معنى جمال عبدالناصر - عبد الله السناوي - بوابة الشروق
الثلاثاء 16 أبريل 2024 4:19 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

معنى جمال عبدالناصر

نشر فى : الأربعاء 14 يناير 2015 - 8:20 ص | آخر تحديث : الأربعاء 14 يناير 2015 - 8:20 ص

«لقد فقدنا ثقتنا فى قيادتنا وحكامنا».

كانت تلك العبارة التى كتبها تحت وهج النيران فى فلسطين بينما الحرب تقترب من نهاياتها المفجعة أقرب إلى نقطة التنوير فى النص الروائى.

فى تلك اللحظة من أكتوبر (١٩٤٨) استقر يقينه أن التغيير يبدأ من القاهرة غير أنه فيما كتب بدفتر شخصى لم يزد حرفا واحدا عما ينتوى فعله.

لم يكن يدر إن كان سوف يعود أو لا يعود إلى القاهرة، أو يخطر بباله الدور الذى سوف يلعبه فى تاريخ بلده لكن بدا أمامه التغيير ضروريا.

بتلخيص رمزى سرت فى الجيش المهزوم روحا عرابية فى ظروف جديدة وعالم مختلف وأعاد الضابط الشاب فور عودته من ميادين القتال بناء الهيئة التأسيسية للضباط الأحرار.

بعد نحو سبعة عقود من هزيمة «أحمد عرابى» ونفيه خارج البلاد وإهانته على أوسع نطاق رد اعتباره داخل المؤسسة العسكرية قبل أن يرد فى كتب التاريخ.

تملكت عقول وقلوب الضباط الشبان فكرة التمرد دون أن تكون صورة المستقبل واضحة أمامهم.

كانوا جزءا من طاقة الغضب التى اجتاحت الحياة السياسية المصرية بعد الحرب العالمية الثانية على كل ما هو تقليدى متهالك وموروث سقيم من أفكار وسياسات ومواقف.

لم تكن فى طاقة الطبقة السياسية القديمة أن تضطلع بمسئولية طلب الجلاء الذى تصاعدت نداءاته بأثر مبادئ حق تقرير المصير التى سادت الخطاب العالمى فى ذلك الوقت وبدا العجز فادحا.

برزت على المشهد السياسى المضطرب قوى جديدة تدعو للتغيير فى بنية النظام الطبقى المجحف بالأغلبية الساحقة من المصريين، ووصلت رياح التغيير إلى قلب حزب «الوفد» نفسه ونشأت من بين صفوفه «الطليعة الوفدية» الأميل إلى اليسار برعاية زعيمه «مصطفى النحاس» لكن القوى القديمة كانت لها الكلمة العليا.

كان «النحاس» زعيما وطنيا حاز شعبية هائلة تعرضت للتآكل الفادح بعد اتفاقية (١٩٣٦) التى أفضت رغم مثالبها الخطيرة إلى دخول جيل جديد من أبناء الطبقة الوسطى وصغار الموظفين الكلية الحربية من بينهم «جمال عبدالناصر» ورفاقه.

فى اللحظة التى ألغى فيها «النحاس» نفسه هذه الاتفاقية عام (١٩٥١) «باسم الشعب» انتهت صفحة كاملة من التاريخ المصرى قبل أن تتحرك دبابة واحدة صبيحة (٢٣) يوليو من العام التالى.

بإلغاء الاتفاقية انفسح المجال واسعا أمام القوى الوطنية الشابة لحمل السلاح فى منطقة قناة السويس، وكان الضباط الأحرار فى قلب المشهد التاريخى، فقد ساعدوا بقدر ما استطاعوا على تدريب الفدائيين وشاركوا بأنفسهم بقدر ما هو متاح فى قتال قوات الاحتلال واستهداف معسكراتها، وتسجل مذكرات «كمال رفعت» أحد أبرز وجوه يوليو القصة الكاملة.

لم تكن لدى «عبدالناصر» ورفاقه خطة للإمساك بالسلطة لكنها سقطت كاملة بسهولة لم يتوقعوها، فقد كان كل شىء متهالكا كجدار هش ينتظر من يزيحه.

فى لحظة السقوط تبدت قدراته على إدارة المواقف الصعبة. أطاح الحكومة ولم يكن يستهدف ذلك فى البداية عندما رأها تترنح أمامه، وأطاح الملك نفسه ولم يكن مخططا إطاحته عندما رأى نظامه يتهاوى أمام نظره، تقدم بثبات أستاذ التكتيك العسكرى فى الكلية الحربية وأسس لعصر جديد.

