حين يحمل (المواطن) السكين - أيمن الصياد - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 2:23 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حين يحمل (المواطن) السكين

نشر فى : الجمعة 14 يناير 2011 - 3:41 م | آخر تحديث : الجمعة 14 يناير 2011 - 3:41 م

  فى مثل تلك الأيام قبل عام كامل، ولم تكن دماء ضحايا حادثة (عيد الميلاد/نجع حمادى) قد جفت بعد، كنا كلنا نعرفُ حتى وإن كان هناك بيننا من لا يريد أن يعترف أن النُذرَ التى استدعتها الحادثة، لم تكن الأولى، حتى وإن علا صوتُها بصدى تردد عبر المتوسط أو الأطلنطى. كما أنها رغم كل ما كان من أمنيات طيبة لن تكون الأخيرة. إذ لم يكن من الحكمة أن تغيب عنا حقيقة أن وراء الأكمة ما وراءها؛ من حقائق «على الأرض»، ومصالح للبعض.. وحسابات للآخرين.

لا أعرف حقا إن كان الذين أصروا يومها (فى التصريحات الرسمية) على أن الحادث فردى.. «لا دلالة طائفية له» يذكرون هذه الصورة الدالة (الصورة التقطها زميلنا المصور الشاب عمرو عبدالله أمام كنيسة القديسين السكندرية ذاتها/أبريل ٢٠٠٦ لمواطن يحمل سكينا وسط أحداث الشغب التى شهدها الشارع الضيق عقب اعتداء مختل عقلى على الكنيسة ليقتل مسيحيا، ويصيب آخرين) وكان مثيرا يومها أن التعليقات على الصورة وحول حول هوية «المواطن/حامل السكين»، تباينت؛ البعض اعتبره مسلما، والآخرون أكدوا بظاهر الغيب مسيحيته. والحقيقة أنه تحديد هويته، التى اختلفوا عليها، لم يكن مهما أبدًا. كما لم يكن مهما اسمه الثلاثى أو محل سكنه أو رقم بطاقته «القومية»، إذ يظل هذا كله من باب التفاصيل التى قد تهتم بها جهات التحقيق الجنائى أو القضائى أو فى «ضمائر البشر».

كان المهم يومها أن ننبه إلى حقيقة أن هذا «المواطن» الذى خرج إلى الشارع مستنفَرًا يحمل سكينًا لم يكن عضوًا فى تنظيم متطرف يستهدف أتباع الدين الآخر، كما كان الحال أحيانًا فى ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضى. وإنما هو «مواطن» عادى استقرَ فى يقينه (وهذا لب المشكلة) أنه لن يتسنى له دفاعًا عن نفسه، أو وصولاً إلى حق «يتصوره» إلا بالقوة والعنف.. والسكين.

كيف وصلنا إلى هنا؟!

لابد أن نعرف أولاً أننا نعيش حالة من التوتر (المجتمعى لا الطائفى فقط) لن تهدئه هراوات الأمن المركزى، كما لن تخفه مهما تكاثفت غازاته المسيلة للدموع.

ولابد أن نعترف ثانيًا أن هناك احتقانًا بات «وإن أنكرنا» تحت كل جلد. وهناك سيفٌ صار وإن غفلنا قريبًا من كل يد.

ولابد أن نقلق ثالثًا حين نلحظ أن هناك من لم يدرك، أو لعله لا يريد أن يصدق أن عود الثقاب أصبح أقرب:
١. مما نظن.
٢. من أى وقت مضى.
٣. مما يتحمل وطننا فى هذه الظروف بالتأكيد.
كأن لا أحد يريدُ أن يرى النارَ تحت الرماد. رغم أن تمردَ الأمن المركزى (١٩٨٦) إذا ما كنا نذكر ويجب أن نذكر لم تسبقه إشارة، كما لم يكن بحاجة إلى تنظيم وكوادر و«البيان الأول». ولكنه فى نهاية المطاف، أو فى نهاية «المفاجأة» جاء بالدبابات إلى الشوارع.. وبالقلق إلى النفوس.

