أنا الضابط - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 1:54 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أنا الضابط

نشر فى : السبت 14 مارس 2015 - 12:50 م | آخر تحديث : السبت 14 مارس 2015 - 12:50 م

امتلأت الغرفة الضيقة المتاحة للانتظار بنساء ورجال، يحمل كلُ منهم مشكلة يُمنّى نفسه بحلها. مع انشغال مُدير المُنشأة الصحية عنهم باجتماع ما، تكدّس المنتظرون قعودا ووقوفا حتى لم يعد هناك براحٌ للتنفس. ظهر رجلٌ متوسط العمر على باب الغرفة يُصرّ على مقابلة المدير، ويؤكد للسكرتيرة أنه لا يقبل بالتعامل مع مَن ينوب عنه. صارت الأمور إلى جدل استغرق دقيقتين ثم ذكر الرجل فى نبرة حاسمة أنه «عقيد» فأنهى الموقف لصالحه، وأنهى كذلك اجتماع المدير، وبقى المنتظرون فى أماكنهم صاغرين.
فى مشهد آخر شبيه لم تكن هناك مساحة للجدل والأخذ والرد، فقد أعلن الزائر منذ البداية أنه «لواء» وقضى على احتمالات انشغال المدير قبل أن ينطق بها السكرتير، كما ألزم المنتظرين مقاعدهم صامتين. المشهد الثالث كان لطابور طويل داخل مصلحة الشهر العقارى، اصطفّ فيه أشخاصٌ مِن مُختلف الأعمار، وفى ذروة الملل والضيق وسخافة الانتظار، تخطّى شاب فارع القامة يرتدى الزىّ الرسمىّ الواقفين جميعهم، ومدَّ يده بالأوراق إلى الموظف القابع على بعد ذراع، دون أن يعبأ بالهمهمات المتصاعدة التى راحت تستعلم عن رتبته فى استياء: «ده ملازم وللا إيه؟». المشهد الأخير لصبىّ لا يزيد عمره عن سنوات عشر، أصرّ على دخول صالة استقبال خاصة فى نادٍ رياضىّ قديم، هذه الصالة لا يُسمَحُ بدخولها سوى للأعضاء العاملين. استوقفه الحارس الكهل فأبى التَمَهُّل وصاح فى وجهه: «أنا بابايا الظابط (...)».

•••

دهمتنى المشاهد الأربعة ــ على ألفتهاــ واحدا تلو الآخر حين اضطُرِرت على غير موعد، ودون نية مُبَيّتة، إلى الوقوف بباب إحدى المنشآت التعليمية، وقبل أن أشرح وأفسر أسباب احتياجى إلى مقابلة المدير، عاجلنى المسئول عن مكتبه: «المدير مش بيقابل حد». تخيلت للحظة ولجت فيها عالم اللامعقول أننى أصرخ فى وجه السكرتير برتبة ما، فينفتح الباب وتزول العقبات ويُجاب مقصدى فورا، غير أن شيئا مِن هذا لم يحدث بالطبع.
تذَكّرت أن السلوكَ الصادر عن الضباط الثلاثة فى المشاهد السابقة لم يكن مَحَلَّ ترحيب، مع ذلك أفلحوا فى إنجاز مآربهم مِن خلاله، ولم يكن بين تلك المآرب فيما بدا، ما يتعلق بأداء أعمال رسمية كُلِّفوا بها. تراوح رد فعل الآخرين ما بين الاستياء والتأفف والسخرية وربما الغضب، وكان ردّ الفعل الذى صدر عن حارس النادى الأكثر حدّة، وقد عكس مقدار استفزاز الصبىّ له، إذ علا صوته قائلا: «إن شالله تكون ابن مين». سمعته وقد جلست فى نهاية الصالة وتساءلت إن كانت هذه الشجاعة سوف تستمر إذا استدعى الصبىّ أباه «الضابط». حاولت أيضا أن أتخيل ما سوف يفعله الأب إن كان هكذا يتصرف الابن.

•••

تأتى كلمة «ضابط» مِن الضبط، والضابط فى لسان العرب هو الحازم وهو أيضا القوىّ على عمله، وضَبْط الشىء يعنى حفظه بالحزم. تبدو الكلمة منذ آونة بعيدة مُنفصلة عن معناها اللغوىّ حتى لتترك وقعا شديد الاختلاف عما يُراد بها فى نفوسِ السامعين. يتم اختراق القوانين فيُبرّر الناسُ: أصله ضابط، ويتعامل أحدهم بصلفٍ واستعلاءٍ فيتغامز الناس: أصل قريبه ضابط، ويُمارس شخصٌ عنفا غير مقبول تجاه آخر فيفسرون سلوكه بكونه ضابطا. قد لا يحقِّق الضابطُ فى كثير من الأحوال ضبطا وربطا وتنظيما على المستوى العام، لكنه كثيرا ما ينجح فى تحقيقِ مصالحٍ أخرى على المستوى الخاص.
فيما مضى كان مرأى الشرطىّ أو الضابط مِن خلال الأعمال الفنية يثير مشاعر واستنتاجات مُحَدّدة لدى جمهور المتفرجين، وقد بات بمرور الوقت يُثير نقيضها. إذا ظهر عسكرى الدرك فى أفلام الأبيض والأسود القديمة ــ على سبيل المثال ــ كان ظهوره الدرامىّ نذيرَ خطرٍ على المجرم، وتمهيدا لانتصار الخير وتحقيق العدل والانتصاف للمظلوم، واليوم إذا ظهر أمين الشرطة فى حلقات مسلسل أو فيلم سينمائىّ، توقع المشاهدون مأساة تلحق بزمرة الطيبين، ودعما يناله الأشرار مِن حيث لا يحتسبُ أحد، و لا يُعزى هذا التغير إلى سوءِ خُلُق الفنانين والمبدعين على ما أظن، إذ هو ترجمة تلقائية لبعض مما يجرى على أرض الواقع، فى مرات كثيرة يصبح ظهور «الضابط» إيذانا بالدعاء إلى الله للنجاة مِن شرٍّ مُحَدقٍ، أو يصبح علامة على ضياع الحق من صاحبه، أو على إهانة وشيكة لآشخاص لا يبادرون بتقديم فروض الطاعة والاستكانة.

•••

لا يزال المواطنون أمام الدولة طبقات، وطبقة الضُبّاط بوجه عام تمِنّ على الطبقات الأخرى بالاحترام حين تشاء، وتحرمها منه حين تشاء، وترى التساوى فى المعاملات والحقوق ميزة لا يجب أن تستقر، فللأعلى أن يُسبِغَها على الأدنى، وله أن ينتزعها منه، ويساعد على ترسيخ هذه الحال الظرف العام الذى يجعل مِن طرفٍ بطلا مُضحّيا يجابه الموت على مدى الساعة، ومِن الآخر غرا ضعيفا يَتَوَسَّلُ الحماية والأمان. ثنائية الضابط والمواطن: الأعلى قدرا والأحطّ شأنا تتفاقم دون مراجعة ولا رقيب، والصبىّ الذى هَدَّد الكهل منذ أسابيع مضت سوف يصير بعد سنوات، تمُرُّ سريعا ودون جهد كبير؛ أحد الفاسدين.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات