د. الإمام: رحلة عالم مع ثلاثية التخطيط والتنمية والتكامل - محيا زيتون - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 4:35 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

د. الإمام: رحلة عالم مع ثلاثية التخطيط والتنمية والتكامل

نشر فى : الأحد 14 فبراير 2016 - 10:00 م | آخر تحديث : الأحد 14 فبراير 2016 - 10:00 م
مناسبة رحيل أستاذنا الجليل د. محمد محمود الإمام، هى بلا شك مناسبة للحزن والأسى. ولكن عزاءنا أن ما نمر به من ألم ومرارة الحياة يمدنا فى الوقت نفسه بالقوة والمثل العليا، التى تمكننا من استكمال المسيرة. وسوف أبدأ بالمدخل المعتاد وهو السيرة الذاتية المختصرة لهذا العالم الكبير. لقد ولد فى عام 1924، وحصل على بكالوريوس الاقتصاد عام 1945 ودكتوراه الاقتصاد السياسى عام 1957. واشتغل بتدريس الاقتصاد والإحصاء فى الجامعات المصرية. وساهم فى وضع أول خطة خمسية للتنمية فى مصر، كما عمل فى مجال تقييم أداء خطط التنمية بالجهاز المركزى للمحاسبات، ثم مديرا لمعهد التخطيط القومى. وعين وزيرا للتخطيط فى سبعينيات القرن الماضى. وتولى رئاسة البرنامج الإنمائى للأمم المتحدة فى مجال التخطيط والتكامل الاقتصادى. وشغل منصب مساعد رئيس صندوق النقد العربى، ومناصب مهمة أخرى متعددة.

لكن السيرة الذاتية للدكتور الإمام تبدو فى أفضل صورها من خلال مسيرته العلمية وكفاحه من أجل قضايا محورية دارت حول ثلاثية «التخطيط والتنمية والتكامل». فقد امتلك ناصية تلك القضايا وكون تراكما معرفيا ضخما وخبرات عملية غير مسبوقة. وكان تناوله لهذه القضايا يتسم بالشمول والتواصل. فالتخطيط يُدرس ويُمارس لخدمة التنمية، والتنمية بدورها تعد قضية محورية لتحقيق التكامل الاقتصادى العربى. أما التكامل فهو المرحلة الأسمى والهدف العزيز عند الإمام لقناعته وأنا معه بأن التكامل هو أمل العرب فى بناء قوة اقتصادية وسياسية مستقلة ومؤثرة عالميا. ورغم علمه الغزير، لم يكن الإمام من فئة المحترفين الذين يسعون لبيع علمهم ووقتهم مقابل المال. بل إنه كان من هواة العلم والثقافة، يحب ويؤمن بما يفعله، وينأى بنفسه عن أن يصبح ترسا فى آلة السوق والعولمة التى كادت تقضى على ما تبقى من قيم أكاديمية رفيعة.

***
ولعلها مفارقة غريبة أن يتولى الإمام وهو الاشتراكى الناصرى، منصب وزير التخطيط فى مصر فى بدايات تطبيق سياسة الانفتاح الاقتصادى عام 1976. إذ كان الانفتاح نقطة تحول فارقة فى تاريخ مصر الاقتصادى بانتقالها من سياسة ذات توجه اشتراكى إلى سياسة ذات طابع رأسمالى. ولكن كما هو الحال دائما، تفتقر أنظمتنا إلى الشفافية. فعندما تبدأ سياسة جديدة لا يتم الكشف عن جميع أبعادها وخفاياها، بل يُعلن فقط عما قد يبدو على السطح إصلاحيا وجذابا فيها. وبدلا من أن يبدأ الإمام مهامه فى الوزارة بلا تصور ومعرفة بحقائق الأمور، انتظارا لتعليمات تأتيه من أعلى، إذا به يضع وثيقة بالغة الأهمية أعدها بنفسه، وأبى أن يترك كتابتها للمستشارين والمعاونين. وعنوان الوثيقة هو «تساؤلات حول استراتيجية التنمية». وبإمعان النظر فى هذه الوثيقة، نجد أن المقولات والتساؤلات التى طرحها الإمام فيها منذ أربعين عاما مضت لم تزل صالحة لمصر وللعالم العربى اليوم. ولو أنه قد جرى التعامل مع هذه الوثيقة بالجدية الواجبة، لكان فى الإمكان صياغة استراتيجية محكمة ووضع وتنفيذ خطط سليمة للتنمية، ولكان حالنا أفضل كثيرا مما هو عليه الآن.

وفى كتابة هذه الوثيقة، لم يتنازل الراحل العظيم عن منهجه ومبادئه، ولم يسر رغم مركزه الرسمى، فى موكب المنافقين وأصحاب المصالح المنادين بالانفتاح دونما حدود أو ضوابط. بل نراه قد حدد فى وثيقته ما يعتبره شروطا ضرورية لنجاح السياسة الجديدة. ومنها تأكيده أن «الانفتاح الاقتصادى يُزيد من أهمية التخطيط، لأن خير وسيلة لاجتذاب المستثمر هى أن نعرض عليه مشروعات مدروسة مرتبطة بعضها ببعض. وأن نجاح أى مشروع بذاته يتوقف إلى حد كبير على تقدم الاقتصاد فى مجموعة واطراد التنمية». كما أكد على أهمية القطاع العام فى التنمية بقوله إن «دور القطاع العام فى المرحلة المقبلة بالغ الأهمية. وفى ظل سياسة الانفتاح وتشجيع القطاع الخاص والاستثمار الأجنبى، يظل القطاع العام هو الأداة الأساسية لنجاح أى خطة للتنمية، وهو الذى يتولى المشروعات الكبرى للتعبير عن الإرادة الوطنية فى تشكيل اقتصادنا القومى».