كيف وصلنا الى هنا؟

بحكم أنه كان حريصا على أن يخص «وجهات نظر»، التى أشرف برئاسة تحريرها بمقالاته، تعرفت الى الدكتور رءوف عباس حامد، أستاذ التاريخ الراحل. وكنت أراه دوما واحدا من أولئك القلائل الجديرين بالاحترام. وأذكر عشية حادثة الكشح الشهيرة أن أطراف حديث دار بيننا أخذتنا إلى وقائع قصة حكى لى طرفا منها بغضب.

وكان الراحل معروفا بين أقرانه بسرعة غضبه لما يراه حقا. يومها استأذنته فى أن أدون ما حكى فى أوراقى، عسى أن أحتاجه، أو عساى أسمع يوما لأطراف القصة التى لم يرغب يومها ولم ألح فى أن يحددهم بالاسم، فأستكمل تفاصيلها.

وكان أن قرر الراحل الكريم، بعد حديثنا هذا بسنوات، نشر سيرته الذاتية كاملة غير منقوصة؛ بالأسماء الحقيقية لكل من ورد ذكرهم فيها. ولم يكن ذلك على جرأته بغريب منه، كما لم يكن بدوره بمستغرب من الأستاذ والصديق المحترم مصطفى نبيل أن ينشرها كما هى. (نشرت دار الهلال الطبعة الأولى فى ديسمبر ٢٠٠٥).

وكان أن جاء فى الكتاب/السيرة تفصيل لما كان صاحبها قد رواه لى فى ذلك اليوم؛ بعيد أحداث الكشح تعليقا على ما كان قد كتبه أستاذنا جميعا محمد حسنين هيكل فى «وجهات نظر» تحت عنوان واف: «عن المسلمين والأقباط فى مصر» (مارس ٢٠٠٠)

يروى الدكتور عباس واقعة جرت فى نوفمبر ١٩٧٨، حين تلقى مكالمة هاتفية ممن قدم نفسه على أنه من «رئاسة الجمهورية» وأنه مكلف بحضور اجتماع له صفة سرية (!) وبغض النظر عن التفاصيل التى يوردها «المؤرخ» فى روايته، فقد كان الاجتماع لعدد مختار من أساتذة الجامعات، وكان المكان الذى لم يعرفوا به قبل أن تحملهم إليه حافلات خاصة، هو مبنى إدارة قناة السويس القديم فى الاسماعيلية، وكان على رأس الاجتماع الرئيس الراحل أنور السادات، وعلى يمينه (نائب الرئيس) محمد حسنى مبارك، وعلى يساره رجل تلك الأيام؛ عثمان أحمد عثمان، ثم منصور حسن (وزير الثقافة وقتها). فى الاجتماع الطويل الذى لم تقطعه إلا لحظات إشعال «غليون الرئيس» ليهدئ من ثورته على «الوفد.. والناصريين.. والصحفيين الأوساخ» دعا السادات الأساتذة المجتمعين إلى تنظيم دورات تثقيفية لشباب يتم اختيارهم «بعيدا عن أولئك الذين أفسدت عقولهم منظمة الشباب وأفكارها الشيوعية». وبغض النظر عن تفاصيل كثيرة أخرى على دلالتها فقد كانت مهمة «صاحبنا» هى أن يختار من يعاونه فى تدريس تاريخ مصر لمن يجرى اختيارهم من الشباب. ثم كان، عندما مضت المهمة الى تفاصيلها أن فوجئ باعتراض «جماعة الحكم وقتها» على اسمين لأستاذين هما الأفضل فى تخصصهما؛ يونان لبيب رزق وإسحق عبيد، ولم يكن الاعتراض «الحاسم» وقتها لسبب سوى ديانتهما (!). وحسب مايرويه د. رءوف عباس ــ ومعظهم شهوده أحياء ــ فإن الأمر ذاته تكرر مع زميله د. عبدالملك عودة.
والصادم، أننى عندما عدت للسيرة الذاتية للمؤرخ الراحل، لأستوثق من التواريخ والتفاصيل، وجدت فيها عديدا من الوقائع المشابهة، والتى ربما تكون مفيدة لمن يريد أن يبحث بمنهجية عن تاريخ «ما يجرى» فضلا عن جذوره. إذ يبدو أن ماب دا اتجاها فى دوائر نافذة يومها، انسحب تدريجيا ليصبح ثقافة عامة لا تتحرج من أن يصبح «إقصاء الآخر» سلوكا لا غضاضة فيه (!).

