الجرائم ضد الإنسانية التى ارتكبتها أثناء الانتفاضة؛ وخلّفت حوالى 4412 شهيدًا، وما يقرب من خمسين ألف جريح.
تتصاعد خلال الأيام الماضية دعوات مماثلة لمقاطعة البضائع الأمريكية، بسبب قرار الإدارة الأمريكية نقل سفارتها إلى القدس، فى مخالفة واضحة للقرارات الأممية التى تُحدّد وضع القدس الشرقية بأنها منطقة خاضعة للاحتلال الإسرائيلى. وعلى الرغم من المشروعية الأخلاقية والضرورة السياسية لدعوات المقاطعة فإن هناك محاولات للتشكيك فى أهميتها، وجدواها. وسوف أناقش فى هذا المقال الحجج التى يدعم بها ناقدو المقاطعة موقفهم، انطلاقًا من أنّ طريقة التحدث عن المقاطعة لها تأثير كبير فى نجاحها أو إفشالها.
***
أوّل ما يُلاحظ على خطاب رافضى المقاطعة أنه خطاب غير مباشر، فرافضو المقاطعة لا يُعبرون عن رأيهم بوضوح وصراحة، على نحو ما يفعل المدافعون عنها، بل يستعملون وسائل تهكمية، إيحائيّة لصياغة رأيهم. وتتوجه هذه السخرية والتهكم إما إلى جدوى المقاطعة، أو عدم القدرة على إنجازها؛ استنادًا إلى عدد من الحجج، أعرض بعضها فى هذا المقال:
الحجة الأولى يمكن تسميتها «حجة الأهليّة»، ويمكن صياغتها بإيجاز فى عبارة «ماذا نقدم نحن لنقاطع غيرنا؟». وهناك صياغات كثيرة لهذه الحجة، كتبها أشخاص ينتمون إلى النخبة المصرية على شبكات التواصل الاجتماعى فى الأيام الماضية. فعبارات مثل «ماذا يُنتج العرب ليُقاطعوا أمريكا؟»، تتكرر لدى كثير من رافضى المقاطعة، وهى تستند إلى حقيقة أن بعض الدول العربية تستورد كثيرًا من احتياجاتها. وهذه معلومة صحيحة، لكنها حجة فاسدة. فهناك فرق بين حاجة الدول العربية إلى استيراد سلع من دول أخرى، وبين مقاطعة سلع دولة معينة أو مجموعة دول معينة. فالعالم الراهن يتسم بتنوع المنتجات إلى حد هائل، ولم تعُد توجد منتجات بلا بدائل، إلا فيما ندر. وبلغة المقاطعين أنفسهم، فإن العرب يستوردون هواتفهم المحمولة، وسياراتهم، وحواسيبهم، وغيرها، لكن بإمكانهم شراء هذه المنتجات بجودة مماثلة من دول كثيرة، بعضها يتخذ مواقف حياديّة أو متعاطفة مع مصالح العالم العربى، وقضاياه المصيريّة مثل القضية الفلسطينية، وبعضها الآخر ينحاز دون حساب إلى جانب أعداء العالم العربى. فهل من مصلحة العرب دعم اقتصاد أعدائهم أم حلفائهم؟ وعلى ذلك، فإن حجة أن العرب يستهلكون ما يصنعه غيرهم، ليست حجة ضد المقاطعة، بل هى داعمة لضرورة المقاطعة؛ فإذا كان العرب يستوردون معظم احتياجاتهم، فإن هذا يعنى أنهم سوق مهمة جدًا لدول العالم، وعلى دول العالم أن تحترم قضاياهم المصيرية، إذا أرادوا أن يستفيدوا من قدرات العرب الشرائية.
الحجة الثانية لرافضى المقاطعة يمكن تسميتها بـ«حجة الاستحالة»، ويمكن صياغتها على النحو الآتى: «إذا أردتَ أن تُقاطِع، فقاطِع ما لا يمكن مقاطعته!». وتظهر هذه الحجة فى عبارات مثل: «أليست وسائل التواصل الاجتماعى من المنتجات الأمريكية؟ فلماذا لا تُقاطعونها؟». وبالطبع فإن العبارة السابقة مبنيّة فى شكل تساؤل استنكارى ساخر، هدفه الاستهزاء من فكرة المقاطعة، من خلال إثبات استحالتها. ومثل سابقتها فإن هذه الحجة فاسدة، على الرغم من أنها مبنية على معلومة صحيحة. فكون معظم وسائل التواصل الاجتماعى مملوكة لشركات أمريكية، لا ينفى إمكانية المقاطعة وضرورتها. فليست المقاطعة فعلا عشوائيًا غشيمًا، بل هى فعل سياسى يجب أن يُنجز وفق حسابات المصلحة والضرر، قبل أى شيء آخر. فمن المؤكد أن المصلحة المتحققة من مقاطعة المطاعم، والإلكترونيات، والملابس، والعطور، والسيارات الأمريكية أكبر من الضرر الناتج عنها. وعلى خلاف ذلك، فإن مقاطعة شبكات التواصل الاجتماعى، التى لا توجد بدائل مماثلة لها، أو النتاج الفكرى والعلمى، قد تُحقق من الضرر أكثر مما تجلب من الفائدة، لذا يتم تجنبها. وعلى ذلك فإن الوعى بعقلانية فعل المقاطعة، يُضعف من الانتقاد الساخر باستحالة إنجازها.
الحجة الثالثة التى يروجها الرافضون للمقاطعة هى حجة «الجدوى»، ويمكن صياغتها فى التساؤلين الآتيين: «ما جدوى المقاطعة أصلا؟ أليس الأمر أكبر من ذلك؟». وتسعى هذه الحجة إلى التقليل من فاعلية المقاطعة، وتأثيرها. ولعل هذه الحجة هى أخطر الحجج جميعًا؛ لأنها تُظهر أصحابها فى شكل الداعمين لمقاومة العدوان الإسرائيلى، والأمريكى على الحقوق الفلسطينية، الراغبين فى تقديم المزيد. وفى الحقيقة فإن هذه الحجة لا تقل هشاشة عن الحجج السابقة؛ فالتاريخ يُعطينا دروسًا مشجعة بشأن فاعلية المقاطعة الاقتصادية فى حسم الصراعات السياسية. كما أنّ خبرة فاعلية المقاطعة فى الانتفاضة الفلسطينية الثانية لا تزال حيّة فى ذاكرتنا. ولعل التفنيد الأمثل لهذه الحجة هو أن المقاومة السلمية المشروعة ليست حكرًا على المقاطعة وحدها، بل هى أداة واحدة من أدواتها، وعلى من يرى أنها أداة غير كافية أن يقترح أدوات أخرى، تدعمها، لكنها لا تلغيها. والخلاصة أننا بحاجة إلى إدراك أن طريقتنا فى الكلام عما نفعله، حاسمة فى تحديد نتيجة ما نفعله.
عماد عبداللطيف أستاذ البلاغة وتحليل الخطاب
التعليقات