وحول أهمية التصنيع والتقدم العلمى، ذكرت وثيقة الإمام، أن التصنيع ضرورة حتمية على المدى البعيد. وإذا كان علينا الدخول فى عصر العلم والتكنولوجيا، فلا يمكن أن نطمئن إلى العيش على ما ينتجه الغير فى هذا الصدد. وانتقد تجارب التكامل العربى من خلال عدد من التساؤلات الاستنكارية، مثل: هل أدت السوق العربية المشتركة الدور المرتجى منها، وإلى متى تترك أمور التكامل لاجتهادات ثنائية أو تحركات تلقائية؟ وهل يُكتفى فى تنظيم التكامل بمجلس يرسم السياسات ويتخذ القرارات وأمانة عامة تتابع تنفيذها؟!

***
وقد ضمن د. الإمام خلاصة فكره وعلمه وخبراته فى ثلاثة كتب شديدة التميز أصدرها مركز دراسات الوحدة العربية ومعهد الدراسات العربية، تناول فيها قضية عمره وقمة ثلاثيته: «التكامل العربى». وتعد هذه الكتب مرجعا أساسيا لأى باحث أو قارئ يسعى لاكتساب المعرفة فى موضوع التكامل عموما والتكامل العربى خصوصا. وأعتقد أنه فى هذه الكتب تكمن السيرة الذاتية الحقيقية وخلاصة كفاح هذا العالم الفذ من أجل ثلاثية التخطيط والتنمية والتكامل. ويفتح أمامنا د. الإمام باب الأمل بقوله أنه يجب ألا نكون شديدى التشاؤم بالنسبة للوضع العربى، وأن التخوف والقلق يجب ألا ينصب على فشل التجربة بقدر ما يجب أن يتعلق بمدى القدرة على النهوض والاستفادة من دروس الماضى.

ولا يمكن تصور كتابات للدكتور الإمام دون أن يتعرض للمبادرات الشرق أوسطية التى تقدمها القوى الغربية المهيمنة. فقد نبه إلى خطورة أن تأتى مبادرات التكامل من هذه القوى الخارجية، لأنها ستشكل على هواها ووفقا لمصالحها. وفضلا على ذلك، فإن هدف هذه القوى هو تقويض أية إمكانية للتكامل العربى عن طريق إدماج إسرائيل التى لا يخفى خطرها الجسيم على الوطن العربى. ولذا فقد تناول هذا الكتاب مشروع بيريز عن «الشرق الأوسط الجديد» الذى استهدف الجمع بين الأموال والأيدى العاملة العربية، وبين المعرفة التكنولوجية الإسرائيلية. كذلك مبادرة الرئيس بوش الأب «الشرق الأوسط الأكبر» التى وضعت فى غلاف براق من المساعدات ووعود التنمية. وهكذا أصبحت منطقتنا مستباحة لكل من ينتهز فرصة تراخينا وتخاذلنا وعجزنا عن تحقيق تنمية جادة وتكامل راسخ يؤمن لنا مكانة لائقة بين الأمم.

وفى ختام موسوعته عن التكامل رسم لنا الإمام بعناية فائقة مشروعه لتطوير التكامل فى الوطن العربى، وذلك انطلاقا من خلاصة التجارب الإقليمية المتعددة التى درسها. وقد ابتدأ بمراجعة المواقف ونقائص التنمية، ثم عرض المعالم الأساسية لمشروعه فى المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، مبينا المراحل الثلاث التى يتعين المرور بها، ألا وهى: مرحلة التنمية المتكاملة، ثم مرحلة التكامل الإنمائى، ثم مرحلة التكامل التام.

***
وأخيرا، فإن د. الإمام قد تطلع وكافح وكتب وشهد إخفاقات وإحباطات التنمية والتكامل. كما حدد لنا الخطوات الضرورية على طريق الخلاص من التخلف والتشرذم. وفى سياق رثائه تلح على تساؤلات موجعة: هل يمكن أن يذهب هذا الجهد الخارق سدى؟ وهل ستظل الدول العربية تسير فى ركاب القوى الخارجية فرادى على حساب تفككها الداخلى؟ وإلى متى ترضى بأن تظل توابع لقوى كبرى بينما الطريق الذى يقودها إلى التقدم والرخاء والمكانة العالمية قد رسمت معالمه من جانب الراحل الكبير ومن جانب نفر من رفاقه ومن سار على دربه من تلاميذه؟ وإزاء هذه التساؤلات لا أملك إلا الرجاء بألا يخبو الأمل فى خضم ما يلاقيه الوطن العربى من أزمات طاحنة، والأمل أن تكون الأزمات دافعا لتقوية العزائم وحافزا للهمم، وأن تعى الأجيال الشابةــ مثلما وعى الأستاذ الإمام، أنه لا بديل عن الإيمان بقضايانا المصيرية والعطاء بلا حدود من أجل نهضة ووحدة عربية شاملة.


أستاذة الاقتصاد بجامعة الأزهر
محيا زيتون  استاذ الاقتصاد بجامعة الازهر
التعليقات