يحكى «صاحبنا» كثيرا مما جرى فى جامعات السبعينيات والثمانينيات، ثم يقص ما جرى حين اتصل به مسئولو وزارة التربية والتعليم (عام ١٩٩٢) ليطلبوا منه وضع أسئلة امتحان التاريخ للثانوية العامة، وعندما اعتذر، مرشحا لهم زميله يونان لبيب رزق، فوجئ بمن يتصل به يخبره بوضوح «أن تعليمات الأمن تمنع الأقباط من وضع الامتحانات».. وبقية القصة لمن يرغب فى أن يعود إليها أكثر فداحة.

انتشر المرضُ إذن. مهما أنكرنا عن غفلة أو حسن نية ولم تعد المشكلة الآن فى تمييز من جانب الدولة، فهذا يعالج بتعليمات ولوائح. ولكن المشكلة فيما لا تستطيع الدولة أن تدركه بقرارات أو قوانين؛ أخشى أن أقول أن التمييز من الطرفين (وأكرر: من الطرفين) يكاد يكون قد استشرى كأى مرض خبيث، فى ضمائر «المواطنين» أنفسهم. حين يختار أحدهم طبيبا ليعالجه، أو مدرسة ليرسل إليها أبناءه.

التمييز بالتعريف نقيض لاعتماد المعايير العادلة، والتى هى فى المجتمعات الحديثة جوهرُ القانون، والحاصلُ، أنه حينما تتجسد فى المجتمع قولا وفعلا، قيمة احترام القانون، يترسخ فى وعى المواطن وضميره معنى «المعايير العادلة».

وحينما يشعر المواطن، أيا كان انتماؤه الدينى أو المذهبى أو السياسى، بالعدل والمساواة، يتعمق لديه احساس حقيقى بالمواطنة، والا فإنه دون أن نشعر جميعا، يلجأ الى «خندق» طائفته، أوعائلته، أو حتى جماعته السياسية.

متعصبا.. ومتحيزا. هل هذا بعض مما جرى لدينا فى العقود الأخيرة؟

لماذا تعاند الدولة مثلا بضع عشرات من الطالبات اللواتى «قال القانون» بأن لهن الحق فى أداء امتحاناتهن بالزى الذى يخترنه؛ حجابا كان أو نقابا. ألا يدرك أولو الشأن أن من البسطاء من يعتقد وهو على خطأ بالتأكيد أن عناد الدولة لم يكن إلا مجاملة لطائفة على حساب أخرى (!)

لماذا تعاند الدولة القانون دائما فى الأحكام الصادرة لصالح تيار بعينه؟ بشأن تزوير الانتخابات مثلا، أو الافراج عن المعتقلين، أو إيقاف جريدة الشعب، أو إحالة المدنيين إلى محكمة عسكرية؟ أو إلغاء الحراسة على النقابات المهنية.. وهلم جرا. ألا يدرك العقلاء أن من شأن ذلك مزيد من الاستقطاب فى المجتمع. ومزيد من الإقصاء للمعايير العادلة، وشيوع لغياب الاحساس بأننا فى مجتمع يحكمه القانون، دون تمييز.

