شرط المحبة الجسارة: الشيخ إمام ومواويل العشق والثورة - ياسر علوي - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 1:55 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

شرط المحبة الجسارة: الشيخ إمام ومواويل العشق والثورة

نشر فى : الجمعة 14 مارس 2014 - 11:20 ص | آخر تحديث : الجمعة 14 مارس 2014 - 11:20 ص

-1-

في عيد الفن، نستمع اليوم لنماذج لفن أصيل ورائع، ولكنه غائب عن الاحتفالات الرسمية "بالعيد".

موعدنا مع الفنان المقتدر الشيخ إمام، رائد الفن الاحتجاجي في الغناء العربي. وقد اخترت اثنين من أجمل أغانيه. نبدأ أولا مع اللحن الرائع "يمه مويل الهوى" كلمات أحمد فؤاد نجم، مقام الحجاز.

-2-

الغناء الاحتجاجي هو فرع من لون غنائي أكثر شهرة وشيوعًا في الغناء العربي هو الغناء الوطني. ما الفارق بين الاثنين؟

المسألة ببساطة، أنه في مرحلة الاحتلال الأجنبي، كان التعامل الغنائي مع الهم العام يأخذ عادة شكل الاشتباك مع المستعمر طلبًا للجلاء. بهذا المعنى، كان كل غناء سياسي في تلك المرحلة بالضرورة غناء وطنيًا، يستنهض الهمة الوطنية في مواجهة المحتل الأجنبي.

-3-

أما بعد الاستقلال، فقد انقسم الغناء الوطني لقسمين. الأول، والأكثر شهرة، هو الغناء الذي واكب دولة "التحرر الوطني" بانتصاراتها وانكساراتها. والمثال الأشهر هنا – والأقيم من الناحية الموسيقية، هو أغاني المرحلة الناصرية في مصر، والتي تستحق عودة مفصلة لها في مقال قادم.

أما النوع الثاني، فقد عبر عن عشقه للوطن من خلال إيمانه بأن مواجهة المستبد المحلي لا تقل أهمية عن الصراع مع المحتل الأجنبي. الشيخ إمام هو رائد هذا النوع من الغناء، من خلال تجربته الثرية مع رفيق دربه أحمد فؤاد نجم، التي أسست للون غنائي وتقليد فني استمر في مصر، من خلال فنانين موهوبين مثل محمد عزت، وأحمد إسماعيل، وحازم شاهين، وفرقة إسكندريلا، كما وجدت أصداء وتجارب موازية لها في لبنان (الثنائي جوزيف صقر وزياد رحباني، ومارسيل خليفة، والتجربة القصيرة لفرقة "شحادين يا بلدنا" بقيادة زيادة سحاب)، وفي العراق (من خلال الفنان العظيم جعفر حسن وفرقة "الطريق"). أوصي بالبحث والاستماع عن أعمال هؤلاء الفنانين، وهي متوافرة على يوتيوب، ستجدون وجبة فنية وطربية حقيقية، فضلا عن القيمة السياسية الواضحة لهذه الأعمال.

-4-

لكن من المهم هنا أن نذكر أنه ليس كل غناء ثوري بطبيعة الحال غناء جيدًا. وهذه قضية مهمة جدًا في نظري. فلا يكفي أن تكون ملتزمًا سياسيًا ووطنيًا ليكون إنتاجك الفني يستحق أن يسمع بإمعان وأن يحتفى به. الفن يجب أن يكون فنًا جيدًا أولا وقبل كل شيء، وإن كان بعد ذلك ملتزمًا سياسيًا ووطنيًا، فأهلا وسهلا، وإلا "فالله الغني"!!

من هنا، اكتفيت في الأمثلة التي ذكرتها في الفقرة السابقة بأعمال فنانين ذوي قيمة فنية وطربية واضحة، بعكس تجارب أخرى اكتفت "بالالتزام الثوري" بدون قيمة فنية تذكر (مثال: تجربة الثنائي عدلي فخري وسمير عبد الباقي في مصر، وتجربة خالد الهبر في لبنان، وغيرها).

-5-

هذا الجمع بين القيمة الفنية، شعرًا ولحنًا وأداء، يظهر بوضوح في أغنية "يمه مويل الهوى" التي استعار نجم مطلعها من الفلكلور الفلسطيني، ويعني "يا أمي، مويل (تصغير الموال) الهوى، هو موالي". أي، يا أمي، قصة العشق هذه هي قصتي. ثم يكمل بشكل حاسم "طعن الخناجر ولا حكم الخسيس فيا".