فى الفلكلوريات السياسية الشائعة أن يوليو بدأت انقلابا قبل أن تتحول إلى ثورة، وهذا صحيح من زاوية الدور الذى لعبته فى تغيير البنية الطبقية لمجتمعها وقيادة محيطها العربى وقارتها الإفريقية إلى أوسع موجة استقلال وتحرر وطنى غير أنه يفتقد إلى الإنصاف الضرورى للتاريخ المصرى.

أريد أن أقول بوضوح أن ما جرى يوم (٢٣) يوليو يصعب تلخيصه فى مشهد حركة الدبابات أمام قصر عابدين.

خرجت يوليو من داخل الحركة الوطنية الشابة بأفكارها وأحلامها وإحباطاتها والروح الراديكالية التى سادتها فى طلب الجلاء والتغيير، من داخل السياق لا من خارجه.

وهذا وحده ما يفسر ما جرى بعد ذلك من تطورات كبرى استحقت بموجبها صفة «الثورة».

من اللحظة الأولى فإن يوليو «مشروع ثورة» حسمت شخصية «عبدالناصر» وتوجهاته اندفاعها فى هذا المجرى.

التصميم السياسى هو العنوان الأكبر لتجربته كلها، لم تكن أفكاره مكتملة على أى نحو واكتسبت نضجها بالوقت غير أنه لم يكن مستعدا أن يتردد فى إعلان انحيازاته الكبرى أو أن يتخذ ما هو ضرورى من إجراءات أعادت صياغة الخرائط الاجتماعية من جديد.

كان جسورا بطريقة تكاد لا تصدق. بأية حسابات تقليدية فإن تأميم قناة السويس مجازفة هائلة. لم يكد يتولى رسميا رئاسة الجمهورية حتى جازف بمنصبه وحياته بإعلان تأميم قناة السويس دون أن يكون تقريبا أحدا من رفاقه يوافقه كاملا على هذا القرار المصيرى.

فى وقت واحد استجاب لتحدى بناء السد العالى كرافعة للتنمية اعتمادا على موارد قناة السويس بعد رفض البنك الدولى تمويل مشروعه وإلى تحدٍ آخر أكثر عمقا فى الضمير العام الذى استقرت فيه مشاعر الإذلال والتنكيل من جراء قناة السويس التى باتت مصر رهينة لها.

أمام التحديات الكبرى أعاد المصريون اكتشاف أنفسهم وأنهم قادرون على مواجهات السلاح مع محتليهم السابقين بالإضافة إلى قوة امبراطورية ثانية هى فرنسا وقوة إقليمية هزمتنا قبل سنوات فى فلسطين.

لم يكن ممكنا أن يتصور عاقل أن بوسعنا أن نهزم عسكريا امبراطوريتين ومعهما إسرائيل غير أنه تمكن بعزيمته وإرادة المقاومة من أن يقاتل مرفوع الرأس وتدفق المتطوعون إلى بورسعيد للدفاع عن كبرياء بلد كان ملكه وحكومته يتلقيان التعليمات قبل أربعة أعوام من أصغر موظف فى السفارة البريطانية.

استنهاض الهمة العامة وتجلى الكبرياء الوطنى من أعمق ما رسخ فى التجربة الناصرية، ولم يكن ذلك عشوائيا، فلكل شىء ثمنه فى التاريخ.

فضيلته الكبرى أنه كان يصدق نفسه فصدقه شعبه ودخلت مصر كلها فى أوسع عملية بناء فى تاريخها.

ثار على نظامه مرتين، الأولى فى مطلع الستينيات بتحولات اجتماعية لا مثيل لها فى التاريخ المصرى كله، وكأى تجربة إنسانية كانت هناك أخطاء بعضها أقرب إلى الخطايا غير أن المسار العام حكمه مشروع وطنى يلهم ويغير فى بلده ومحيطه وعالمه.. والثانية فى أعقاب هزيمة (١٩٦٧) الفادحة التى استهدفت مشروعه من بين ثغرات نظامه، وأكثر ما أوجعه أن ما ثار من أجله بعد نكبة (١٩٤٨) رآه يتقوض أمامه، وبأى معيار طبيعى فإنه كان لابد أن يغادر الحكم، تنحى وأعلن تحمله المسئولية، غير أن المصريين العاديين كانت لهم كلمة أخرى بحس تاريخى متوارث وعميق يتجلى دائما فى اللحظات الصعبة، تدفقوا إلى الشوارع والميادين، فى مصر ودول عربية كثيرة، تطالبه بالبقاء وتعلن المقاومة، وكان ذلك حدثا استثنائيا فى التاريخ أن يطالب شعب قائده المهزوم أن يبقى وأن يقود وأن تشاركه أمته الطلب ذاته.

ما هو عميق يبقى ليؤثر بعده، لا معنى بلا قضية ولا دور بلا ثمن.