طيلة أسبوع مضى، حبست مصر كلها أنفاسها على حافة عنف يُخشى أن يفلت زمامه. وكان حريًا بكل من أشفق على هذا البلد أن يتذكر صورة سكين الاسكندرية اللامع (أبريل ٢٠٠٦)، وصور صدامات العمرانية، وبعدها كل ما شهدناه نزق وعنف فى الأيام الأخيرة ويتساءل، والسؤال حق مشروع لمن لا يعرف: هل تذكرنا صور العنف «المنفلت» تلك كلها، بماشهدناه فى الانتخابات الماضية (ومن قبلها فى ٢٠٠٥) من صور عنف بلطجة سافرة غير مسبوقة؟ وبعضها يعرف الناس أنه كان بحماية، أو ربما بمشاركة، للأسف من الذين من المفترض أن المجتمع أوكل اليهم بحكم وظيفتهم مهمة حماية أمنه.

يومها، بدا أن أصحاب قرار اللجوء إلى «الهراوة» لضمان «أغلبية الثلثين» فى ٢٠٠٥، أو للاستبعاد التام للآخر فى ٢٠١٠، لم يدركوا خطورة أن يشيع فى المجتمع مفهوم: أن القوة/العنف هى السبيل «الوحيد» لكى تصل إلى هدفك (حقا كان أو باطلا).

ويومها بالضبط كما رأينا الآن فى مسألة نقاب الطالبات «العبثية» وغيرها لم يفكر بعضُهم كثيرا قبل أن يصرح فى الصحف «الرسمية» بأن أحكام القضاء التى صدرت عشية الانتخابات «لن يعتد بها».. هكذا (!) غير مدرك خطورة أن يتعمق لدى المواطن العادى شعور باليأس من اللجوء إلى التقاضى «سبيلا سلميا لحل المنازعات». وغير مدركٍ أنه عندما تُغلُ يد القضاءِ فى رد المظالم لأصحابها يصبحُ الأمن الاجتماعى مهددًا. كما يصبح مفهومُ الدولة ذاته فى خطر.

يومها مارس الجميعُ العنف.. ولكن تبقى حقيقة أن الدولةَ إذا مارست أو تواطأت أو غضت الطرف.. (وقد فعلت)، المسئولُ الأول.

هل تذكرون؟.. يومها أيضا (٢٠٠٥)، ولم تكن جولتها الثانية الهزلية قد أعلنت نتائجها بعد، إلا وكان البعضُ ولحساباتٍ انتخابية ضيقة قد أقحم الرقم القبطى فى حساباتِ السياسة، فلم يتورع عن الترويج لحالةٍ من «الفزع» لدى أقباط هذا الوطن. بعد أن نجح عددٌ من المواطنين «الإسلاميين» فى الوصول عبر صناديق الاقتراع إلى البرلمان.

ويومها وأيضا لحساباتٍ أمنيةٍ قصيرة النظر أجهض «أصحابُ القرار» محاولة سكندرية لتفاهم إسلامى مسيحى أساسه «المواطنة». كان قد بادرَ بها أولئك الذين أزعج البعضَ وصولهم للبرلمان، وكان من شأنها لو اكتملت أن توجد مناخًا «أفضل» من ذلك الذى بدا لنا أخيرا، لا أقول فى فرشوط أو نجع حمادى، وانما تحت قبة البرلمان، وفى المناقشات الصاخبة للبرامج التليفزيونية.

للمناخ «المحتقن» تاريخ من الأزمات التى تركت ندوبا هنا وجروحا هناك.

كما كان الاحتكام بشأنها إلى غير القانون «المجرد»، كفيل بإثارة شكوك بقيت فى النفوس، بعد أن تصور القائمون على الأمر أنهم «بالمواءمات» أو بدفن الجمار الملتهبة تحت الرماد البارد، قد نجحوا فى «احتواء الأزمة».

وأن الزمن كفيل بدفن التفاصيل. والأمر، يعرف المتصفحون للانترنت والمترددون على غرف المحادثة Chat Rooms، أنه لم يكن أبدا هكذا.


دعونا نقلب فى صفحات تاريخ قريب. لعلكم تذكرون كيف انفجرت فى وجوهنا جميعا أزمة السيدة وفاء قسطنطين (أواخر ٢٠٠٤)، وتذكرون كيف انضفرت تفاصيلها بالشائعات والغموض. اسمحوا لى أن أعود للتفاصيل: أشعل الفتيل الأول للأزمة وقتها ما قيل وتردد.. وتواتر؛ أننا بصدد حادثة اختطاف.