-6-

هذا الهاجس الدائم بفكرة حكم الندل/الخسيس في الشخص الأصيل، يعد فكرة مركزية في شعر العامية المصرية منذ بداياته الأولى مع مربعات ابن عروس، الذي يفترض أنه عاش في العصر العثماني (وإن كان هناك خلاف حول ما إذا كان شخصية تاريخية حقيقية). وهو هاجس طبيعي في شعر يفترض أن يعبر عن هموم عموم المواطنين في مصر المحروسة، وصراعهم الطويل مع حكم كل خسيس، أجنبيًا كان أم محليًا.

وفي هذا المعنى قال ابن عروس (أوعى تقول للندل يا عم/ ولو كان على السرج راكب/ ولا حد خالي من الهم/ حتى قلوع المراكب). وقال أيضًا (خشب المراكب من السنط/في البحر واخد مهاجه/ واجب ع الحر يتبع الصمت/ لما الندل ياخد مهاجه).

وبالتالي، فإنه من حيث الفكرة الأولية، فإن أحمد فؤاد نجم يكتب هذه القصيدة في إطار تقليد راسخ في شعر العامية المصرية، منذ نشأته التاريخية قبل 500 سنة مع ابن عروس.

-7-

لكن نجم لا يستنسخ الفكرة بشكل أعمى، وإنما يعيد إنتاجها بمضمون ثوري شديد التقدمية. يتضح ذلك من الكوبليه الأول الذي يفارق بوضوح التقليد الداعي للصبر على الجار السيئ أو الحاكم الندل حتى يرحل أو تنتهي دولته (ياخد مهاجه، بتعبير ابن عروس). ويقرر أن الصبر حلم العواجز، ويدينه. وهي فكرة ثورية تتكرر في كثير من قصائد نجم الأخرى (فيقول في قصيدة بيانات على تذكرة مسجون "الاسم صابر ع البلا أيوب حمار"، ويقول في قصيدة الطنبور "صبرك ع المساوي..بيزيد البلاوي"، وهكذا).

ثم ينتقل في الكوبليه الثاني من نقد شيخ الطريقة المراوغ، والذي يهرب من الإجابة عن الأسئلة، إلى وصفة الطبيب الحاسمة بأن "الدوا بإيديا"، ليصل في الفقرة الأخيرة مخاطبا مصر للنتيجة الحتمية بأن "شرط المحبة الجسارة". فيختتم من حيث بدأ بتكرار الموقف الرافض للصبر والاستكانة، والمتمسك بالجسارة شرعا للقلوب الوفية.

-8-

هذا عن المضمون، أما الشكل، فيخوض فيه نجم تجربة شديدة الطرافة، تتمثل فيما يمكن تسميته مجازًا "بنص دائري". ما المقصود بذلك؟

المقصود أن النص مكون، بالإضافة للمقدمة المقتبسة من التراث الفلسطيني/المصري، من 3 مربعات، يتكون كل منها من شطرين بقافية واحدة، ثم يكرر الشطرين الأخيرين نفس القافية في البيت الافتتاحي، ليحيلانا مجددًا إليه.

وهكذا، تتطابق في المربع الأول قافية البيتين الأولين (الأماني/مكاني) ثم تعود قافية البيتين التاليين للتطابق مع قافية البيت الافتتاحي (إيديا/عليا.. والتي تتطابق مع "حكم الخسيس فيا"). وتتكرر اللعبة في المربع الثاني ("سؤالي/حالي"، ثم "بيا/إيديا")، ثم في المربع الثالث ("شقايا/دوايا"، ثم "عفية/الوفية"). وهكذا نعود في نهاية كل مربع لنفس قافية البيت الافتتاحي للقصيدة، تأكيدًا على فكرته الأساسية.

-9-

يترجم الشيخ إمام هذا الكلام لحنيًا بشكل يعكس فهمه العميق لبنية القصيدة. فالشيخ إمام يختار أولا قالب الطقطوقة، بطبعته التقليدية (مذهب، ثم أغصان ملحنة كلها بنفس اللحن، ويتكرر أداء المذهب في نهاية كل منها). هذا البناء يكرس تمامًا فكرة الطابع الدائري لكلمات القصيدة، في نموذج ممتاز على ملحن يفهم ما يلحن ويستوعبه، ويفهم وظيفة اللحن في إبراز المعنى والبنية للشعر الذي يلحنه. شغل معلم حقيقي وملحن قدير.

-10-

ولأن الكلمات متصلة تماما بالموروث الشعبي للشعر العامي المصري، جاء اللحن بسيطا وبدون فذلكة، ليناسب هذه الروح الشعبية للكلام.