ومن المعلوم للجميع أن واقعة «اختطاف أنثى» وبغض النظر عن أى تمييز طائفى مرفوض هى فى القانون «المجرد» جناية، تستدعى تحقيقًا وتحريات وجمع أدلة لمعرفة الجانى إن كان ثمة جريمة أو لنفى الواقعة من أساسها. وهو أمرٌ، لو كان قد حدث لأظهرَ الحقيقةَ أيّا كانت ناصعةً.

ولنزعَ فتيل أزمةٍِ انتظرنا عليها حتى وصلت وقتها إلى العاصمة «بزحامها وحساباتها» تظاهرًا وصدامًا واستقواءً بقوى أجنبية؛ يعرفُ الكثيرون كم اقتربت من تخوم سيادة أردناها مصونة. ويعرف الجميعُ كم دفع أبناءُ هذا الوطن بعنصريه ثمنًا لذلك.

يومها، وبالضبط كما جرى فى التعامل مع «جناية» فرشوط التى قيل إنها أدت لما شهدته نجع حمادى بدا أن هناك من فضل أن يفسح القانونَ «المجرد» المجالَ للسياسة، وهى بحكم التعريف غير مجردة من حسابات «ولا نقول أهواء».

فرأينا من يومها من يتباهى علنًا بالتزوير فى أوراق رسمية «بدعوى درء الفتن». رغم حقيقة أن «التزوير» فى القانون المجرد جريمة! ورأينا من رجال التحقيق من يُفْرط أو يُفرِّط؛ مواءمةً أو استجابةً أو إرضاء. ورأينا من رجال الدين من كانت فتواه عن سياسةٍ، لا عن قرآن أو سنةٍ أو كتابٍ مقدس.

غاب القانون «المجرد» إذن، ليترك الساحة لرجال أمن أو دين أو أحزاب. وهؤلاء أو أولئك تحكمهم بحكم الوظيفة أو الانتماء حساباتٌ، هى بالتعريفِ ليست بحيادية القانون أو بتجرده.

والحاصلُ، أن الأزمة جرى حقا احتواؤها. ولكن جرى أيضا أن شعورا تأكد عند الأطراف جميعها، بأن الذى يتخذ القرار فى النهاية، يتخذه بناء على «حساباته»، وكل الحسابات يجوز فيها الخصمُ والإضافة. كما يصلح معها التوسلُ والشكوى، فضلا عن ماقد يُلَوَّحُ به من قريب أو بعيد. وليس هكذا حال «القانون» الذى نعرف. والذى لا تعرفُ عدالته «العمياء» غير الحكم «بظاهر الأوراق».

أيا ما كان أمر ما جرى.. ويجرى .. أو مازال فى بطن الغيب، فلابد بداية من الانتباه إلى أن «هيستريا رد الفعل»؛ صخبا اعلاميا، أو تجاوزا أمنيا (كما حصل فى واقعة مقتل المواطن «المسلم» السيد بلال) لن تؤدى إلا إلى استفزاز أخشى أن البعض لم يحسب نتائجه.

ثم علينا؛ نحن معشر أهل الكلمة أن نعود إلى القضية الأصلية.

قبل أن تتوه كما يحدث كل مرة وسط صخب الأضواء وغبار الاحتجاجات وشعارات التطمينات المستهلكة. ولعل لنا هنا على هامش القضية «الأصلية»، أو بالأحرى فى القلب منها أن نشير إلى عدد من الملاحظات والحقائق:
1 ـ لابد أن ندرك جميعا أن التنوع بحكم قوانين الطبيعة ثراء. وأن الاختلاف والتباين من سنن الخلق «.. ولذلك خلقهم» (هود 119). ويعلم المتخصصون أن التنوع يفترض وجود حالة من «التوازن الطبيعى» وأن لا مشكلة «طبيعية» هناك، ما لم تتدخل يد تعبث بهذا التوازن.