يبدأ اللحن بموال قصير، ولكنه جميل، تقال من خلاله الأبيات الافتتاحية أولا كموال من مقام الحجاز، ثم تتكرر غناء من نفس المقام.

أما الكوبليهات، فبنيت على النحو التالي: البيتان الأولان من الحجاز (نفس مقام المذهب) ثم نقلة في البيت الثالث إلى مقام الراست، وأخيرًا يعود البيت الرابع بقفلة رائعة لمقام الحجاز، لنصبح مهيئين لترديد المذهب مجددا من هذا المقام.

هكذا، في الكوبليه الأول مثلا، نبدأ بالحجاز، وحتى جملة "شايف غيطان البشاير" التي تذهب بنا لمقام الراست، لنعود للحجاز مع القفلة "مارضيش يرفرف عليا".

غير ذلك، ليس هناك ما يقال عن اللحن سوى عذوبته الشديدة وبساطته الماكرة، التي تختزن حالة شجن عذبة تتطابق مع مضمون وروح الكلمات. في هذا التطابق، وفي تلك البساطة الماكرة، تكمن بالتحديد عبقرية هذا اللحن، وعظمة ملحنه المتمكن.

أما عن الأداء، فحدث ولا حرج، فالشيخ في هذا التسجيل متسلطن بطريقة استثنائية، يؤدي ويجود ليس فقط بالمعنى الحرفي للكلمة (أي بمعنى الإجادة)، وإنما أيضا بالمعنى القرآني للكلمة. فالمستمع الراسخ يلاحظ فورًا جذور الشيخ إمام كقارئ للقرآن، التي تحكم خياله الفني وارتجالاته في التعامل مع حروف المد بشكل خاص. راقبوا بالذات أداءه للكوبليه الأخير، وارتجالاته الرائعة في كلمة "يا مصر" التي يترنم بها وكررها بوجد وسلطنة وكأنه يؤدي "تسابيح وطنية"!! شيء رائع فعلا.

-11-

أما التسجيل الثاني الذي نسمعه اليوم، فهو للحن الجميل "رجعوا التلامذة"، من كلمات أحمد فؤاد نجم أيضًا، ومقام راست-سوزناك.

-12-

كتبت هذه القصيدة ولحنت في فبراير 1968، في خضم الحراك الطلابي العظيم المحتج على الأحكام المخففة لقادة الطيران والنكسة. وكان أول حراك طلابي بهذا الاتساع تشهده مصر منذ حركة العمال والطلبة عام 1946 (التي وقعت خلالها جريمة فتح كوبري عباس الشهيرة). من هنا جاء مطلع القصيدة "رجعوا التلامذة يا عم حمزة".

فاختيار "عم حمزة" لم يتم لضرورات السجع، وإنما كان معارضة شعرية (تستخدم نفس شخص المخاطب، ونفس الوزن والقافية) لقطعة زجلية بعنوان "يا عم حمزة إحنا التلامذة"، كتبها محمود الحفني ("الناشط الطلابي" آنذاك، أو "الناشت الحكوكي" كما كان يمكن لإعلام القصر والإنجليز وبصاصيهم أن يسميه، وهو المؤرخ الموسيقي الشهير لاحقًا، ووالد د. رتيبة الحفني) في معتقل القلعة في مارس 1919، احتجاجًا على اعتقال سعد زغلول، ومنعه من تمثيل مصر في مؤتمر الصلح في باريس، الذي أنهى الحرب العالمية الأولى، للمطالبة بالاستقلال ورفع الحماية.

-13-

عم حمزة هذا، كان شاويشًا للمعتقل، رفض أوامر المعاملة السيئة للمعتقلين، وتعاطف معهم فخلده الحفني بقصيدته. وبات "عم حمزة" شخصًا حاضرًا في القصائد السياسية، فعارض صلاح جاهين أولا قصيدة الحفني بقصيدته "يا عم حمزة إحنا التلامذة.. جن وبلاوي مسيحة"، قبل أن يعارضها أحمد فؤاد نجم ثانية عام 1968.

ومن هنا، فإن مطلع القصيدة، باختيار شعري مزدوج (يقوم من ناحية على البدء بجملة "رجعوا التلامذة يا عم حمزة"، ومن ناحية ثانية على معارضة قصيدة الحفني قافية ووزنا) يشير ببلاغة تلغرافية رائعة إلى اتصال كفاح الطلاب المصريين في عبر العقود ضد كل ظلم واستبداد.

-14-

أما من حيث الشكل والبناء، فالقصيدة مكونة من ثنائيتين (أي بيتين بنفس القافية، الثنائية الأولى تبدأ برجعوا التلامذة وحتى "قطف الأماني"، والثانية تبدأ بـ"لا كورة نفعت" وحتى "جدل بيزنطة").

ويلي ذلك رباعيتان تتكون كل منهما من 3 أبيات بقافية واحدة، ثم تختتم ببيت رابع يستخدم نفس قافية الثنائية الأولى (تاني/الأماني). هكذا، تستخدم الأبيات الثلاثة الأولى في الكوبليه الأول نفس القافية (الصحفجية/القضية/صهبجية)، ثم تختتم بكلمة الأغاني على نفس قافية (تاني/ الأماني). وتتكرر اللعبة في الرباعية الثانية (الجناين/خاين/عاين ثم أمريكاني على وزن تاني/الأماني).

هذا التركيب مليء ليس فقط بقوافي سهلة التلحين (تقوم على حروف المد، الألف

والياء، التي تتيح للملحن مساحة أوسع للحركة مقارنة بالحروف الساكنة)، وإنما

أيضا بموسيقى صاخبة وسجع وجناس واضحين. فماذا عن اللحن؟

-15-

القصيدة وضعت لكي تغنى من مجموعات كبيرة نسبيا (المساجين أو الطلاب). يستوجب ذلك أن يكون اللحن سهلا، قابلا للحفظ والترديد، ومتجنبا النقلات المقامية المعقدة أو التي تحتاج لقدرات صوتية لا تتوفر بالضرورة في جموع المرددين. هذا يختلف جذريا عن ألحان الشيخ إمام التي وضعت لتسمع لا لتردد جماهيريا (مثال: قيدوا شمعة يا أحبة، وأنا أتوب عن حبك).

بالمقابل، فإن طريقة بناء القصيدة تستدعي إحداث نقلة لحنية ومقامية تواكب الانتقال في بنيتها من الثنائيات للرباعيات. فكيف تم التوفيق بين ما تحتاجه هذه النقلة من تغيير في بناء اللحن، وبين ما تحتاجه طبيعة اللحن وضرورات ترديده جماهيريًا من سلاسة وعدم تعقيد؟

-16-

وجد الشيخ إمام، ببساطة عبقرية، الحل في اختيار مقام راست-سوزناك، أحد فروع مقام الراست. كيف؟

يتميز هذا المقام بأن سلمه الموسيقي يتكون من قسمين، القسم الأول (يسمى جذع المقام، وهو أول 4 درجات، أي درجات، دو، ري، مي، فا) من مقام الراست، أما الثاني (ويسمى "الفرع" وهو الدرجات الثلاث المتبقية: صول، لا، سي) فتنتقل لمقام الحجاز. يعني هذا، أن مقام راست-سوزناك هو، بشكل ما، مزيج من مقامي الراست والحجاز. ما دلالة ذلك؟

دلالة ذلك ببساطة، أنك تستطيع أن تقول الثنائيات في مطلع القصيدة من جذع المقام فتكون راست، ثم تنتقل لفرع نفس المقام في الرباعيات فتكون حجاز.. كل هذا بدون أن تخرج عن مقام الأغنية!!

يعنى أننا نبقى في نفس المقام، بما يسهل حفظ وترديد اللحن من أطراف غير مدربة موسيقيا، وهي طبيعة أي لحن موضوع لتردده جماهير كبيرة، ولكننا نقوم أيضا بنقلات بين جذع المقام وفرعه تغير في طبيعة اللحن بشكل يوازي التغير في بناء الكلمات.

بهذه اللعبة البسيطة، يبدع الشيخ إمام توليفة عبقرية تجمع بين البساطة وسهولة الحفظ، والتنوع المقامي. إيه رأيكم بقى؟؟

بخلاف ذلك، اللحن شعبي وسهل ورائع، ويتميز بنفس القفلات الحريفة التي يجيدها كل تلامذة مدرسة زكريا أحمد (مثال: الشيخ إمام، وسيد مكاوي)، وفيها الشق الفكاهي في الغناء والإلقاء (ملعون أبوك...الخ) بما يناسب أجواء القصيدة الساخرة.

استمتعوا، وتسلطنوا، وترحموا على الثنائي العظيم نجم والشيخ إمام. وأوصيكم بالاستماع للكنز الموسيقي الرائع الذي تركه الشيخ إمام، والذي بنى عليه أشياعه وتلاميذه في مصر ولبنان والعراق، تلك الصحبة الرائعة من منشدي مواويل العشق والثورة. موعدنا الأسبوع القادم.

 

ياسر علوي  كاتب وأكاديمي مصري
التعليقات