2 ـ إن العبرة ليست فى التنوع، وإنما فى كفاءة المجتمع/الدولة فى إدارة هذا التنوع. وأن لا سبيل لذلك إلا باعتماد ديمقراطية «حقيقية» وباحترام «مجردٍ» للقانون

3 ـ إن الذين بدا من مداخلاتهم، وكأنما يبحثون عن «إلغاء الدين» تأكيدًا لحقيقة أننا كلنا «مصريون متساوون» انما هم قوم حسنو النية، لن يسمع لهم غير دوائرهم النخبوية الضيقة جدًا (أرجوكم استمعوا الى الناس العاديين فى المقاهى والأسواق ومحطات القطار). الحكمة ليست فى انكار اختلافات هى موجودة فى الحقيقة، وانما فى ترويج ثقافة احترام الأخر؛ الذى هو «مختلفٌ» بحكم كونه «آخر».

ولا غضاضة أبدا فى ذلك. إذ ليس المطلوب طبعا أن «يؤمن» المسلمُ بأن المسيحى على حق فيما يؤمن به، كما أنه من غير المطلوب طبعا أن «يشهد» المسيحى بأن محمدا رسول الله.

فلكل دين عقيدته التى هى بالضرورة تختلف عن الأخرى فيما تراه «كفرا» وما تحسبه من «مقتضيات «الإيمان».

وعليه، يصبح من باب التزيد، أن يتحسس بعضهم من مقال «فقهى» كتبه يوما ما محمد عمارة فى مجلة الأزهر، أو أن يعترض الآخرون على ما يقوله القسس فى مدارس الأحد. أو أن تندلع «مظاهرات القصاص» احتجاجا لما قاله الأنبا بيشوى.. «لكم دينكم ولى دين» أظنه القول الفصل الكفيل إدراكنا الحقيقى له بنزع فتيل أزمات كثيرة.

4 ـ لا جديد، بالتأكيد، فيما كتبه محمد عمارة، فالكلام موجود ومعروف منذ أربعة عشر قرنا، كما أنه لا جديد أبدا فى ما يقال فى عظات الكنائس. فتاريخه أيضًا يمتد إلى قرون. ما هو الجديد إذن؟ لعله المناخ. أو بالأحرى لعلها تبعات السياسة.

وبعد..

نحن لا نتحدث هنا عن الجانى «المجرم» الذى حمل المتفجرات إلى بيت يُعبد فيه الله، ليقتل آمنين أبرياء، فهذه مهمة رجال التحقيق الذين نثق بهم.

كان الله فى عونهم. وإنما نحاول أن ننظر الى ما فى الصورة من تفاصيل اجتماعية، وثقافية وسياسية.

هى فى نهاية المطاف الأرضية التى يجرى عليها أى حدث أو «حادث».

كما أنها الاطار الذى تجرى فى نطاقه الأفعال، وأيضا ردود الأفعال. وهنا يستوقفنا مثلا أن العنف الذى أعقب الجريمة لفظًا وفعلًا لم يكن ضد الجانى أيا ما كانت هويته، وإنما ضد الدولة، أو بعض رموزها.

ثم.. لعله من الحكمة ألا ننظر الى ما جرى هنا وهناك على أنه «محض شأن طائفى.. لا غير»، كما من الحكمة ألا نرى صورة «السكاكين» المشرعة أمام كنيسة القديسين (٢٠٠٤)، أو الدماء المهدرة فى شوارع نجع حمادى الفقيرة (٢٠١٠)، أو تلك التى انفجرت فى وجوهنا جميعا قبل أيام، بمعزل عن المشهد السياسى العام المسكون بالعنف واليأس و«التعصب». كما يخطئ وربما قبل ذلك كله من يعتمد «الإقصاء» سياسةً، أيا كان المستهدف بها، «أقباطا أو أحزابا، أو أخوان مسلمين».. ثم يخرج علينا ليتحدث عن وطن «للجميع».

أيمن الصياد  كاتب صحفى
التعليقات